تشكل رحلات الحج فرحة عارمة للحجاج ولأهلهم، وتظهر هذه الفرحة في الطقوس التي تبدأ من قبل ابتداء الرحلة حتى، ورغم اختلاف هذه الطقوس من منطقة لأخرى ومن بلد لآخر، لكن تبقى بعض الأدعية والكلمات عالقة في الأذهان من احتفالات رحلات الحج، ومعها أيضاً ألحان ونغمات الأناشيد الدينية وأغاني الحج، إذ يمتلئ الفلكلور والتراث المصري بأغاني الحج والحجاج التي تحتفل معهم بمحطات الحج، وتصف شعورهم واشتياقهم لزيارة الكعبة المشرفة وقبر النبي محمد.
أغاني الحج.. فلكلور شعبي للاحتفال بالحجاج
"رايحه فين يا حاجة يا أم الشال سماوي رايحة أزور النبي محمد وارجع ع القناوي، ويا نبي يا نبي ياما ليك أحبة هملوا عيالهم يا نبي وجولك محبة".
هذه الأغنية إحدى نماذج الأغاني الفلكلورية البسيطة التي يحفظها ويرددها الناس للحاج وأهله للاحتفال معهم برحلة الحج، حتى إن مفردات كلمات الأغنية لها دلالات ومعانٍ معبرة، فمثلاً في الأغنية السابقة تستخدم "رايحة" لخلق جناس موسيقي وإيقاع للكلمات، كما أنها تخلق معنى عميقاً، فالكلمة من مصدر راح أي سار في العشي، وأيضاً راح من مصدر الراحة أي الطمأنينة والسكينة.
هذا النوع من الأغاني الشعبية تغنيه في الغالب السيدات، لذلك جزء كبير من الأغاني الفلكلورية تخاطب السيدات، فعلى شاكلة تلك الأغنية المتركزة على أصل وشكل الأغنية الفلكلورية بين كلمات على الوزن نفسه وعلى إيقاع بسيط، والتي تغنى يوم سفر المرأة للحج، هناك أخرى تقول: "يالا يا حاجة يالا التاكسي واقف بره، يا حاجة بيت الله يالي دعاكي رسول الله، لما نويت على الحجاز، بيت الحاجة كله إزاز، لما نويت على الرسول بيت الحاجة كله نور".
صحيح أنه لا توجد تسجيلات أصلية لبعض تلك الأغاني الفلكلورية، لكنها محفوظة في ذاكرة بعض السيدات اللاتي يرددنها في رحلاتهن احتفالاً وسعادة بالحج، وقد انتشرت بعض مقاطع الفيديو تسجل هذه اللحظات.
فلكلور من أيام رحلات الحج الطويلة.. الجمال والبواخر حاضرة
رافقت هذه الأغاني رحلات الحج الطويلة، إذ كانت رحلات الحج في السابقة طويلة وتستغرق أياماً، سواء براً من بعض الدول المجاورة للمملكة العربية السعودية أم بحراً بالباخرة، لذلك نجد أيضاً الأغاني الطويلة التي تؤنس في هذه الرحلات الطويلة، ونجد بعض كلماتها التي تصور هذا الطريق الطويل لزيارة الكعبة المشرفة.
مثل أغنية "في طريق النبي جنينة رشوها بنوها الحبايب والله لفاطمة وأبوها، و في طريق النبي يمينك شمالك عند حرم النبي يا ولدى وريح جمالك"، التي تؤكد على قدم تلك الأغاني وأصلها التراثي، فنجد جملة "ريح جمالك" تعود لوقت السفر بالجمال لتأدية فريضة الحج.
ونلمس ذلك أيضاً في كلمة دليل في أغنية "ودينى يا دليل ودينى ع النبى أشوفه بعينى النبي أهو عدى وفات على منى وجبل عرفات"، وتعود لأيام وجود دليل في الصحراء يسهل على قوافل الحج طريقها، ثم نلمس الحديث عن البواخر من أجل عبور البحر الأحمر، في أغاني تقول كلماتها: "تحت ظل الجبل وريح شويه، تركبوا البواخر وأنا أمدح نبيه، يا زايرين النبي خدونى معاكم، اركبوا البواخر وأنا أمدح معاكم".
كما نجد إشارة للمعدية والبواخر في أغنية مثل: "هنيالك يا حاج مكتوبالك يا حاج مكتوبالك حجة هنيه تركب مركب ومعديه لا وأحبابك ألف وميه"، وأيضاً نلمس وجودها في أغاني المودعين للحجاج وليست أغاني الحجاج فقط، ففي أغنية "خدوني معاكم" يغني مودعو الحجاج: "يا زايرين النبى خدونى معاكم، تركبوا البواخر وأنا أمدحه وياكم، الباخرة عما تنادي يلا يا زوار الهادي، الباخرة طالعة قدامي رايحه للحج التهامي، حج النبى دا غرامي".
أغاني الحج.. من فلكلور شعبي إلى صناعة منظمة
صحيح أن هذه الأغاني فلكلورية وشعبية بالمقام الأول، وساعد تقديم مطربي الفلكلور لها في تشكيل وحفظ جزء من التراث الفني، لكن أيضاً كانت بعض أغاني الحج ضمن صناعة فنية دعمتها الدولة ورجال الأعمال في بعض الأحيان.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي، ومع إطلاق البواخر المصرية "كوثر" و"زمزم" أثر ذلك بشكلٍ أو بآخر على صناعة الفلكلور الغنائي للحج، حتى إن أسماء البواخر والدعاية لها شكلت جزءاً من كلمات الأغاني، كما بدأت شركة مصر للتمثيل والسينما بإنتاج أغاني الحجاج وفق صحيفة "المصري اليوم"، وكذلك ساهمت الإذاعة المصرية والتي بدأت إرسالها في نفس الوقت في الحفاظ على تلك الأغاني من الضياع وبثها بشكل مكثف.
وخلال أول حفل أنتجتها شركة "مصر للتمثيل والسينما"، والتي عرفت باسم "حفلة بنك مصر" وأذيعت في الإذاعة المصرية، كانت هناك أغاني عن الحج للمطربة نجاة علي، مثل أغنية "ذهاب الحجاج وعودة الحجاج"، من تأليف بديع خيري وألحان زكريا أحمد، وكانت هذه الأغنية تشمل في كلماتها ذكر البواخر المصرية "زمزم" و"كوثر"، إذ تقول الكلمات: "صون يا نبى حجاجك، نالوا الشفاعة بيك.. ويا بحر هدى أمواجك، زمزم وكوثر فيك".
كما غنى المطرب أحمد عبد القادر أغنية "إمتى نعود لك يا نبي" من ألحان رياض السنباطي، ونجحت الأغنية بشكل كبير في وقت كانت تذاع بشكل مكثف في الإذاعة وبيع منها أسطوانات كثيرة، كما قدم محمد الكحلاوي أغنية للحجاج أيضاً.
ثم ساهمت السينما وعالمها الجديد في حفظ التراث الفلكلوري، إذ جاءت أغاني الحج في بعض الأفلام، وكان أشهرها أغنية "يا رايحين للنبي الغالي" بصوت ليلى مراد في فيلم "بنت الأكابر" ومن كلمات أبو السعود الإبياري وألحان رياض السنباطي، كما قدم محمد فوزي أغنية "الله أكبر" في فيلم "حب وجنون" 1948، من كلمات عبد العزيز سلام، وقدم أيضاً في آخر أيامه أغنية "إلهنا ما أعدلك" من كلمات أبي نواس.
كما غنت أم كلثوم أغاني للحج مثل "إلى عرفات الله"، والتي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي بمناسبة ذهاب الملك أحمد فؤاد إلى مكة لأداء مناسك الحج، وأيضاً غنت أغنية "القلب يعشق كل جميل"، من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي، وأصبحت الأغنية من أهم وأشهر أغاني الدينية لأم كلثوم، وأشهر أغانيها بشكل عام.
ولم تقتصر الأغاني على رحلة الذهاب للحج، بل أيضاً عودة الحجاج إلى ديارهم، بعد زيارة النبي وحج البيت، فمن إحدى أشهر الأغاني الفلكلورية التي ظهرت في الأفلام وأذيعت في الإذاعة، وغيرت كلماتها لاحقاً وأعيد تقديمها بأصوات وموسيقى مختلفة، أغنية "سالمه يا سلامه والحج رجع بالسلامه".