احتفى صنّاع مسلسل "ماوراء الطبيعة" بانتهاء تصوير العمل، وسط أجواء متشوّقة لخروج العجوز رفعت من حيّز الورق الذي بقي محبوساً فيه منذ العام 1993م حتى اليوم، وهو الخبر الذي أثار ردود فِعل واسعة خاصة عند جيل الثمانينيات من شباب مصر الذين أدمنوا هذه الروايات وتحوَّل بطلها وصاحبها إلى أيقونات خالدة في نفوسهم وعقولهم.
وعلى الرغم من السعادة التي كان مفترضاً أن أعيشها بصفتي قارئاً عتيداً لسلسلة أعداد "ما وراء الطبيعة"، تربّى على مغامرات رفعت التي لا تنتهي في الدروب والقلوب والجبال والوديان، فإنني أعلم يقيناً أنني سأكره هذا المسلسل حتى قبل أن أشاهده في موعد عرضه المرتقب في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام.
ستحمل تجربة مشاهدته الكثير من المشاق على نفسي، رغم حماستي المبدئية لهذه التجربة فور الإعلان عنها، ولم ينطلق هذا الموقف إلا من منطلق عددٍ من الأسباب التي أحسبها منطقية.
أولاً: حُلم بعد فوات الأوان
عاش الدكتور أحمد أواخر سنين عُمره يتمنّى تحول أيٍّ من أعماله إلى السينما أو التلفزيون، وهي الخطوة التي سبقه إليها زميله في المؤسسة العربية الحديثة الدكتور نبيل فاروق صاحب روايات "رجل المستحيل" الشهيرة، بعدما كتب فيلم "الرهينة" ومسلسل "العميل 1001″، وهي الخطوة التي استعصت تماماً على العرّاب رغم تحقيق سلسلة "ما وراء الطبيعة" نجاحاً مدوِّياً يجعل تحويلها إلى عمل سينمائي خطوة مضمونة النجاح، لكنها لم تتم قط.
وكان العرّاب كلما دخل في مشروع يتبنّى عمله على الشاشات يتوقف بعدها من دون أسباب؛ ما دفعه إلى السخرية من نفسه يوماً بالقول إن تعوذية سحرية تُطارده.
أخيراً، حلّت التعويذة جدائلها وسيخرج عملك إلى النور يا دكتور أحمد عبْر شبكة تلفزيون عالمية، لكنّك لن تشاهد كل هذا ولن تسعد به وكذلك أنا.
ثانياً: رفعت إسماعيل مِلكي وحدي
هو صديق طفولتي الأول والأخير، وصانع الجزء الأكبر من ذائقتي وثقافتي، معه خضت مغامرات في ليبيا واليونان ومقابر قرية مصرية منسيَّة وقصر روماني ممتلئ بمصاصي الدماء، حاربت معه أعداءه وقرأت له تعاويذ الحماية وأمّنته من المذؤوبين برصاص الفضة.
صنع له خيالي هالة أسطورية وصورة كريمة لا تهتز عن ذلك البطل العادي الذي فعل كل شيء عادي، فكيف يُمكن أن أشاهده على الشاشة مصنوعاً من رؤية المخرج عمرو سلامة بعدما ظلَّ لعقود يحيا بداخلي معتمداً على رؤيتي وحدي ورسومات الفنان إسماعيل دياب التي كانت تُوضع بين الصفحات وقدّمت لي ملامحه للمرة الأولى وهو ما اكتفيتُ به تماماً ورفضت أي محاولة لتعديلها ولو بشكلٍ بسيط.
أتذكر أنه حين تُوفِّي إسماعيل دياب في العام 2005م، وحلَّ بدلاً منه رسام جديد عدّل قليلاً في شكل رفعت إسماعيل داخل الأعداد الجديدة، وهو الأمر الذي أثار غضبي واعتبرت فِعلته لا تتماشَى مع رفعت إسماعيل الكائن في عقلي، وتساءلتُ ساخطاً: كيف تجرّأ الرسام الجديد على تغيير ثوابتَ ما ورائية عشتُ عليها أعواماً طويلة؟
ولم يهدأ لي بال إلا بعدما قطّعت الرسومات كافة، وأقرأ العدد كاملاً دون مطالعة أيٍّ منها، والآن سيكون عليَّ خوض تجربة مشاهدة "مسلسل" كامل لرفعت إسماعيل آخَر غير الذي سكن خيالي منذ أن وعيتُ على الدنيا.
ثالثاً: ماجي ليست حمراء الشَّعر
طالعتُ في الصور التمهيدية المُلتقطة من الحلقات المرتقب نزولها بعض صور لبطلة العمل رزان جمّال التي من المفترض أن تلعب دور "ماجي ماكيلوب" حبيبة رفعت الأسكتلندية " التي تمشي على العود دون أن تثني واحداً" من فرط رقتها وجمالها.
أجاد المخرج اختيار ممثلة حسناء بحقٍّ تليق على الدور وعلى الوصف الأسطوري الذي لطالما منحه رفعت لحبيبته طوال الأعداد، إلا أنها لم تكن حمراء الشَّعر كما سيُظهرونها في المسلسل، وإنما شقراء ذات عينين زرقاوين خلابتين وهو ما ظهر عكسه في الصور!
أعلم أنها تفصيلة صغيرة قد يستصغرها البعض، لكنها تفتح الباب لمخاوف كبيرة داخلي عن حجم التغيير المتوقّع الذي أحدثه عمرو سلامة في الأحداث لتلائم رؤيته الإخراجية، وهو أمرٌ سأرصده حتماً من أكبر تفصيلة لأصغرها عندما أشاهد العمل، وستكون كل واحدة منها شوكة في حلقي على عالم العرّاب الذي تغيَّرت معالمه دون موافقته.
رابعاً: أين رفعت العجوز المتهالك؟
لم تكن صدمتي الوحيدة في الصور هو الإطاحة بشعر ماجي الأشقر، وإنما مع شخص رفعت نفسه الذي يقوم بدوره الممثل المجتهد أحمد أمين.
يعلم المخضرمون في قراءة أعداد السلسلة أننا خضنا هذه المغامرات كافة مع كهلٍ في الأربعين من عُمره، ولم نره شاباً قط إلا في أعدادٍ محدودة؛ بل ظهر في بعض الأعداد الخاصة كعجوز أصلع هرِم يقاوم مرضه وشيخوخته من أجل إنقاذ العالم من شيطانٍ ما، وهو ما زاد من روعته ومنحه سحراً لا يُقاوَم عن ذلك الـ"Anti Hero" الذي لا يمتلك عضلات أدهم صبري ولا ذكاء نور الدين محمود، لكنه لا يكفّ عن المحاولة والنجاح.
لم أستشف أيّاً من هذا من إطلالة أحمد أمين، الذي حتى وإن حافظ على البدلة الكحلية التي كانت تجعل رفعت فاتناً، فإنه لم يتخلص من صفاء وجهه وشباب عينيه، فظهر قوياً متماسك البنية غزير الشعر وهو ما يُناقض تماماً رفعت إسماعيل.
هذا الظهور الشبابي يُزيح عن بطل "ما وراء الطبيعة" جانباً كبيراً من تميزه السابق وهو أنه غير مميز على الإطلاق.
خامساً: إنتاج "نتفلكس"
عاش العرّاب يحلم في أواخر عُمره بأن يرى عمله على الشاشات المصرية، ولكن خذله المنتجون المصريون، وكلما أتاه عرض لإنتاج أيٍّ من أعماله تحمّس ووافق وتساهل وفي النهاية لم يكن يكتمل لأسبابٍ عِدة.
لن أستطيع أن أمنع نفسي أبداً من الشعور بقدرٍ من الضيق وأنا أتابع العمل على شاشة أجنبية، بعدما تنصّلت المنظومة الإنتاجية المصرية من الاستثمار في واحدٍ من أكثر الشخصيات الروائية نجاحاً في حقل الأدب المصري خلال الأعوام الأخيرة، لكنها عجزت عن استغلال ذلك لأسبابٍ متعددة، بعضها مجهول وأكثرها غريب.
للأسف، أتَى الحل من "نتفلكس" التي تمتلك قُدرة إنتاجية عالية وعالمية، لكنها بالمثل تُروِّج لحزمة من المبادئ والأخلاقيات التي لم يكن يؤمن بها الدكتور أحمد قط، ولطالما عبّر عن ذلك على لسان المتحدث الرسمي باسمه الدكتور رفعت إسماعيل، الذي قدَّم نموذجاً كلاسيكياً للرجل المصري المتدين الذي لا يكفّ عن الصلاة والاستشهاد بالقرآن في أحاديثه وفي حربه ضد قوى الشر.
لا أتوقع طبعاً أن تُقدَّم أفكار رفعت إسماعيل التي تُعادي الإسرائيليين وتعتبرهم اغتصبوا أرض فلسطين، خلال الأحداث، وبالتأكيد فإنه سيكون هناك التزام تام بالجانب الخوارقي من مغامرات الرجل دون التطرُّق إلى بقية آرائه التي تنصر حركات المقاومة ضد قوى الاحتلال.
فهل ستلتزم "نتفلكس" بكل هذا؟ أم ستصرُّ على وضع قدْرٍ من خلطتها التي نتابعها في معظم سلسلاتها بمشاهد تروّج للمثلية الجنسية وللعلاقات التي لا تعترف بأواصر الزواج ولنُّصرة اليهود؟
وأكبر مثالٍ على ذلك هو تجربتها العربية الإنتاجية الأولى لمسلسل "جن"، الذي أثار جدلاً كبيراً، لأنه صُوِّر بعقلية أوروبية على الرغم من وقوع أحداثه في الأردن، فتضمَّن مشاهد جنسية وشتائم نابية أثارت انتقادات جمّة، بدعوى أنها لا تنسجم مع طبيعة المجتمع الأردني حتى لو أدّاها ممثلون أردنيون.
لذا على الأرجح فإننا سنشاهد "نسخة منقحة" من عزيزنا رفعت، تتخلّى عن كل ما ينصر بني قومه ويروّج لثقافتهم لصالح "نسخة أكشن" تكتفي بالركض والحرق وفك التعويذات وقتل شياطين جانب النجوم، والمفارقة أن هذا الجانب الساخن الذي سيكتفي المسلسل به لطالما أعلن العرّاب أنه مجرد قشرة يستخدمها للوصول إلى قلوب وعقول الشباب؛ كي يغرس فيها القيم والمبادئ والثقافة العربية وهذه هي رسالته الأساسية من أعماله.
سادساً: تحويل الروايات إلى أفلامٍ مخاطرة كبرى
كلما سمعتُ عن تحويل إحدى رواياتي المفضلة إلى فيلم تحسستُ مسدسي! وباستثناء فيلمي "العطر the perfume" و"ذهب مع الريح gone with the wind" سقطت الأفلام كافة التي ارتكزت على رواية أحببتها في الاختبار حتى في ظل الاعتماد على روايات قليلة المستوى نسبياً كـ"الفيل الأزرق" و"لا أنام" وغيرهما.
لا شيء يضمن أن تستمر هذه القاعدة للأبد بالطبع، ولكن الفكاك منها ونيل لقب الاستثناء سيتطلبان من عمرو سلامة وفريقه مجهود بُناة الأهرام وحظ كولومبوس وموهبة دافنشي، فلأتعشم أن يتمتعوا بها حتى ينجحوا في مهمتهم وينتجوا مسلسلاً جميلاً سأكرهه في جميع الأحوال!
سابعاً: فلاحو كفر بدر لن يُشاهدوا المسلسل
إذا تركنا خيط الخيال على عنانه، وسمحنا لأنفسنا باعتبار أن قرية كفر بدر بمحافظة الشرقية التي وُلِد فيها الدكتور رفعت حقيقية، وهو ليس بالأمر المستحيل تخيُّله فكما عرفناها من سطور العرّاب لم تختلف كثيراً في تكوينها عن قُرى أعماق الريف المصري؛ الكثير من الزرع والطين والجهل والفقر.
هنا سنكون على موعدٍ مع مشكلة كبرى؛ ففلاحوها لن يستطيعوا الفُرجة على مسلسل ابن بلدتهم؛ لأنهم سيعتبرون أن مبلغ الـ16 دولاراً قيمة الاشتراك الشهري في المنصة التلفزيونية باهظاً في ظِل ظروفهم المالية الصعبة، وحتى وإن دبّروا المبلغ جماعةً واقترض بعضهم من بعض، فعلى الأغلب ستكون خدمات الإنترنت التي تصل إلى هذه القرى النائية في أسوأ أحوالها وستُعكِّر عليهم صفو مشاهدة "فخر القرية" وهو يُجسَّد على الشاشات العالمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.