رغم مرور سنتين على عرضه.. لماذا ما زلت أرى أن “اختفاء” من أقوى المسلسلات المصرية؟

عدد القراءات
957
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/30 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/30 الساعة 15:07 بتوقيت غرينتش
مسلسل اختفاء

تنويه: المقال قد يحتوي على حرق لبعض أحداث المسلسل

أولاً: الفكرة

أكثر ما أعجبني في المسلسل هو الأفكار القوية والأصيلة التي يحملها ويروّج لها، فالفكرة الرئيسية لمسلسل "اختفاء" هي أن "عدالة السماء سوف تُطَبَّقُ ولو طال بنا العمر"، وكذلك "هل يحلُّ علينا التاريخ بما هو صحيح على الدوام أم يتم تشويهه أثناء تواتر السنوات؟"، ولا يمكن أن ننسى "عصر الاستبداد ومراكز القوى بمصر في فترة الستينيات من القرن العشرين، واستخدام عناصر المخابرات لنفوذهم من أجل غاياتهم وأهوائهم الشخصية وكم يكون ذلك مدمراً"، هذا غير مسألة في غاية الخطورة وهي "هل يبرر العشق المجنون القتل في سبيل من نحب؟! وهل تتحقق السعادة فيما بعد؟". كلها أفكار محورية في المسلسل، وجميعها نال إعجابي الشديد واحترامي للكاتب. وأظنها أفكار تنال إعجاب كل من يشاهدها.

ثانياً: الحبكة الدرامية

تنقسمُ الحكاية إلى محورين أساسيين: "شريف عفيفي الصحفي الروائي -هشام سليم- الذي يسعى بشق الأنفس لنشر روايته التي تفضح أحد أعلام ريادة الأعمال (سليمان عبدالدائم). فقد اتهمه بارتكابِ جريمة قتل منذ خمسين سنة. وزوجته فريدة -نيللي كريم- أستاذة الأدب الروسي في جامعة القاهرة التي عاشت معه قصة حب كادت تفنى أمام معوقات الحياة واليأس، وهي شبيهة ببطلة المحور الثاني للمسلسل، مما يضعها فى مأزق كبير". والمحور الثاني عام 1968 بالتحديد، مع "نسيمة سوفاليان -نيللي كريم أيضاً- وهي الأرمينية التي أحبت تراب مصر وعاشت عليه طيلة عمرها، ولم تشأ العودة إلى موطنها الأصلي مع أهلها وبقيت تحيا للحرية. أحبَّت الرسام المغمور نادر الرفاعي -محمد علاء- وقصتهما تكادُ توازي غرام روميو لجولييت. هذه القصَّةُ التي أربكها سليمان عبدالدايم -محمد ممدوح- إلى حد الدمار".

ثالثاً: الأداء

أرى -عن نفسي- أن نيللي كريم -في كلا الدورين خاصةً في دور نسيمة سوفاليان- قد استحقت وعن جدارةٍ وساماً. نيللي أثبتت أنها قادرة على لعب العديد من الأدوار واستغلال طاقاتها في مساحات مختلفة.. هذه المرَّة، جاءَتْ بهذا الشعر الأشقر القصير، وحذاء أسود ذي خطٍّ فضي من الخلف، تتهادَى به كما الدمية الوسيمة. إلى عاشقةً ضاع معشوقها في وسط حب التملُّكِ. أتَتْ ترسمُ تطوُّر شخصيةٍ من شدَّةِ الحرية والحياة، إلى شدَّةِ القيدِ والموت. ماتَتْ نسيمة سوفاليان تدريجياً حتى وإن لم تكنْ فَنَتْ جسدياً. ونيللي رسَّمَتْ حدودها ترسيماً.

أيضاً مما لا ريب فيه أن محمد ممدوح قد تفوق على نفسه، فهو يقدر على إرسال القشعريرة في الأبدان بمجرد نظرة شرسة. وكذلك أن يرسل الضحكة من خلال نكات بسيطة منه. إنَّه يطرحُ علينا سؤالاً من خلال هذه الشخصية عجيبة الشأن: أنَّى للمرءِ أن يحيكَ وهماً شديد الاتساع ويعيش فيه لمدَّةٍ تزيدُ على خمسين عاماً دونَ أن يهلَكَ؟ فذكاء سليمان عبدالدايم قد وَهَبَهُ مَلَكةً، ألا وهي "اختلاق الوهم والحياة فيه". اختلق الكذبة الأولى، وهي أنَّ نسيمة سوفاليان تعشقه لولا وجود زوجها "نادر". والكذبة الثانية، ألا وهي "نسيمة سعيدةٌ معي، لكنَّها مرهقةٌ بعض الشيء"، والكذبة الثالثة، ألا وهي "نسيمة مَاتتْ وهي تحبُّني.. نسيمة ماتَتْ وسأبقى مخلصاً لها ديني ما حييتُ"، والكذبة الرابعة، ألا وهي "فريدةُ هي نسيمة وينبغي التفريق بينها وبين زوجها لتكونَ لي". وفي النهاية، جاءَتْ الحقيقة بوصول هذه المرأة العجوز إليه وهو على فراش الموت، لتدكَّ له أكاذيبه كافةً على أمِّ رأسه. فيموتُ وهو يعلمُ أنهُ لم يصطنع إلا الهراء. وقد كانَتْ عيشته تلك (التي تعجُّ بالأوهام) خير عقابٍ إلهي على استغلاله التعسفي لسلطته في تعذيب الآخرين.

محمد ممدوح في مسلسل اختفاء

أيضاً رفع المسلسل الستار عن أداء ممثل رائع أراه مبدعاً وهو محمد علاء. كان رجلاً رقيقاً ووديعاً جداً، لينال تعاطف الكثيرين حقاً. في البداية، تبدو عليه شيم أصحاب الأفكار الماركسية والشيوعية التي انتشرت خلال فترة الستينيات من القرن العشرين. فهو هذا الرسَّام ذو الشعر الأشعث والسلسلة المحيطة بجيده، ومنزله فوضوي يعجُّ بالأسطواناتِ لموسيقات أجنبية. لكن مع توالي الأحداث، تتعرَّفُ على رجلٍ آية في الخجلِ والحياء، والحبِّ البريء. لقد تآلف مع نسيمة وحاولَ أن يحيطها بسياجٍ من الحماية. فهذا المشهدُ الذي عرفا خلاله أنَّ منزلهما مراقبٌ كان خير دليل على ذلك. فجأة، استطاع أن يسحب المشاهِدَ معه وهو يقصصُ على امرأته حكاية كي تنام بأمنٍ وبلا خوفٍ. حكى لها معاناته مع أبيه الذي لا يقدّر موهبته. سردَ في كلماتٍ وجيزة مخاوفه وآلامه وأحزانه. استطاع "محمد علاء" أن يخطط شخصية نادر الرفاعي باحترافٍ، لتجعل الجميع غير قادر إلا على أن يتأثر معه ومع مآلاته النهائية.

محمد علاء في إحدى مشاهد المسلسل

رابعاً: الموسيقى

في الوهلة الأولى، تتبدَّى روعة الموسيقى في تتر المقدمة، الذي يبدأ بأنَّ أحدهم قد شغَّلَ مسجلةً، ثمَّ تتوالى الأحداث كأنَّها أسطورة وهمية غير حقيقية. تتلاحق المشاهد متقطعةً خلال هذه الدقائق القليلة، لتعلنَ أنَّ القادمَ سيكون ملحمياً. ثمَّ تبدأ الحلقات مع موسيقى هي أشبه بالأوبرا منها إلى الموسيقى العادية. عنصرٌ أساسي من احتكام حبكة الرواية هو الموسيقى. فهي تعبقُ بالحنين إلى الماضي، وإلى العصور الغابرة حينما كانت الأنثى أنثى، والرجل رجلاً.

في الختام، كانت رحلة مشوقة هذه التي خضتها وأنا أعيش في هذا المسلسل بلمحاته الإنسانية المتعددة. ورغم مرور سنتين فإنني ما زلت أرى أن هذا المسلسل من أهم المسلسلات المصرية على الإطلاق. وخاصة الثلاثي "نسيمة وسليمان ونادر". فقد كان هذا الثلوث الشيطاني مرعباً في روعته، في واقعيته، في كآبته، وفي قدرته على سحب البساط من جميع جوانب المسلسل الأخرى. هذا لا يقلل من قيمة بقية الحكاية. لكن هذا الجزء على وجه التحديد، هو الحلمُ بعينه. قلما يشهَدُ المرء على عملٍ قيِّمٍ يخلبُ الألباب. وهذا العمل خَلَبَ لُبِّي وقلبي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إنجي خالد أحمد
معيدة بجامعة القاهرة ومهتمة بالنقد الأدبي والفنِّي
معيدة بقسم العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة؛ وأحضر الماجستير فى النظرية السياسية. لدي بعض الروايات المنشورة الكترونياً أهمها روايتي (رقصة فى وادي القمر) و(معشوقتي أنا). كما لدي بعض القصص القصيرة المنشورة الكترونياً وكذلك مقالاتٌ (سياسية وأدبية) فى جريدة "النخبة" الصادرة شهرياً عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. أهوى النقد الأدبي والنقد الفنِّي؛ وشغوفة بالقراءة والتحليل السياسي للنصوص الأدبية والفنية.
تحميل المزيد