الموشحات … شعر يحلق بأجنحة الغناء

واستمر ازدهار الموشحات فى الأندلس لمدة خمسة قرون إلى وقت سقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري عام 897هـ ، أى فى القرن الخامس عشر الميلادى ، عام 1492م ، لكنها كانت قد انتقلت من قبل سقوط غرناطة إلى سائر البلاد العربية كالمغرب العربى ومصر والشام من ناحية

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/14 الساعة 04:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/14 الساعة 04:16 بتوقيت غرينتش

ما الموشح؟
ظاهرة أدبية قلَّ نظيرها، جاء جيل جديد من الشعراء، نما وترعرع في أجواء الترف ومجالس الطرب، فلم يتقيدوا بأوزان وبحور الشعر التقليدي.
بل تنقلوا في القصيدة الواحدة بين بحور الشعر وقوافيه وأوزانه، وظهر هذا الشعر غير التقليدي في مجالس اللهو والطرب، فتداخل فن الغناء مع هذه الألوان، وأعطاها الذوق السمعي والحس الإيقاعي فكان الموشح نوعاً من الغناء الجماعي المميز.

فن أنيق من فنون الشعر العربي، وهو في اعتماده على أكثر من وزن وقافية مع التنويع العروضي هو أقرب إلى التوزيع الموسيقي؛ حيث تكون الموشحة الأدبية أقرب إلى قطعة موسيقية.

وبهذا اختلف الموشح عن القصيدة؛ لأن القصيدة تغنى مرسلة حرة لا إيقاع لها، فضلا عن بحرها الواحد وقافيتها الموحدة، وبذلك أصبحت الموشحة صالحة لأن تُغنى، كما أنها تتيح للمغنِّي ترديد أنغامه وترقيق صوته وتنويع ألحانه.

ويعتقد أن كلمة "الموشحة" تعود إلى اللفظة السريانية "موشحتا" بمعنى "إيقاع"، كما يعتقد أن الموشحات ظهرت في المشرق العربي وتأثرت بشدة بالموسيقى الكنسية السريانية حتى أن الردات في أقدم الموشحات كانت تحوي ألفاظا سريانية.

بينما يقول رأي آخر إن مخترع الموشحات في الأندلس كان شاعراً من شعراء فترة الأمير عبدالله اسمه مقدم بن معافى القبرى. وقد جاء في بعض نسخ كتاب الذخيرة لابن بسام أن مخترع الموشحات اسمه محمد بن محمود.

والمرجح أن مخترع هذا النوع الشعري هو مقدم بن معافر وهو رأي أكثر الباحثين. ويقول ابن خلدون: "كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافى القبري من شعراء الأمير عبدالله بن محمد المرواني وأخذ عنه أبوعمر أحمد بن عبدربه صاحب العقد الفريد".

ويعرف ابن سناء الملك الموشح فيقول: كلام منظوم على وزن مخصوص. وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له التام، وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات يقال له الأقرع.

فالتام ما ابْتدئ فيه بالأقفال، والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات. وسمي بالموشح تشبيها له بوشاح المرأة المرصَع باللؤلؤ والجوهر لكثرة ما فيه من الصنعة والترصيع والتزيين.

لغة: اشتق اسم الموشح من الوشاح وهو رداء موشى بالزخارف أو مرصع بالجواهر، والمراد بالتسمية إضافة تغييرات على شكل القصيدة التقليدية.

نظماً: تختلف الموشحات عن القصائد بتنوع الأوزان والقوافي، وفي إشارة لاختلاف الموشح عن القصائد وصفه الشاعر ابن سناء الملك بأنه كلام منظوم على وزن مخصوص، وهي تجمع عادة خليطاً بين الفصحى والعامية.

لحناً: يتبع اللحن النظم بحيث يمكن أن تتعدد ضروبه وأوزانه، وربما يسبق وضع اللحن نظم الكلمات فتصاغ على لحن موضوع سلفاً.

أجزاء الموشح

اتخذ الموشح في بنائه شكلاً خاصّاً، بحيث أصبح يشتمل على أجزاء بعينها في نطاق مسميات، اصطلح المشتغلون بفن التوشيح عليها، وهي المطلع أو المذهب، والدور، والسمط، والقفل، والبيت، والغصن، والخرج.

خصائص الموشحات

بالإضافة إلى الجمع بين الفصحى والعامية تميزت الموشحات بتحرير الوزن والقافية وتوشيح، أي ترصيع، أبياتها بفنون صناعة النظم المختلفة من تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافٍ جديدة تكسر ملل القصائد.

وتبع ذلك أن تلحينها جاء أيضاً مغايراً لتلحين القصيدة، فاللحن ينطوي على تغيرات الهدف منها الإكثار من التشكيل والتلوين، ويمكن تلحين الموشح على أي وزن موسيقي لكن عرفت لها موازين خاصة غير معتادة في القصائد وأشكال الغناء الآخر.

واستمر ازدهار الموشحات في الأندلس لمدة خمسة قرون إلى وقت سقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري عام 897هـ، أي في القرن الخامس عشر الميلادي، عام 1492م، لكنها كانت قد انتقلت من قبل سقوط غرناطة إلى سائر البلاد العربية كالمغرب العربي ومصر والشام من ناحية، ووصلت أصداؤها بلاد أوروبا في بدايات عصر النهضة.

أغراض شعر الموشح

تنوعت الأغراض التي استخدمتها الموشحات بين الغزل، والوصف (وصف المناظر الطبيعية)، والهجاء، والفخر، وشكوى الزمن، والزهد.
أنواع الموشحات من حيث أوزان الملحن عليها
الكار: وهو الذي يبدأ بالترنم ويكون على إيقاع كبير كموشح "برزت شمس الكمال" لأبي خليل القباني.
الكار الناطق: وهو الذي يكون ملحناً على إيقاعات متوسطة مع تورية في الشعر باسم المقامات كموشح "غنّت سليمي في الحجاز وأطربت أهل العراق".

النقش: وهو ما يكون ملحناً من ثلاثة إيقاعات إلى خمسة غير محددة كموشح "نبّه الندمان صاح".
الزنجبير العربي: وهو الذي يكون ملحنا من خمسة إيقاعات غير محددة مثل موسيقى نقش الظرافا.

الزنجبير التركي:
وهو الذي يكون ملحنا من خمسة إيقاعات محددة وهي: 16/4 و20/4 و24/4 و28/4 و32/4
الضربان: وهو الذي يتألف من إيقاعين غير محددين، فيكون الدور من إيقاع والخانة من إيقاع آخر كموشح "ريم الغاب ناداني" لنديم الدرويش.
المألوف: ويتألف من دورين وخانة وغطاء ويسمى سلسلة وهو من إيقاع واحد.

القد: القد نوع من أنواع الموشح، ومن إيقاع صغير كالوحدة وأوله يبدأ كمذهب يردده المغنون، وأول ما لحن هذا اللون سمي بالموشحات الصغيرة ولا يجوز أن نطلق عليه اسم أغنية بل نقول "قد"، وجمعه قدود وكلمة قد كلمة حلبية تعني "شيء بقد شيء" أي على نفس القدر.
وانتشرت القدود من مدينة حلب وهي بالأصل أناشيد دينية في مدح الله، تم تحويل كلمات المد الإلهية بكلمات غزل، فجاء الكلام الغزلي بقد الكلام الديني، لذلك سمي بالقد.

ومن أروع ما غني في ذلك موشح في حب بيت الله الحرام:

حرمت بك نعاسي *** يا مولاة الريام
وبحت بك باسي *** وصرت لك غلام
يا جملة الحبايب *** راني مازلت غريب
حبي عملها بيا *** ورماني للقفار
نتوحش الحبايب *** خوفي من الرقيب
ويمسى قلبي ذايب *** من شدة اللهيب.
حين تصفر العشية *** نتوحش الديار
يا ربي توب عليا *** وابعد عني الغيار


أنواع الموشحات:

الموشحات الأندلسية

بدأت الموشحات في الأندلس منذ القرن الرابع الهجري ولا زالت تغنى كأغان للمجموعة في المغرب حتى الآن ومن بين الموشحات المغناة في الجزائر:

قم ترى دراهم اللوز *** تندفق عن كل جهة
ذابت تلقح أوراق الجوز *** والندى كبب عليها
والنسيم أسقطها في الحوز *** أتى بشير الخير إليها
يا نديم هيا للبستان *** ننعم في الدنيا ساعة
والرياض يعجبني ألوان *** ما احسن فصل الخلاعة
وما يلاحظ في هذه المقطوعة سهولة العبارات الممزوجة بالعامية.

موشح أيها الساقي لابن زهر

وهو من الموشحات الذائعة الصيت والبالغة الدقة والتصوير، موشحة أبي بكر ابن زهر وهو حفيد أبي مروان عبدالملك ابن زهر، وكانت وفاته سنة 1119م، وتعتبر نموذجاً في الموشحات التامة، يقول ابن الزهر:

أيها الساقي اليك المشتكى ** قــد دعونـــاك وإن لــم تسمع
ونديــم همــت في غرتــــه
وبشرب الــراح مـــن راحته
كلما استيقظ من سكرتـــه
جـــذب الــزق اليه واتكـــى ** وسقاني اربعـــاً فــي اربــع

***
ما لعيني عشيت بالنظــــر
أنــــكرت بعــدك ضوء القمر
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيني من طول البكا ** وبكى بعضي على بعضي معي
***
غصن بـــان مـــال من حيث استوى
بـــات مــن يهـــواه مـــن فرط الجـوى
خفق الاحشاء مــوهـــون القـــوى
كلما فكر في البين بكـــى ** ويحـــه يبــــكي لمـــا لم يـــقــــعِ
***
ليس لي صبر ولا لي جــــلــــدُ
يـــا لقــومي عــذلــوا واجتهدوا
أنـــكروا شكواي مما أجـــــدُ
مثل حــالي حقـــها أن تشتكي ** كمـــد اليــأس وذل الطمعِ

***
كبدي حـــري ودمعـــي يكـــــفُ
تعــــرف الذنــــب ولا تعترفُ
أيـــها المعــــرض عــما اصــفُ
قـــد نمــــا حبي بقلبي وزكـــا ** لا تــــخــل في الحب أنـــي مــدعي

وهذه الموشحة نسبت في بعض الأحايين لعبد الله بن المعتز (المتوفى 295 هـ) وهو شاعر عباسي لا علاقة له بالأندلس.

الموشحات الحلبية: ترجع نسبة الحلبية إلى حلب التي لاتزال سيدة الموشحات منذ انتقل إليها هذا الفن من غرناطة في الأندلس، وقد اتبع الوشاحون الحلبيون في الموشحات الأندلسية طريقة غنائها وليس طريقة نظمها، فقطعوا الإيقاع الغنائي على الموشحات الشعرية وعلى الموشحات الأخرى التي لا تخضع لبحور الشعر ثم طبقوا اسلوب الاندلسيين في تلحينها.
ومن اجمل الموشحات الحلبية موشح (لو كنت تدري ما الحب يفعل ):

لو كنت تدري .. ما الحب يفعل
بالوصل يوما ما كنت تبخل
ظبي كحيل حلو المحيا
الغصن منه ان ماس يخجل
يا من هواه أضنى فؤادي
كالبدر انت بل أنت اجمل
شرب الحميا منكم حلالي
قم يا نديمي نشرب ونثمل
ما لي سواكم روحي فداكم
دوما رضاكم روالله أسأل
ان كان حبي يقضي بقتلي سلمت أمري لله فأفعل

وعندما نتحدث عن الموشح المشرقي لابد من ذكر القدود الحلبية التي اقترن صيتها بالموشح وقد يعتبرها البعض هي الموشح ومن اشهر المغنين في هذا النوع هو الفنان المتميز صباح فخري ومن اجمل ما غنيّ من القدود ( صيد العصاري ياسمك بني… تلعب بالمية ولعبك يعجبني.. ثم سكابا يا دموع العين سكابا.. ويا مال الشام والله يا مالي).

إن الملاحظ في غناء القدود الحلبية أنها لم تغنّ بأصوات نسائية إلا ما ندر، وقد يعود سبب هذا الى ان المجتمع الحلبي مجتمع عرف بتقاليد متشددة فلا يستساغ هذا النوع من الغناء بأصوات نسائية.

الموشحات المصرية

انتقلت الموشحات إلى مصر عن طريق الفنان شاكر أفندي الحلبي في عام 1840 الذي قام بتلقين أصولها وضروبها لعدد من الفنانين المصريين الذين حفظوها بدورهم وأورثوها لمن جاء بعدهم وأبرز من اهتم في الموشحات من مصر الفنانون محمد عثمان وعبده الحامولي وسلامة حجازي.

الموشحات الدينية

اعتمد المنشدون والوشاحون في أغانيهم الدينية على ما تعلموه من القرآن الكريم، ولم تكن الموشحات معروفة في البداية، فبين الحين والآخر كانت تظهر مقطوعة في مديح النبي عليه الصلاة والسلام، أو مناجاة لله سبحانه وتعالى، حتى بداية العصر الفاطمي في مصر واتجه الفاطميون إلى الاهتمام بالاحتفالات والمناسبات الدينية، التي كانت مجالا واسعا تسابق فيه الشعراء والمنشدون في وضع الموشحات الدينية، التي كانت تؤدي في المناسبات.

الموشحات ونظريات التأصيل

كثرت الاقوال حول اصل الموشحات ونشأتها إلا أن هذه الأقوال جميعها تظهر وجود أثر التنوع الثقافي الذي شهدته الأندلس ونجد أثر التنوع الثقافي في نشأة الموشحات يظهر في القول: إن التوشيح "لا هو عربي مشرقي خالص.
ولا هو إسباني غربي محض، إنه هجين يحمل في جيناته وفي أعماقه تراث أجداده من العرب المسلمين، ومن القوط والأيبيرين النصارى، وكان لهذا الامتزاج أثر عميق في تكوين الشخصية الأندلسية لا من حيث الصفات الجسمانية فحسب بل في الصفات العقلية والنفسية أيضاً".
وذلك الرأي ينسحب على الأزجال كما ذهب بعض الدارسين "يلتقي الزجل مع الموشحات في أنه مثلها من فنون الشعر التي استحدثها الأندلسيون".

الأصول المشرقية

ذهب إلى القول بالأصل المشرقي لنشأة الموشحات، و"أنها تطور لما حصل في بغداد من تجديدات ثقافية في مجال الشعر سواء على مستوى القافية، أو الوزن، أو عدد أبيات القصيدة أو لغتها، أو غير ذلك.

واعتبر بعضهم "أن الغناء المشرقي كان سبباً مهماً في ظهور الموشح بالأندلس، وأن للثورة العروضية في بغداد تأثيراً كبيراً في مجال الفن الغنائي، ورافق هذه الآراء حشد لعدد من الأراجيز، والمسمطات، والمربعات، والمخمسات، وغيرها من الأشكال التي اعتبروها النواة التي انبثق منها الموشح.

الأصول الأندلسية

وهو ما قال به كثير من الدارسين، من القدماء، والمحدثين، وبعض المستشرقين، فنظروا إلى الموشحات على أنها نتاج بيئي خاص، وأدب أندلسي خالص جاء نتيجة للتمازج الحضاري والثقافي الذي وُجِد مع وجود حضارة جديدة، ونجد هذا الرأي عند ابن بسام في الذخيرة، وعند المقّري في نفح الطيب، وابن خلدون في مقدمته.

الأصول الإسبانية

ذهب أصحاب هذا الاتجاه لإسناد الفضل كله في نشأة الموشحات إلى التراث الإسباني الذي وجده العرب الفاتحون هناك، واستند أصحاب هذا الرأي إلى عدة مقومات طرحها بعض المستشرقين، وأبرز ما استند إليه أصحاب هذا الاتجاه القول بنظرية التأثر.

بمعنى أن الأقلية تتبع الأغلبية وتتأثر بها، وهنا يستدل بقلة العنصر العربي قياساً إلى سكان البلاد الأصليين، مما يعني أنهم "تكاد دماؤهم العربية تذوب في دماء الأسبان"، يضاف إلى ذلك أن كثيراً من العرب والمسلمين تزوجوا نساء جليقيات أو أسبانيات.

فكنّ يرددن أغنيات بلغتهنّ الأصلية وهنّ يهدهدن أطفالهنّ أو يلاعبنهم، ثم إن كثيراً من الجواري والمربيات والحاضنات الأجنبيات كنّ يخدمن في بيوت العرب والمسلمين، وأنهنّ يحملن شيئاً من تراثهنّ بلهجاتهنّ الأصلية من جليقية، أو لاتينية، أو رومانثية، فكانت هذه الأصول التي نشأ منها الموشحات.

واعتمد كثير من أصحاب هذا الرأي وفي مقدمتهم المستشرق الإسباني" خوليان ربيرا" على الخرجة في إثبات نظرية الأصل الإسباني بعد أن وُجِدت خرجات بلغة أعجمية إسبانية، فقرروا أن تلك الخرجات الأعجمية ما هي إلا بقايا أغنيات إسبانية كانت شائعة في أوساط المجتمع الإسباني، معززين رأيهم بأن مضامين تلك الخرجات وما تعبّر عنه تقاليد اجتماعية غربية كان يتسم بها المجتمع الإسباني قبل دخول المسلمين.

ومن أبرز هذه التقاليد التي ذكروها أن الخرجة غالبا ما تكون على لسان السكارى والصبيان أو فتاة تشكو الحب لأمها أو صديقاتها وتتذكر حبيبها، واستند بعض أصحاب هذه النظرية لما أورده ابن بسام في حديثه عن الوشاح الأول -القبري- قائلاً: "كان يصنعها على أشطار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركر يصنع عليه الموشحة دون تضمين ولا أغصان.

أغاني الجوغلار

و"الجوغلاير" في الأصل هم جماعة المغنين الذين ينتمون في الغالب إلى الطبقات الاجتماعية المتوسطة و الفقيرة و يتكسبون بفنهم، و كانوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى أخرى يرددون أغانيهم الشعبية، ورقصاتهم، وألعابهم السحرية مقابل ما يقتاتون به، و هم أقرب ما يكونون إلى الغجر في أيامنا هذه.

وبعد، فلقد استمر فن الموشحات على أرض الأندلس زهاء خمسة قرون، وكان آخرها سنة 898 هـ بانتهاء الهيمنة الإسلامية على آخر مدينة أندلسية في غرناطة، وهكذا يقدر لأصداء الموشحات أن ترتحل بعيدا عن أجواء الحمراء وغرناطة، كما ارتحلت من قبل عن قرطبة وأشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الأندلس.

ومن الواضح أن ظهور الموشحات رافق عصور الانحطاط والضعف والتمزق والهوان ولم تكن مجالسها مجالس أدب جاد، ولكن كانت مجالس للهو والغناء والرقص، فتنضم بذلك إلى العناصر التي ساهمت في سقوط دولة الإسلام وزوال ملك المسلمين في الأندلس.

ففي لحظات انهيار أي أمة فإنها تبدأ تأخذ بزخرف الحياة وفتنتها ومباهجها لتخدع وتخدر بها. إنها تبدأ تأخذ بالرقص وساحات اللهو والغناء، وشهوات الجنس المتفلت، ثم تبدأ تتنازل عن مقومات وجودها، وذخائر تراثها، وعبقريات تاريخها، مشدودة إلى زخرف كاذب عابر، وإغراء التبديل، في حمى التيه، وحميا السكر، ودبيب الخَدر، حتى تأتي اللحظة الحاسمة، فتتلقى الضربة القاضية، ثم تهوي إلى الأرض، ثم يمر عليها التاريخ ليجعلها ذكرى. هذه سنة من سنن الله، لترى صدق ما نقول.

ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي ينمو الانحراف ويمضي بالأمة إلى السقوط. فانظر مصير الدولة العباسية وكيف تطورت الفتن فيها، وانتشر الغناء والرقص والخمر، والجواري والملاهي، حتى جاءتها الضربة المبكية العنيفة من التتر، يغذيها عناصر من قلب الخلافة.. فما أشبه اليوم بالبارحة، إنها سنن لله ثابتة ماضية.

هذا هو التاريخ أمامنا يعرض علينا سنن الله الثابتة التي تجري على الخلق كلهم، كما يعرضها كتاب الله وهو يضرب لنا الأمثال. وهذا هو الواقع يحمل أمثلة وأمثلة!
فهل من يعتبر؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد