"أنا كل ما أقول التوبة" من أغاني التراث الخالدة التي يحفظها كثيرون عن ظهر قلب طوال 55 عاماً، سواء بشكلها الأصلي أو بتوزيع جديد، هذه الأغنية تحديداً كانت نقطة تؤرخ لمرحلة جديدة في مسيرة عبد الحليم حافظ الفنية، وجمعت خماسياً فنياً مميزاً من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والملحن بليغ حمدي، والموسيقار علي إسماعيل، إلى الفرقة الماسية ومغنيها عبد الحليم حافظ.
صدرت أغنية "أنا كل ما أقول التوبة" في فترة كان يسطع فيها نجم المغني محمد رشدي، الذي جاء ليقدم شكلاً جديداً من الأغنية الشعبية بصوتٍ قوي وأشعار الشاعر الصعيدي عبد الرحمن الأبنودي، وبالنسبة لمطرب في قمة مجده قرر حليم الدخول في مساحة فنية جديدة، وهي نمط غناء شعبي يلقى مساحة في الشارع المصري، والأفراح والسينما أيضاً.
إحضار الأبنودي إلى منزل حليم ليكتب له أغنية مثل "صاحبه" المغنّي الشعبي الجديد!
أرسل حليم اثنين من مساعديه لإحضار الأبنودي، الذي كان يسجل أغنية جديدة لرشدي في استوديو "مصر فون" الخاص بشركة صوت القاهرة، بصحبة بليغ حمدي. يحكي الأبنودي أنه ظن أن هذين الشخصين رجال أمن أتيا للقبض عليه، وأخذ في الصراخ لتوصية بليغ حمدي ببعض الأمور، الذي كان يضحك من المشهد في غرفة التسجيل، عندما وصل الأبنودي إلى الزمالك، ودخل شقة تبدو عليها الفخامة، استقبله على بابها طاهٍ يعمل لدى صاحب الشقة، شعر أن الأمر ليس له علاقة بالأمن والاعتقال.
هنا جرى حليم على الأبنودي لمصافحته، بينما الأبنودي الذي كان يستوعب المشهد صرخ على حليم ومساعديه، لشعوره بالرعب من طريقة إحضاره، كما روى في لقاء تلفزيوني سابق. بعدما عرف الأبنودي برغبة حليم في الغناء الشعبي، رفض الأبنودي في البداية كتابة أغنية وطنية، خصوصاً أن كاتب حليم، وهو صلاح جاهين، كان في رحلة علاجية خارج مصر، أصرّ حليم في طلبه، وقال بصراحةً: "عاوز أغنية زي بتاعت صاحبك"، وصاحبه النجم الساطع وقتها كان محمد رشدي.
"أنا كل ما أقول التوبة" والاقتباس من الأغنية الفلكلورية
شرع الأبنودي في البحث عن نمط شعبي يمكن البدء منه، وكتب الجملة الرئيسية مقتبساً من التراث الصعيدي جملة: "وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي ترميني المقادير.. وحشاني عيونه السودة يا بوي ومدوبني الحنين يا عين"، ثم كانت ثلاثة كوبليهات قصيرة، ليصنع أغنية قصيرة في قالب الطقطوقة، وهو لون من ألوان الغناء العربي عرف بمصر في الأربعينيات، يتطلب نوعاً خاصاً من التلحين وكتابة الزجل.
الأبنودي سار على نهج وشكل الأغنية الفلكلورية في كل شيء تقريباً، إذ ختم كل جملة في الأغنية بكلمة "يا بوي" تارة و"يا عين" تارة أخرى، حتى إن أول جملة في الأغنية مأخوذة كما هي من التراث الصعيدي، ولكن لم يكن الأبنودي أول من أدخلها في عالم الغناء الاحترافي والتجاري، فهي مسجلة حتى من قبل أن يولد حليم والأبنودي.
غناء "أنا كل ما أقول التوبة" قبل عبد الحليم
إذ يعتبر أقدم تسجيل للأغنية في بداية العشرينيات، بصوت المطرب محمد العربي، يصاحبه غناء الناس في الخلفية وصوت الأرغول (آلة موسيقية هوائية كان يستخدمها المصريون القدماء) دون وجود لأي شكل من أشكال الكورال الموسيقي (الفرقة الموسيقية وتعرف أيضاً بالجوقة أو الكورس)، وهو الشكل الأقرب للأصل التراثي، في الكلمات وطريقة الغناء، ثم غناها بعده تلميذه وعضو فرقته محمد الصغير، دون أي اختلافات تذكر.
حتى ظهر الشاعر الغنائي فتحي قورة، الذي استعار المذهب "أنا كل ما أقول التوبة عن حبك يا زنوبة" في أغنية "زنوبة"، من غناء وألحان محمد فوزي في فيلم "حب وجنون"، الذي أصدر بالعام 1948، وعاد مرة ثانية في فيلم "فيروز هانم" الصادر بالعام 1951، وأخذ هذه المرة قورة المذهب ويسير على خطى التسجيلات الأولى، بكلمات تحمل الشكل الشعبي البسيط، والمفردات والتركيبات الشعبية.
أكمل المزيج المتفرد غناء مطربة صغيرة "فيروز"، تلك الأغنية في خمارة مع فرقتها الشعبية، والراقصة التي كانت في عز تألقها، وهي تحية كاريوكا، والتي أضافت بعداً جمالياً إضافياً للأغنية، خصوصاً مع الآلات الموسيقية والفرقة الموسيقية النسائية، بأغنية ألفها قورة ولحّنها علي فراج.
استخدم قورة النمط الغنائي الشعبي لـ"أنا كل ما أقول التوبة" للمرة الثالثة مع الملحن محمود الشريف في العام 1954، في أغنية خارج السينما للمطرب عبد الرحمن الفران، وكانت من النسخ الجيدة للأغنية، رغم أنها لم تلقَ شهرةً ولم يكن مغنيها مشهوراً كفاية.
النسخة الأشهر لـ"أنا كل ما أقول التوبة" غُنيت بصوت المغنية المصرية ليلى مراد في فيلم "سيدة القطار" بالعام 1952، وكتبها الشاعر المصري بيرم التونسي، ولحنها حسين جنيد، واعتمد بيرم في مقدمة الأغنية على القصة الشعبية لـ"ياسين وبهية"، ثم أتبعها بجملة "وأنا كل ما أقول التوبة ترميني المقادير"، وكان هذا هو آخر استخدام للجملة بشكل مشهور ومسجل.
حتى أعادها الأبنودي وحليم للحياة مرة أخرى في نهاية الستينات، تحديداً في 21 أبريل/نيسان من العام 1966، من دار سينما "الهمبرا"، في حفل خيري نظمته مديرية أمن الإسكندرية، حينها قدم مطرب الأغنية الرومانسية أغنية شعبية للمرة الأولى نافس بها المطربين الشعبيين وعلى رأسهم رشدي، ولم يكن يحدث ذلك إلا بالثنائي بليغ حمدي وعلي إسماعيل.
"هي غنوة صغيرة وتجربة لو عجبتكم سقفولها ولو معجبتكوش متسقفولهاش" تلك الجملة الافتتاحية في إحدى حفلاته الأولى للأغنية، أظهرت تخوف حليم من دخول نمط فني جديد له نجومه القدماء والمعاصرون.
لكن استطاعت الأغنية تثبيت أقدامها بين كل نسخ الأغنية الأخرى التي اقتبست من المدرسة نفسها، بلحن بليغ البسيط، الذي لم يحتوِ على مقامات موسيقية تتطلب صوتاً قوياً في الغناء الشعبي، وإن احتاجت إلى صوت متمكن مثل حليم، أيضاً ساعد وجود الفرقة الموسيقية التي أضافت لمسة مميزة للأغنية، كذلك قدم إسماعيل توزيعاً جديداً عن شكل الأغنية الشعبية، وهو المزيج الذي مكّن حليم من تقديم الأغنية الشعبية في ثوب موسيقي جديد باستخدام آلات النفخ النحاسية.
هذا المزيج أثار حفيظة الأبنودي، إذ لم يتصور كاتب الكلمات أن تُقدم أغنية شعبية بهذا الشكل، وأصر على ذلك حتى بعد نجاح الأغنية، إذ غناها الأبنودي في أحد البرامج كما كان يتصورها كأغنية شعبية قائمة على جملة تراثية.
حليم كان يدرك أنه بتوزيعاته الفنية يقدم نمطاً غنائياً مختلفاً قد لا يلقى إعجاب حتى المقربين منه، وقام لاحقاً بإعادة تسجيل الأغنية مرة أخرى في العام 1970، بتوزيع مختلف وأكثر هدوءاً، فيما قال حليم عن التنوع في تقديم الأغاني نفسها بأكثر من توزيع ونمط موسيقي: "سجلتها مرة بمجموعة كبيرة من الآلات ومرة ثانية بمجموعة صغيرة جداً من الآلات الجيتار والفلوت وبيانو مع رتم، هدفي من هذا هو أنني أريد أن أثبت أن رتم الموسيقى الشرقي يمكن أن يكون أساساً لمجموعة كبيرة من الأرتام المختلفة، وقد سجلت هذه الأغنية على رتم غربي إلى جانب تسجيلها على الرتم الشرقي"، وذلك في لقاء صحفي قديم ورد نصه في كتاب "موسوعة أغاني عبد الحليم حافظ" للكاتب المصري عمرو فتحي.
وبعد ما حدث من انتقادات لتوزيع علي إسماعيل لما حمله من شكل غربي بعيد عن النمط الشرقي والفلكلوري، كما توخى الحذر فيما بعد في الأغاني الأخرى الشعبية التي قدمها حليم مثل "على حسب وداد قلبي" و"سواح".
أغنية "أنا كل ما أقول التوبة" قدمت قبل حليم بتوزيعات مختلفة وكلمات متنوعة، كما أعيد تقديمها بعد أغنية حليم بأشكال جديدة، إذ قدمتها المغنية اللبنانية ماجدة الرومي، والمصريان عمرو دياب، وهاني شاكر، كما قدمتها "فرقة المصريين" بغناء مطربة الفرقة منى عزيز وتوزيع هاني شنودة، وحتى "فرقة جدل" الأردنية، لكن أغنية حليم بلحنها تظل خالدة.