لا يمثل الرقص لغة للجسد فحسب بل للروح أيضا، إذ تقول الراقصة والمصممة الرائدة "روث سانت دينس" إن الرقص هو أداة الإنسان كي يصبح جزءاً من إيقاع الكون، ولذلك اكتشفه الإنسان قبل أن يعرف كيف يتكلم ويخاطب الآخرين. فهو يشعر أنه كائن طليق في عالم متناهي العمق والجمال من خلال حركة زاخرة بالإيحاء والحيوية والبهجة..
إن الرقص ليس مجرد تحريك لأعضاء الجسد في اتجاهات معينة، بل هو لغة للأحاسيس والعواطف والمشاعر بل الأفكار أيضاً.
ولا غرو أن يقول مولانا جلال الدين الرومي "من يعرف الرقص يحيا في ذات الله". قطعا لا يقصد الرقص المبتذل بل يتحدث عن ذاك الذي يرقى بصاحبه إلى مقامات العارفين بالله الشاربين من نبع الخمرة الصوفية.
ربما كان يقصد رقصة الدراويش التي تحمل أكثر من رسالة وتغدق على مؤديها ورائيها على حد سواء فيضا من المحفزات التي تدفعه للتحرك وفق ذات ميزان الحركات..
تلك الرقصة كانت واحدة من الرقصات التي عشقتها في مراهقتي.. قبل أن أفكر في تعلم الرقص.. رغم أنني لم أكن أملك الجسد المثالي.. لكنني تعلمت أبجديات رقصة الباليه.. فبدأت ألتصق أكثر بالرقص من خلال دلالة كل حركة معينة.. فهمت جيدا أن الرقص فن لا يمكن أن يموت، إنما سيظل دائم التجدد لا بوصفه فنا فحسب بل باعتباره عادة اجتماعية يتجدد بعثها من روح الشعب.. إنه الفن الذي تنظم فيه الشعر بيديك ورجليك كما يقول بودلير.
ورغم أنني كنت خجولة جدا أمام معلمي، إلا أنه نجح في أن يروضني ليجعلني أستعرض ما علمني إياه في حفل نهاية السنة الدراسية وفي بعض التظاهرات الوطنية.
بالموازاة مع ذلك ارتبط عندي الرقص بالفرح والحزن على حد سواء.. كان بالنسبة إلي بمثابة ترويض للنفس وتفريغ كل الشحنات الإيجابية أو السلبية.. يمكن أن أقول إنه ساعدني في تجاوز مطبات كثيرة في تعويض فراغ أسري.. في وحدة وسط الكل.. كنت أهرب إلى الرقص كالباحث عن صدر حنون يحتويه.. لم أكن أرقص تحت أضواء كثيرة ولا موسيقى صاخبة، بل كانت طقوسي مختلفة تجعلني أمام شخصية أخرى، حيث أفضل أن أرقص في الظلام على إيقاعات صامتة.. أغمض عينيَّ وأستسلم وكأن يدا كانت تمتد لتحركني في كل الاتجاهات. أتلوى وأنبطح أرضا.. أطلق يديَّ كالطائر الذي يتأهب للإقلاع.. تتدافع داخلي تفاصيل كثيرة.. أخرق قواعد الأبجديات التي تعلمتها.. وعوض الرقص على مقدمة أصابع قدمي أمكنهما من الأرض جيدا.. كانت الحصص عندي تتفاوت حسب مستوى معنوياتي وحالتي النفسية.. نادرا ما كنت أرقص والغرفة مضاءة.. كنت حينها أتحاشى النظر إلى المرآة التي كانت تعكسني والصمت مطبق.. وأفضل رقصاتي تلك التي كانت قبالة البحر مغيبا..
في المراحل الجامعية تقوت علاقتي بالرقص من خلال المسرح الجامعي.. أديت بعض الأدوار الميمية التي تعتمد أساسا على تعابير الجسد.. كنت أتقمص الدور غالبا بعد إخفاء وجهي بالكثير من المساحيق التي كان يتطلبها الدور والتي كانت تريحني أيضا وترفع عني الحرج أمام الملأ.
في أحايين كثيرة رقصت كالديك المذبوح.. رقصت ألما.. ربما كنت أشبه حينها راقصة الأفعى التي عليها أن تكسب رهان مقارعة الكوبرا بالحركات دون أن تجعلها تتمكن من أن تسقيها السم الزعاف..
واليوم كل يرقص على الحبل الذي يرضيه وتهوى نفسه..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.