عاللي جرى من مراسيلك عاللي جرى
بس أما تيجي وأنا أحكيلك عاللي جرى..
بهذه الكلمات تغنَّت الفنانة السورية أصالة ذات يوم، ولعلها إحدى أكثر الأغاني التي أسهمت في شهرتها ونجاحها.
غير أن الزمان قد جرى وهرب بالفنانة ذات الصوت الشجي من الفن العربي الأصيل إلى تلميع الديكتاتوريين وتشويه التاريخ وتزييف وعي الجماهير!
فسَخِطتْ عليها قلوبُ المعجبين، وهاجمتها ألسنتُهم وكتاباتُهم، والسبب أن أصالة أضاعت كلَّ شيء جميل في فنِّها، حتى ذهب صوتُها في أغنية متوسطة الألحان، كاذبة الصور والدّلالات، غاب فيها الفنُ وصعِدت السياسةُ.
الذي جرى وحدث أنَّ أصالة نشرت يوم الجمعة الماضي آخرَ أغنيةٍ لها بعنوان "الحب والسلام"، والتي جمعت فيها صورَ شخصيات عربية ورؤساء سابقين، وفي لحظة ضمن هذه الأغنية حاولت المزجَ بين النقيضين، بين الدكتاتور القاهر لشعبه، المتسلّط عليهم، الذي تمتلئ سجونه بالمظلومين، بل وتلطَّخت يداه بالدم، وبين مَن خرج مِن رحم الشعب ليُدافع عنه وعن حقِّه في تقرير مصيره، بل وجاهد وقاتل وقُتل بالإعدام شنقاً على يد أعدائه الطَّليان، فرحل جسدُ المختار وبقيت سيرتُه يحكيها الليبيون جيلاً وراء جيل: "نحن شعب لا نستسلم، ننتصر أو نموت".. بها اختتم حياته، وظلَّ الناس يردِّدونها على لسان عمر المختار، شيخ الجهاد الليبي والعربي.
فأيُّ شبهٍ بين الرجلين، وأيُّ مقارنةٍ هذه؟!
ماذا حقَّق الرئيسُ المصري الغالب بحكم القوة من إنجازات وبطولات، حتى توضع صورتُه إلى جانب عمر المختار؟!
أية رسالة غير منطقية تحدّثت عنها أغنية الحب والسلام؟!
أم يقصدون أن الرئيس المصري سيُحرِّر ليبيا من الليبيين، ومن حكومة شرعية اعترف بها العالم بأسره، وبالتالي فالسيسي مجاهد كعمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي!
ولم تقف المطربة التائهة عند هذا الحد، بل ظهر السادات كرمز للسلام، والسادات يوحي بالسلام، والسلام يدل على كامب ديفيد، وكامب ديفيد توصّل للتطبيع مع الكيان الغاصب المحتل، فهل هذا ما أرادت أصالة إيصاله إلى جمهورها؟!
يتساءَلَ مهاجموها، المعجبون بالأمس الغاضبون اليوم.
الذي يجرى الآن مع أصالة جرى مع غيرها، فقد سقط قبلها العديد من الفنانين من عشاق الدكتاتوريات.
فتلك إلهام شاهين وملهمها بشار الأسد، وهذا صبحي يفدي الدكتاتور بأبنائه، وهذه ماجدة الرومي تغني لابن سلمان بعد أيام من فضيحة الجثة المقطعة في قنصلية بلاده بإسطنبول.
وغيرهم كثر بين ممجّد ومبارك للدماء، ومَن يقود الثورات المضادة واحتفالات التبجيل والتعظيم الصاخبة، ويرقص في ميدان المجازر على أشلاء دماء لم تجفَّ بعدُ.
وحتى "صاحبة السعادة"، التي كنا نظنها بعيدةً عن السياسة ببرنامجها الفني الاجتماعي، أخرجت سموماً من قلمها، فكتبت إسعاد وحذفت بعد هول الضربات والانتقاد عن الفلاحة الريفية، ذات الشكل القميء -حسب وصفها- التي طُردت من المنزل بالشبشب، على حد قولها.
لقد بثَّت إسعاد يونس، الفنانة والمذيعة، كلَّ غلٍّ وضغينة وعنصرية في مقال أقل ما يقال عنه إنه عنصري، فسقطت هي الأخرى على شاكلة أصحابها من الفنانين ونجوم المجتمع، الذين يتقاضون الملايين في وقت يحتاج فيه العالم مَن ينقذه من جائحة ألمَّت به، والمفارقة أنَّ راتب الفنان الذي يسخر من شعبه ويحتقره عشرات أضعاف راتب الطبيب، المقصود بابه في هذا الزمن بحكم الكورونا.
في إسبانيا، وفي القرن العشرين، كان هناك فنان عظيم يُدعى بابلو بيكاسو، سُئل ذات يوم عن الفن والفنانين، فقال كلمته الشهيرة: "إننا جميعاً نعرف أنَّ الفن ليس حقيقة، ونعلم أنه كذبة، ولكن تلك الكذبة تجعلنا ندرك الحقيقة".
أجل، فتقمّص الفنان أمام الكاميرا لدور يحاكي قصصنا وأوجاعنا يؤلمنا ويجعلنا ندرك حقيقة واقعنا، نعلم أن الفنان يمثل، وأن المغنية تردد كلمات مكتوبة لها، ولكننا نتفاعل مع ما يُلامس وجداننا ويحاكي واقعنا.
إن الفن كان رسالة عظيمة قبل أن تخطفه السياسة والساسة، بل يخطفه المستبدون كما خطفوا كل شيء من شعوبهم، مِن حق الاختيار، وحق العيش، وحق الحرية، وحتى حق مشاهدة ما يحبون، وحق ما يسمعون احتكروه.
فمن يُبلغ أصالة وغيرَها أنَّ الحب والسلام والدكتاتورية والاستبداد لا تجتمع، مَن يُبلغها أنَّ المجاهد لا يجلس بجانب الجلَّاد، وأن البطولة الحقيقية لا تصنعها الأغاني والكاميرات بقدر ما تصوغها أفعال الرجال وصنائعهم، وأن التاريخ يُمجِّد الأبطال فقط، فهم مَن صنعوه.
مَن يُبلغها أنّ صورة عمر المختار كانت كبيرة جداً على السيسي، وأنها أخذت كامل المساحة منه ومن غيره.
مَن يُبلغ أصالة الجالسة في فيلا، والتي تمتلك الملايين، والأرصدة في البنوك، أن هناك ملايين لا يجدون قوت يومهم بسبب تلك الأنظمة المستبدة، وأن هناك غيرهم شُرِّدوا من أوطانهم، فمنهم مَن قُتل، ومنهم جرحى، ومنهم غارقون… مَن يُبلغ أصالة وغيرَها من المستكبرين أن هناك شعوباً تعيشُ معهم على هذه الأرض، ولها حق الحرية والاختيار، ولا يحقُّ لأحد احتكار ذلك الحق.
أتمنى أن تستفيق أصالة من سُباتها وتعتذر لجمهورها عن سقطتها هذه بعد أغنيتها الأخيرة، هل تجهل الفنانة ما جرى منذ صعد السيسي على ظهر الدبابة لسدة الحكم في مصر، أو ما فعله حليفه أبو الساعة المهزوم خليفة حفتر، أو بما فعله السادات وغيره، وهي التي كانت إلى يومٍ قريبٍ تُعارض فعلَ الأسد الروسي البعثي بشعبه، وقد فعل ما عجز عنه كل الدكتاتوريين من قبله.
إن الذي جرى وحدث أنهم اختطفوا الفن والصوت الشجي كما اختطفوا كل شيء من شعوبهم.. قوتهم، وحياتهم، وحريتهم، وحتى ذوقهم، وفنهم، وصوتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.