تمثل أغاني رمضان القديمة أحد أبرز طقوس شهر رمضان الشعبية التي يحتفل بها الصغار والكبار فرحاً بقدوم الشهر الكريم.
في مصر مثلاً؛ من لم يسمع المحال والبيوت تشغّل أغاني "رمضان جانا"، أو "وحوي يا وحوي"، وفي لبنان من لا يحب أغاني رمضاني ووطنية في الآن ذاته مثل "علو البيارق"؟ أو وصلات الموسيقى الأندلسية الهادئة في دول المغرب العربي؟
نعرف هذه الأغاني؛ لكن هل نعرف قصصها؟ قصص الفشل أو الصدفة الغريبة التي جعلت من أغاني رمضان هذه خالدة منذ زمن جيل أجدادنا وآبائنا ويورّثها جيل للآخر؟
أشهر أغاني رمضان القديمة
"وحوي يا وحوي"
"وحوي يا وحوي.. إياحة.. وكمان وحوي.. إياحة"
صحيح قد تبدو كلمات الأغنية غريبة لغير المصريين، أو حتى للمصريين!
كلمات الأغنية لها أصل فرعوني؛ إذ قال الباحث في تاريخ مصر القديمة وسيم السيسي، إن الفراعنة رددوا "وحوي يا وحوي إيوحا" أثناء انتظارهم للقمر يهل ليبدأوا الصيام، الذي كان متعارفاً عليه في الحضارة الفرعونية باسم "صاو" الذي يقصد بها "يمتنع".
إذ شرح في لقاء تلفزيوني سابق أن "وح" يعني لاح أو ظهر، أما "وي" فهي أداة نداء، أما "يوحا" فهو ملاك القمر، وتعني الكلمة كاملةً: "اظهر أيها القمر".
بينما تحدثت صحف مصرية عن رواية أخرى فرعونية أيضاً، وتقول إن إياحة هو لقب الملكة الفرعونية "إياح حتب"، زوجة أمير طيبة، أواخر القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
الدولة الفرعونية أصبحت مطمعاً للهكسوس في حقبتها، وشجعت "إياح حتب" زوجها على مواجهتهم، فقُتل، ثم شجعت ابنها الأكبر "كامس" ولحق بأبيه. لكن كانت نهاية تشجيعها ابنها الثاني "أحمس" مختلفة، حيث انتصر على الهكسوس، وحينها استقبلته أمه بهذه الكلمات التي يقول معناها "مرحبا وأهلاً يا قمر".
لكن هناك روايات أخرى تربطها بالعصر الفاطمي، وذلك لتشابهها مع أغنية تراثية تقول: "أحوي أحوي إياها، بنت السلطان إياها، لابسة القفطان إياها". فيما يذهب المؤلف والناقد الفني المصري عمار الشريعي لتفسير الكلمة لأصل عربي وهو "احتوى" أو "امتلك".
"وحوي يا وحوي" اشتهرت بصوت المغني والملحن المصري أحمد عبد القادر، وكان يميل أكثر إلى الأصل الفرعوني. حتى إنه قال في حوار مع مجلة "الكواكب" نشر عام 1982 إن كلمة "وحوي" كلمة فرعونية تعني "يا فرحتي"، أما كلمة "إيوح" فتعني "القمر" وحُرّفت إلى "إياحة" لكي تناسب لحن الأغنية.
إطلاق الأغنية في الإذاعة المصرية جاء خلال فقرة لا تتجاوز الـ15 دقيقة، حيث كانت الإذاعة تعهد لأحد المطربين لتقديم 3 أغنيات في الفقرة. اختير عبد القادر الذي كان من كبار الملحنين الذين تعتمد عليهم الإذاعة ليقدم فقرة فنية، ليختار "وحوي يا وحوي" لتكون إحدى الأغاني التي يقدمها.
"المطرب الذى تعهد إليه الإذاعة بربع ساعة يقدم خلالها ثلاث أغنيات يحصل على 125 جنيهاً، تشمل أجر التأليف والتلحين والمطربين الذين يستعين بهم والفرقة الموسيقية والكورال، ويوفر أجره مما يتبقى من هذا المبلغ الذي كان يعتبر مبلغاً كبيراً في هذا الوقت"- الإذاعي وجدي الحكيم
الكلمات الفلكلورية اقتبسها الشاعر حسين حلمي المانسترلي، الذي كان يعمل بوزارة المعارف، فيما لحّن الأغنية الرمضانية الموسيقار أحمد الشريف.
"رمضان جانا"
"رمضان جانا.. وفرحنا به، بعد غيابه.. أهلاً رمضان"
عاشت أغنية المطرب المصري الراحل محمد عبد المطلب أكثر من نصف قرن، رغم أنه لم يكن أول مَن غنّاها.
الأغنية غنَّاها في البداية الممثل محمد شوقي، بتلحين سيد مصطفى، ولكن لم تحقق النجاح المطلوب، لذلك فكّر مؤلفها الشاعر حسين طنطاوي في إعادة توزيعها، واستعان بالموسيقار محمود الشريف، طلبوا من أحمد عبد القادر غناءها بعد نجاح أغنيته "وحوي يا وحوي"، لكنه رفض.
هنا طلب الملحن الجديد من صديقه عبد المطلب غناء "رمضان جانا"، وقد قبِل ذلك فقط لأنه كان محتاجاً للأجر الذي سيتلقاه منها، إذ تزامن ذلك مع فترة الكساد التي تلت الحرب العالمية الثانية، وكانت ظروفه المادية صعبة في تلك الأوقات.
"ناس كتير اغتنت (أصبحت غنية) وقت الحرب العالمية الثانية لكن أنا ماغتنتش، بالعكس، مكنتش بشتغل، لأن نفسية الإنسان ما تساعدهوش على الشغل في وقت زي دا"- محمد عبد المطلب
الأغنية كلف إنتاجها 20 جنيهاً فقط، 6 منها كانت أجر عبد المطلب، و5 جنيهات من نصيب صديقه الملحن، والباقي تلقته الفرقة الموسيقية. صحيح أن الأرقام قليلة بالنسبة لنا، لكن كان ذلك رقماً متوسطاً لإنتاج أغنية في حينه.
أذيعت الأغنية في 2 سبتمبر/أيلول عام 1943، قبل أن تذاع للمرة الأولى عبر التلفزيون المصري في 1960. حينها صوّر عبد المطلب صوتاً وصورة، كانت الأولى بالأبيض والأسود، وظهر فيها عبد المطلب بالجلباب الفلاحي، وخلفه فتيات يرتدين ملابس ريفية ويحملن الفوانيس.
ثم صورت مرة ثانية بالمشاهد الملونة (في العام 1981)، وشملت حينها مظاهر الاحتفال برمضان من الشارع المصري، وصورت خلال 3 أيام فقط، لتصبح رغم بساطة التكلفة خالدة حتى الآن بكونها واحدة من أشهر أغاني رمضان القديمة.
"مولاي إني ببابك"
"مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي مَن لي ألوذُ به إلَّاك يا سَندي؟"
سَمّه ما شئت: ابتهال، دعاء، موشح، نشيد، أغنية دينية، قد نختلف على هذا، لكن بالتأكيد نتفق أن "مولاي إني ببابك" من أشهر الأعمال التي ترتبط في أذهاننا برمضان وحتى المناسبات الدينية المختلفة.
جمع الابتهال الشيخ المصري سيد النقشبندي، ومواطنه الملحن بليغ حمدي، بفضل الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
إذ دُعي النقشبندي- عرف السادات قبل أن يصبح الأخير رئيساً للجمهورية- إلى حفل خِطبة إحدى بنات السادات، حيث كان حمدي حاضراً أيضاً، وهناك قال السادات للموسيقار الشهير: "أريد أن أسمعك مع النقشبندي"، وكلف الإعلامي وجدي الحكيم بتوفير استوديو الإذاعة لهمها لإنتاج هذا العمل.
بليغ حمدي، الذي لم يسبق له المشاركة في إنتاج عمل فني من قبل، أبدى استغرابه من طلب السادات، لكنه وعد النقشبندي بتقديم "لحن يعيش 100 سنة"، ويبدو أنه أَوْفى بذلك.
أما النقشبندي فلم يحبذ ذلك في بادئ الأمر، واعتقد أن اللحن يُفسد من هيبة الابتهالات ويُفقدها الخشوع، لكنه وافق في النهاية على استحياء.
الحكيم قال إن النقشبندي اتفق معه على إشارة يفهمها دون أن يتحدث أمام بليغ، وكانت: إن أعجبته ألحان بليغ حمدي أثناء جلستهما الثنائية سيخلع عمامته، إن لم تعجبه سيُبقي عليها، دخل الحكيم بعد نصف ساعة ووجد النقشبندي قد خلع العمامة وجبّته التي يرتديها فوق القفطان، ففهم أن ألحان حمدي قد أعجبته.
واللافت أن الأعمال المشتركة بين بليغ حمدي والنقشبندي استمرت بعد ذلك؛ إذ لحن بليغ حمدي للنقشبندي 5 أعمال أخرى. ولم يتقاضَ الاثنان أجراً على موشحاتهما التي قدَّماها للإذاعة المصرية، رغم حالة النجاح التي صنعتها.
"علّوا البيارق"
"علّوا البيارق علّوها وغنّوا للعيد.. ضوّوا الشوارع خلّوها تغني من جديد"
من أشهر أغاني رمضان القديمة في لبنان أغنية "علوا البيارق"، إذ غُنيت في الثمانينات، بينما كان لون السماء رمادياً والبلاد تقبع في الظلام بسبب انقطاع الكهرباء بفعل الحرب الأهلية اللبنانية (الفترة بين 1975: 1990).
إذ اختار المغني اللبناني أحمد قعبور الاستعانة بأصوات الأطفال البريئة من دار الأيتام الإسلامية في بيروت، لصناعة الأغنية التي أصدرت بالعام 1985. قعبور أيضاً هو الكاتب والملحن لها.
جهزت دار الأيتام 200 طفل يمكنهم الغناء والمشاركة في الأغنية، وكان على قعبور اختيار الصوتين المناسبين، لذلك بدأ قعبور في التعرف على الأطفال بمشاركتهم الإفطار والسحور، إذ تعرف على أسمائهم ومناطق ميلادهم وظروفهم الاجتماعية قبل اختيار الصوتين المناسبين لغناء المقاطع المنفردة بالأغنية؛ فاروق وهنادي.
رمضان الجزائر بنكهة أندلسية
ننتقل للمغرب العربي، حيث تحضر الموسيقى الأندلسية. رمضان في الجزائر يجمع بين الشعر العربي والموسيقى الشعبية الإسبانية، التي انتقلت مع المسلمين الذين هاجروا من بلاد الأندلس للمغرب العربي، حيث امتزجت مع المقامات المغاربية والعربية.
يرتبط هذا النوع الموسيقي بثلاث مدن جزائرية أساسية: الجزائر العاصمة، والبُليدة، وتلمسان. ورغم تنوع مدارس هذا الفن الأصيل فإنها انبثقت بشكل أو بآخر من إحدى المدرستين: "الغرناطي"، المشهورة في منطقة تلمسان (شمال غرب)، و"المالوف" المشهورة في مدينة قسنطينة (الشرق)، والتي انبثقت منها مدرسة ثالثة لاحقاً وهي "موسيقى الصنعة".
مدرسة الغرناطي تعتمد على صوت العود العربي والكمان والطبل والناي والقانون. أما تلمسان فتستخدم الغيطة (آلة نفخية)، وآلات رقية من جلود الحيوانات، وآلات وترية مثل العود والكمنجة والقانون والقرنيطة والناي.
تطورت مدارس أخرى من هذا الفن التراثي، وارتبط بعضها بقدوم رمضان، مثل مدرسة الحوزي، التي قدمت أغاني حاضرة في السهرات الرمضانية مثل أغنية "أنا طويري" (تصغير الطير)، وهذه المدرسة ركزت أشعارها على التوبة إلى الخالق ومناقشة دروس يتعلمها الإنسان من الحياة، خصوصاً الخيبات.
وإن تحدثنا عن الحوزي لا بد أن نتحدث عن سيدته، فضيلة الدزيرية، التي تعد من أشهر مغنّي هذه المدرسة، وأول مغنياتها، وتركت قبل رحيلها 1970 أرشيفاً فنياً لا يزال حاضراً لليوم في الأمسيات الرمضانية.
وقد أسست فرقتها الغنائية المتخصصة في غناء الفن الحوزي بعد السجن، إذ زجت قوات الاحتلال الفرنسي بها في أخطر السجون وهو سجن "سركاجي"، وذلك لأنها كانت تجمع الأموال لترسلها إلى المجاهدين في الجبال من أجل شراء الأسلحة والذخيرة خلال ثورة التحرير.