في مسلسلها الرمضاني "رشيد" الذي عُرض في 15 حلقة، استطاعت المخرجة "مي ممدوح" أن تعيد تقديم رؤية مصرية عصرية للتيمة الأدبية المعروفة التي تم استلهامها كثيراً في السينما والدراما من رواية "الكونت دي مونت كريستو" لألكسندر دوما.
فقد راوغت المخرجة "مي ممدوح" فخ الكليشيه الذي يحاصر التيمات، فالتيمة بوصفها حبكة مشهورة يتم تدويرها في العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية والدرامية ستواجه حتماً فخ أن تكون كليشيه عند مرحلة ما، أي مبتذلة ومكررة ولا تثير الاهتمام. وهذا ما جاء عكسه في مسلسل رشيد الذي استطاع أن ينال إعجاب الكثير من المشاهدين، ويحتل مرتبات متقدمة في منصات المشاهدات كـ "شاهد" في مسلسلات رمضان 2023.
مسلسل رشيد السرد بالزمن والصورة والأشياء
ما يقارب العشرة أعمال هي حصيلة ما تحور عن رواية ألكسندر دوما الشهيرة، منذ فيلم "أمير الدهاء" 1950م لأنور وجدي، وانتهاءً بمسلسل "المنتقم" 2012م لعمرو يوسف، لذلك كان الاختبار الذي ألقي على عاتق المخرجة مي ممدوح هو طريقة المعالجة لذلك القالب الدرامي الجاهز والمكرر، لذا كان أسلوب السرد هو مفتاح مي ممدوح لتقديم عملها ذي الجودة الفنية العالية.
تفتتح الحلقة الأولى من مسلسل رشيد بمشهد لأحد اليخوت الضخمة التي يحتفل بتملكها "رشيد" -محمد ممدوح بمساعدة صديقه "صلاح" – خالد كمال- الذي ينتحي بصديقه إلى قبو في ذلك اليخت ليريه مراهقاً مختطفاً من المفترض أن يكون هو "سيف" – نور مالك- ابنه، ولكن يتضح أنه ليس هو، لتضعنا المخرجة مي ممدوح في القصة من البداية التي سيكافح فيها رشيد على جبهتين، أن يجد ابنه، وأن يثبت براءته.
قررت المخرجة إذاً أن تبدأ من النهاية التي آل إليها حال رشيد قبل أن تضعنا في ماضي كل من شخصيات العمل، وستتخذ خطوطاً متقاطعة كوسيلة للسرد، فبعد أن كانت "التيمة" صورة كاملة، قررت مي ممدوح أن تلجأ لأسلوب التشظي، وتجعلها قطعاً متناثرة ستتجمع لتكون الصورة الكاملة من خلال خطوط السرد المتقاطعة تلك التي نراها في العمل، فستجعلنا نشاهد سردية تقترب كثيراً من الأسلوب السينمائي المعروف باسم الاسترجاع "فلاش باك".
فبعد ذلك المشهد الافتتاحي في الحاضر من مسلسل رشيد، ستعود المخرجة بأبطال عملها إلى عام 2009 للبحث عن الجذور التي شكلت تلك المصائر الحاضرة أمامنا في اللحظة الراهنة، واستخدمت الصورة ببراعة للتعبير عن الزمن، فالكادر الطبيعي بمساحة 16/9 يعبر عن الحاضر، والكادر 4/3 الذي يحتل نصف الشاشة يعبر عن الماضي،
في ذلك التعبير السينمائي بأسلوب نسبة العرض إلى الارتفاع 4\3 دلالاته الزمنية، فذلك القياس هو المعيار في الأيام الأولى للسينما والتليفزيون قبل تطور تقنيات العرض والتصوير، وبإعادة استخدامه في الأعمال الحاضرة يتم توظيفه لغرض معين، فبينما نبحث عن أصل لكل شخصية وحدث يحدث في الحاضر من خلال الماضي، فتساعدنا تلك النسبة في الصورة بالتركيز أكثر خصوصاً على الشخصية، فهي توفر مساحة أصغر لملئها بالعناصر المرئية، فكل عنصر تضعه داخل الإطار البصري للصورة يصبح مهماً جداً.
ما سبق يساعد في جعل الأبطال والمواضيع مركز الاهتمام المطلق، كما أن لها بعُداً حميمياً ونوستاليجياً يستخدم في إيصال مشاعر الشخصية، وهو ما رأيناه حاضراً بشدة في مشاهد حبس رشيد الانفرادي في السجن بينما كان يتذكره ابنه وأبوه ويعاني في حالته من الهذيان والحنين إليهما.
في ذلك الانتقال الزمني بين حين وآخر، استطاعت المخرجة مي ممدوح في مسلسل رشيد أن تعيد بعث العام 2009 بإتقان شديد وانتباه للتفاصيل التي تشكل جوهر عنصر التصوير الساكن الهام سواء في الدراما أو السينما، فبرامج التوك شو وقنواتها على التلفاز وأسماء البرامج ومقدموها كشريف عامر وبرنامجه على قناة الحياة، تبدو مطابقة للحدث.
كما تضعنا مي ممدوح في العام 2009 من خلال رمزية شهيرة جداً لذلك العام وهي المباراة الفاصلة لتحديد بطل الدوري بين النادي الأهلي والنادي الإسماعيلي، وطريقة ملبس الشخصيات، والأغاني التي كانت تظهر على خلفية الأحداث سواء في فرح أو في بار، وأنواع الموبايل ورناتها، وتلك التفاصيل مهما بدت صغيرة وهامشية، إلا أنها كانت لها أهميتها القصوى في إحضار الزمن بشدة إلى المتلقي وإدماجه فيه.
جعلت مي ممدوح المشاهد يستمر في طرح الأسئلة لكن تضيف تشويقاً للسرد والقصة، يجعل المشاهد مشدود الانتباه أطول فترة ممكنة، ففي الواقع نحن لا نعرف الطريقة التي يبدو عليها رشيد في الحاضر من الثراء والتمكن الذي يساعده في الاختبار والهروب من السجن والشرطة إلا في الحلقة العاشرة من المسلسل. واعتماداً على التواء الحبكة في السرد حتى اللحظة الأخيرة، فالشك يساور المشاهد تجاه كل الشخصيات حتى اللحظة الأخيرة.
ربما الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه مي ممدوح في مسلسل رشيد، أنها فرشت للأحداث في 14 حلقة بشكل موسع لم يخل كثيراً بالتفاصيل الجانبية للخطوط الرئيسية للقصة، ولكنها حينما حاولت الإلمام في الحلقة الأخيرة، جاء ذلك الإلمام سريعاً ومرتبكاً في بعض الأحيان.
أعمدة الخيمة في مسلسل رشيد
بالإضافة للبحث عن سرد مبتكر لتلك "التيمة" المتكررة، تكاملت عناصر أخرى لإخراجها في جودتها التي خرجت عليها، فبالاستعانة براجح داوود الموسيقار الكبير الذي سبق له وقدم مقطوعات قاربت أن تكون أيقونة مثل مقطوعة "الكيت كات" و"البحث عن سيد مرزوق" و"أرض الخوف".
استطاعت مي ممدوح أن تضيف لـ مسلسل رشيد أحد عناصر النجاح الهامة التي تمثلت في موسيقاه. فالموسيقى تحكي الكثير عن الشخصيات وما يعتمل في دواخلها في الكثير من المشهد، ودلالة ذلك، في المشاهد التي كانت تركز على حياة "رشيد" في السجن واسترجاعه لذكرياته وأيامه الخوالي، واقتبس راجح داوود من مقطوعة الحنين التي عزفها تلك ليصنع مقطوعة تشويق أخرى على نسق سريع يضع المشاهد في موضع الترقب وحبس الأنفاس حينما يتعرض الأبطال إلى مواقف حرجة أو قرارات على الحافة.
ويأتي اختيار الشخصيات موفقاً، فكل شخص في مكانه الصحيح، وأكثر ما يثير الإعجاب في رشيد أنه بعيداً عن أبطال العمل، فإنك تجد في الممثلين الثانويين في العمل قدرات تمثيلية فائقة أضافت للعمل مثل الدور الذي قدمه "أشرف عبد الغفور" في دور المهندس فاروق الذي يقدم دوراً للفساد المؤسسي في دولة نظام مبارك، والدور الشرفي الذي قدمته "ميمي جمال" ودور "صلاح عبد الله" في الحاج فهمي و"انتصار" في دور المعلمة أشجان.
واختارت مي ممدوح لعملها نخبة من ممثلي الجيل الحالي، بدايةً من أخيها "محمد ممدوح" الذي أثبت جدارته بالبطولة للكثير من الأعمال المميزة على مدار السنوات الأخيرة مثل "قابيل" و "لعبة نيوتن" و "لا تطفئ الشمس" ولكن ما زالت هناك مشكلة النفس التي يحاول محمد ممدوح التغلب عليها بسبب وزنه الزائد.
اختريت "ريهام عبد الغفور" لتلعب دور أسماء تلك الشخصية المركبة التي تتحول في أحداث المسلسل بين قطة ونمرة ونمرة جريحة بكل سلاسة. والممثل خالد كمال الذي قدم دور صلاح، وخالد صلاح هو ممثل صقلت موهبته من خلال المسرح الذي ترعرع ونشأ فيه، حتى وجد طريقه للدراما التليفزيونية وأثبت نفسه في أدوارها الثانية في السنوات الأخيرة، واختير الشاب "نور مالك" شقيق الممثل "أحمد مالك" لأداء دور سيف، ورغم كل التحفظات التي أثيرت على دور الواسطة في اختيار ذلك الدور، ولكن نور قدم أداءً حقيقياً بشدة لشخصية الشاب "السرسجي" كما يجب أن تكون.
بتلك الكوكبة من الفنانين ذوي الموهبة والحضور، على خلفية موسيقى ملحمية مثل موسيقى راجح داوود، ضمنت مي ممدوح أن تقيم خيمة معالجتها على أعمدة متينة وراسخة.
في غياب دور الدولة، وتحية لها
ربما أكبر مشكلة تواجه صانع الدراما أو السينما في مصر تلك الأيام، أنه واقع تحت سيطرة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تمثل الرؤية العسكرية للفن في مصر، والتي تستحوذ على الإنتاج الدرامي والسينمائي في نفس الوقت، وإن لم يكن واقعاً تحت سيطرتها بالتمويل، فبالأجندة التي تفرضها تلك المؤسسة السلطوية على تنجيم الدولة وإبراز دورها والمتغيرات المدعاة للنظام الحالي في المجتمع.
واجه مسلسل رشيد انتقاداً لتلميعه دور الدولة في النهوض بمؤسسة السجون، وإظهار رجال الشرطة كرجال متحضرين هادئين على صواب دائماً، ويتبعون في تعقبهم للجريمة الأطر القانونية ولا يخرجون عنها، وأرى أن تلك المشاهد كمثل المشاهد الجنسية التي كانت تنتشر في أفلام السبعينيات والثمانينيات لصرف أنظار الرقابة عن النقد الموجه للمؤسسات.
فعلى الرغم من أن مي ممدوح قدمت ما يُشبه الرشوة بذلك التلميع، إلا أنها استطاعت من خلال مسلسل رشيد سواء واعية لذلك أم لا، أن تقدم نقداً للحياة السجنية بحد ذاتها، التي تسير بالامتيازات الطبقية كما تسير الحياة خارجها، وذلك ما نراه من خلال الفرق بين وضع رشيد في زنزانته الأولى وسط الأوباش، وزنزانته الثانية التي جاور فيها فاروق رمز النظام.
من خلال تتبع شخصية "سيف" ومصيرها بإمكاننا أن نرى النقد الموجه لغياب دور الدولة في حق الرعاية الاجتماعية لأطفالها المشردين، فسيف حين يخرج من الملجأ الذي تم إيقافه وتحويل أطفاله إلى ملجأ آخر يهربون منه في العام 2016 بسبب الفساد المؤسسي، يتحول سيف إلى "ديلر" للمخدرات، ولا يجيد القراءة والكتابة رغم أنه قضى في الملجأ سبع سنوات.
في إحدى المناطق الراقية في غياب تام لدور البوليس في رقابة تلك الشوارع وأربابها يمارس سيف حياته كتاجر مخدرات. فمن خلال شخصية "سيف" نلقي على ذلك الملف المنسي في مصر عن أطفال الشوارع الذين لم يعد أحد يتذكر قضيتهم ولو بكلمة، ويجعلنا نسأل عن المسئول عن فسادهم وضياعهم، أوليس كان سيف في جعبة الدولة حينما لم يصبح له ولي أمر؟
لا يتوقف عرض مفاسد المؤسسات وغياب دور الدولة والشرطة من خلال شخصية "سيف" عند حد تجارة المخدرات، فنحن نعلم أنه يتاجر في الأعضاء كذلك، وبينما دخل ذلك المجال بسهولة، فإنه يخرج منه بنفس السهولة حينما ينتشله أبوه من ذلك الواقع المزري، دون أي ملاحقة قضائية أو بوليسية، فالبوليس لم يكن جزءاً في تلك المعادلة من الأساس. ولكن سيف خرج من هذا المجتمع، ولكن ذلك المجتمع لم يخرج منه، وهو ما نلحظه في شخصيته حتى الحلقة الأخيرة.
كما أن مي ممدوح لا تعطي دور البطولة في الأحداث للشرطة، فرغم وجود شخصية العقيد فؤاد البدراوي كخط مستقل في المسلسل يعمل على القبض على الهارب رشيد السيد أمين طيلة الحلقات، إلا أنه في النهاية لا تتكلل جهود الشرطة تلك إلا بإرادة رشيد نفسه، أي أن المجتمع هو من يحقق لنفسه العدالة، وليست أجهزته الأمنية.
مسلسل رشيد.. دوافع وشخصيات مركبة
تتميز معالجة "مي ممدوح" لتيمة "الكونت" بأنها ركزت على دوافع الشخصيات التي يثق فيها رشيد وتخونه، وعلى شخصياتهم المركبة، فنحن لا نرى شخصيات شريرة بشكل محض أو حباً للشر، ولكننا نرى شخصيات بدأ بها الأمر بحب رشيد والوفاء له حقاً، ونوايا لم يكن الغرض من ورائها توريطه في جريمة قتل وتدمير حياته، وهذا ما نعرفه على لسان أحد الشخصيات في النهاية.
تصبح شخصية "أسماء" التي تقدمها ريهام عبد الغفور هي البؤرة التي يتركز من خلالها عرض الشخصيات المركبة، فإننا نرى فيها الكثير من الشخصيات والظروف التي تنكسر وتبنى وتنكسر وتبنى واحداً بعد آخر حتى آخر مشهد لها في المسلسل الذي يظهرها كمأساة إغريقية، أو كليوباترا.
في النهاية، يوجد بالمسلسل بعض الأخطاء التي تسبب فيها التسرع وخنق القصة في 15 حلقة فقط حينما تبين أنها كانت تحتاج إلى مساحة أكبر، ولكن تبدو نهاية المسلسل هي أكثر من اقترب فيه من "الكليشيه" ولكنه كليشيه يحتمل أن يكون محل جدل مثير للنقاش بين رؤية كل منا للحياة وفلسفته الخاصة التي كونها عنها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.