لم يحدث أن شهد الإنتاج الدرامي في الجزائر قفزة مثل التي حدثت خلال رمضان الحالي، حيث تتنافس عدة مسلسلات هي مسلسل الدامة، ومسلسل البطحة ومسلسلات "دار الفشوش والاختيار وحداعش حداعش"، على ريادة مؤشرات الترند داخل سوق بشرية مهمة تقدر بـ45 مليون نسمة.
لكن تلك الطفرة شهدت لأول مرة جدلاً واسعاً حول المحتوى المقدم في هذه الأعمال، خاصة مسلسل الدامة المستوحى عنوانه من لعبة شبيهة بالشطرنج الذي عاد إلى المواضيع الاجتماعية ومشكلات الطبقات الهشة والمنسية، موغلاً في أزمات تجارة المخدرات وجنوح الأحداث وعصابات الأحياء.
أما الدراما الكوميدية، فتمثلت في مسلسل البطحة، الذي فيروي قصة عائلة فقيرة معافرة، بخلفية تقترب من قالب فتوات الحارة، المذكور برواية الحرافيش للكاتب المصري الفذ نجيب محفوظ، وقد حققت هذه "التيمة" نجاحاً كبيراً بعدما تخطى عدد مشاهدات مسلسل الدّامة عتبة الـ55 مليون مشاهدة لعشر حلقات فقط.
لكن ذلك النجاح القياسي وجد نفسه في مرمى نيران كثيفة من كل الاتجاهات، يشبه إلى حد ما إطلاق النار على سيارة الإسعاف.
"الدامة" الدراما الجزائرية: هموم الحارات بدل مثالية المجتمعات
الحق أن هذه الموجة الجديدة من الإنتاج الدرامي الجزائري تأسست فوق رصيد سابق، حينما قدم مسلسل أولاد الحلال، المصور في حي الدرب بوهران الدرس منذ 3 سنوات كاملة، مستلهمة من قصة نجاح مسلسل أولاد الحلال، الذي كان ثمرة تعاون جزائري تونسي.
تمكن مسلسل أولاد الحلال من تقديم صورة يوميات سكان حي الدرب في وهران بأسلوب واقعي، على منوال مغاير لما كان مألوفاً من معالجات درامية سطحية أو مرتبكة بفعل الارتجال، وغياب المنافسة، وتحاشي الخوض في طابوهات المجتمع، فغاص في مواضيع الصراع الطبقي، والجنوح والفقر والتهميش في الحارات العميقة للبلاد.
فشهد الإنتاج الموسمي الخاص بشهر رمضان تطوراً ملحوظاً في تشخيص الواقع، وعلى هذا النحو تماماً استفادت موجة المسلسلات الدرامية الجديدة من عمق الاشتغال على الشخصيات والتصوير الممتاز والصورة المجودة والسينوغرافيا القريبة من بصر المشاهد.
عبّر الناقد السينمائي اللبناني الشهير خليل حنون، في منشور على صفحته عن تفاجئه من التصوير الجيد وعمق الممثلين والكاستينغ الجيد، وبروز ممثلين أطفال يرتجى منهم الكثير في مجال السينما في قادم الأعمال وطبيعي أن يستأثر طرح مشكلات يومية باهتمام ملايين المشاهدين بقصص تروي واقعهم القريب منهم، وتعرض نماذج تحقق خاصية التعرف المحلي على الذات، بعيداً عن مسلسلات القصور الفخمة والعائلات الأرستقراطية.
إلاّ أن هذه الطفرة التي تقدم منتجاً درامياً يخلو من مظاهر العري وخدش الأخلاق والإسفاف، قابلتها وللمفارقة الكبيرة، انتقادات لاذعة من جزء من الجمهور الجزائري، الذي هاجم طرح موضوع المخدرات بشكل اعتبره مهدداً للأخلاق العامة، لما ينطوي عليه من مشاهد عنف تساهم في التطبيع مع الجريمة.
وغالى آخرون في الاعتقاد بأن ترويج هذه النماذج مؤامرة تستبيح روح المجتمع، وتمس بالثوابت الدينية، ولا أدلّ على ذلك وفق ما يردده هؤلاء، ظهور شعار حركة ماك الانفصالية مرسوماً بجدار، في مشهد خارجي تم تصويره في سوق بحي باب الواد الشعبي.
ما استوجب على سلطة الضبط توجيه استفسار للتلفزيون العمومي الذي يبث المسلسل، عن سر ظهور الشعار للتنظيم الذي يتزعمه المغني السابق فرحات مهني والمطالب باستقلال منطقة القبائل والمصنف من قبل السلطات الجزائرية تنظيماً إرهابياً.
لقد أجج التحجج السياسي تحججاً أخلاقياً من نوع آخر، فطالب جزائريون بوقف بثه وشطبه من منصة اليوتيوب، لما يحتويه من إشادة بالأبطال المنحرفين، وتأثيره السلبي على الأطفال والمراهقين، وتشويه الحجاب، في إشارة لجريمة قتل ارتكبها تلميذ ضد زميله، جراء تنمّره على والدته التي تشتغل منظفة بيوت لتوفير لقمة العيش لولديها، وحماية لهما من الشرور المحيطة بهم في حارة تعيش مثل أغلب حارات الجزائر أوضاعاً معيشية صعبة.
سرعان ما شكل هذا التناول مادة دسمة لجزء من الرأي العام الذي شرع في محاكمة أخلاقية للمحتوى الهدام، ومهاجمة ممثلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة أن إحدى بطلات الفيلم، وهي فتاة محجبة جسّدت دور بائعة ممنوعات.
وإزاء تلك الهجمات التي وصلت قبة البرلمان الجزائري؛ حيث نحا بعض النواب موقف الجمهور المعارض، لتخرج بطلة الفيلم ريم تاكوشت، بتصريح مضاد ردت فيه بأن المسلسل لم يخترع جديداً، ولم يتجنَّ على القيم لتناوله مواضيع حساسة يعيشها المجتمع الجزائري، وجب التنبيه لها ودق ناقوس الخطر بدل التعامل معها تعامل النعام بدس الرأس في التراب، حتى ولو تضمنت مشاهد عنيفة، بما أن تعاطي المخدرات مشكلة تتربص بالشبان الجزائريين.
لماذا يرفض جمهور الشاشات مشاهدة واقع الحياة اليومية؟
لم تخطئ الممثلة الجزائرية في شيء، إذ يلاحظ الصحفيون المشتغلون في القضايا الأمنية بأنهم باتوا يتلقون منذ 5 سنوات كاملة، ما معدله 5 برقيات في اليوم، حول ضبط مصالح الأمن المختلفة لحجوزات الحبوب المهلوسة التي صارت تحمل أسماء شعبية مثل "الصاروخ" و"التاكسي" و"ليريكا" و"الزرقاء" و"الايكستازي" و"الحمراء"، لا، بل إن بعض هذه المسميات صار مألوفاً سماعها في أغاني عدد من مطربي راي الملاهي بشبهة الإشادة.
ما حدا بوزارة الثقافة بإصدار قرارات تمنع بث هذه الأغاني في التظاهرات الثقافية والفنية الشبابية، وأمام تفاقم هذه الظاهرة المرتبطة بالأمن القومي المجتمعي، فقد أوكلت السلطات العمومية لمصالح الجيش التي تملك الخبرات والتقنيات اللازمة في مكافحة الظاهرة بالتنسيق مع مصالح الشرطة.
وقد مكنت هذه السياسة، خلال السنة الماضية 2022 من توقيف 1600 تاجر مخدرات وضبط 10 ملايين قرص مهلوس، ناهيك عن تطور شبكات المتاجرة في الكوكايين، الذي سجل حضوره خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث أشارت إحصاءات رسمية إلى حجز ما يناهز 500 كلغ من المسحوق الأبيض العام 2021، في تطور نوعي نقل البلاد من مركز عبور إلى سوق استهلاك.
فيما أشارت غنية مقداش، مديرة الوقاية في الديوان الجزائري لمكافحة المخدرات خلال برنامج إذاعي حكومي، بث قبل أسابيع فقط، إلى أنه تم حجز 60 طناً من مخدر القنب الهندي المهرّب عبر الحدود الغربية، خلال العام الماضي، مفرزاً شبكات مهيكلة في الجريمة المنظمة.
من الطبيعي أن ينعكس ذلك في الوسط الشبابي ولدى المراهقين والمتمدرسين باستغلال أطفال في النقل، والترويج طمعا في كسب المال، ثم تسببه بشكل أو بآخر في جنوح الأحداث وبروز العنف في الوسط المدرسي الذي اتضح جلياً قبل أشهر عندما اعتدى تلميذ في الطور الإكمالي على أستاذة لغة عربية بسكين في الظهر، في ولاية باتنة شرق الجزائر، في واحدة من أفظع الاعتداءات المدونة في الوسط التربوي منذ الاستقلال.
بدا منتقدو الأعمال الدرامية التي نقلت المشهد من الواقع الصارخ إلى شاشات التلفزيون، كما لو أنهم يرفضون النظر إلى واقع اجتماعي ذي مخاطر جمة لا يجب السكوت عنها، أو كما لو أنهم يرفضون بدافع الطهارة الزائدة عن اللزوم، والنظرة الأخلاقية المتطرفة الحريصة على سمعة البلد على حساب حقيقة المجتمع المليء بالخير والشر على حد سواء، دونما اكتراث بقاعدة مهمة، هي أن إثارة "الطابوهات" هو بداية لحلها.
لذلك فلتستر عليها بعيداً عن توعية الرأي العام بها، يتركها تنمو في غفلة عن الإدراكين الفردي والجماعي بمخاطرها البعدية.
كسر الطابوهات والعلاج بالصدمة أولى خطوات الحل
يقول مثل إفريقي "عندما لا تشعر بالخطر فأنت في خطر، أما إذا كنت في خطر وشعرت بالخطر فأنت لست في خطر".
هذا تحديداً ما يؤكده الدكتور مختار كربال، أستاذ علم النفس العيادي بجامعة باتنة، والمختص في علم الإجرام وصاحب مشروع المكافحة الاستباقية للعنف في الوسط التربوي، حيث يقول:
"في رأيي يجب أن تتكفل السينما والدراما بإثارة الطابوهات لا التغاضي عنها، أما الخوف من تأثير تلك المشاهد على الناشئة فهو محتمل لدى فئات، لكنه لا يصح على جميع الفئات، تثبت الدراسات أنه ليس كل المتلقين مهددين باستنساخ ما يشاهدونه في الشاشات، الأمر مقصور فقط على من لهم استعدادات إجرامية هي في الغالب وراثية، كما أن الغاية النهائية من رسالة الدراما غالباً ما تظهر في نهاية العمل كمحصلة وليس من خلال الحلقات الأولى، مع أنه من واجب الأولياء مرافقة الأطفال في متابعة تلك الأفلام لتوضيح الخير من الشر، أما التغاضي عن ذلك فهذا خيار سيئ".
تكشف طريقة التفاعل مع المسلسلات الدرامية الجزائرية دراما من نوع آخر هي خوف المجتمع من النظر في المرآة، ما دامت السينما هي مرآة كشافة لبثور وعيوب الوجه.
ذلك لأن السينما ليست أداة خالصة للتربية، بل انعكاس لتربية المجتمع، تلك التربية التي تؤول بالدرجة الأولى إلى المؤسسات الرئيسة فيه، بدءاً من الأسرة مروراً بالمدرسة، وانتهاء بالمؤسسة الدينية الممثلة في المسجد.
أما الخوف من الحقيقة، فذلك سلوك يدل على انغلاق المجتمع وتزمته وتراجعه الثقافي، ثم محاولته في قالب آخر الظهور بمظهر ملائكي يتنافى مع ناموس الحياة المتمحور حول فكرة الله المجسد لقوة الخير، والشيطان الممثل لجبروت الشر، فيما يلعب الإنسان بمحض حريته دور مسؤوليته في الارتقاء من الوحل إلى السماء.
يتطلب ما سبق معالجة بالصدمة مثلما تفعله المسلسلات الدرامية، وفي هذا الصدد كتب البروفيسور الحاج أوحمنة دواق، أستاذ فلسفة الدين بجامعة باتنة تعليقاً حول الجدل المثار بشأن مسلسل الدامة، قائلاً: "السينما وسيلة قوية في إيجاد الأرصدة الصورية لذاكرة شعب، أو لصناعتها أساسا.
قياساً الى الواقع باستثمار قيمه ورصيده الروحي، وأحياناً صدمه لتغييره، فما نظنه سلبياً من حيث هو أكيد سيتضمن تصويبات متدرجة إيجابية وفعالة تعلن الأزمة لتتخلص منها، أو توحي بها للوعي بها والإحاطة بجوانبها.
ما يعتقده البعض خدشاً أو تبليداً للإحساس، ومسخاً للذوق بطريقة ما تعبير عن أدوائنا التي لم نجرؤ على مجابهتها أو التفكير فيها، أو الاعتراف بها ابتداء. ونحتاج للمضمون الجامع بين واقعية الألم وأفق الأمل، وخياله وتأمله والعمل له. الفنون مرآة الشعوب. تتجاوز بها مآسيها وترفد مصيرها بحلول مستجدة، فخيال اليوم وقائع الغد".
مسلسل الدامة.. ما وراء الرفض الديكتاتورية السينمائية
ثمة خلفية ثقافية مزعجة تكشف ثورة الرافضين لتطرق الدراما للآفات الاجتماعية التي تعكس الوجه القبيح للمجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات البشرية، يتعلق الأمر بذهنية تتعالى على الاعتراف العلني بالمساوئ الفردية والجماعية الآخذة في الانتشار على هامش المجتمع.
حرصاً على تقديم صورة ناصعة عن الذات الجماعية للعالم حتى لو كانت زائفة، لكنها تبدأ بفرض ديكتاتورية فنية، لتنتهي بقتل السينما في حد ذاتها، وتجريدها من وظيفة الطرح والإزعاج وتثوير الأوجاع.
كما لو أنهم كانوا من جهة أخرى انعكاساً خالصاً لثقافة أحادية ميّزت البلاد على مدار عقود طويلة حرمت الجمهور من امتلاك وعي سينمائي كان واعداً خلال سبعينيات القرن الماضي، عندما فازت أفلام جزائرية بجوائز عالمية غير مسبوقة وفريدة على مستوى العالمين العربي والإسلامي، مثل جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان 1975 للمخرج محمد الأخضر حامينا، عن فيلم وقائع سنين الجمر.
وكذلك جائزة الأوسكار بالتشارك مع المخرج العالمي "غوستا غافراس" عن فيلم "زاد" في العام 1970، لكن انغلاقها على الذات وسقوطها في فخ المدرسة الثورية، جعل جل إنتاجاتها تدور حول ماضي الثورة التحريرية التي تجد كل الرعاية المادية والسياسية والدعائية.
لقد كرّس ما سبق نوعاً من عدم التماشي مع التطورات اليومية على صعيد التحولات الثقافية والاجتماعية لأجيال ذات متطلبات حياتية لا ترتبط بالضرورة بحكايا الثورة التي خضعت لما يشبه الأسطرة والتقديس.
فقد انتظر الجزائريون طويلاً حتى العام 1976 ليروا فيلماً يعالج واقعهم اليومي بعيداً عن قداسة الثورة والبطولات الخارقة بإنتاج "عمر قتلاتو الرجلة" لمرزاق علواش، الذي ركز في مشكلات تخص المعيشة اليومية للجزائريين بدل النظر في المرآة الماضوية العاكسة، أو الترويج لأيديولوجية الدولة الاشتراكية وثوراتها الزراعية والصناعية والثقافية.
نال الفيلم الجائزة الفضية في مهرجان موسكو في ذات السنة، وصنف في خانة الواقعية الجديدة، وكان يمكن أن يكون انطلاقة مبشرة لسينما رائدة في العالم الثالث.
لولا الانغلاق السياسي والثقافي الذي عجّل بهجرة أغلب المخرجين الجزائريين نحو أوروبا، إنقاذاً لأحلامهم الفنية من الوصاية الإيديولوجية والأبوية الرسمية، وخلف ذلك انغلاقاً مكرراً لدى المشاهد الجزائري، صار قريباً من سكيزوفرنيا المجتمعات، لينتج كمحصلة نهائية صدمة آنية من النظر في الشاشة لآفات باتت خبزاً يومياً تقتات منه القنوات الخاصة، وصفحات الحوادث، وأخبار الجرائد الوطنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.