لا يمكن لأحد اليوم أن ينكر الدور الذي تلعبه الدراما في بناء القيم أو هدمها، فالدراما تعتبر سريعة الانتشار والتأثير خاصة على فئة الشباب. وقد شاهدنا كيف غزت ثقافة هوليوود وبوليوود الدول الإسلامية عن طريق الدراما، ولا شك أن أغلب الصناعات الدرامية في العالم العربي أو خارجه تعمل على تسويق قيم بعينها، بشكل مباشر أو غير مباشر. حتى أن هذه التي تنتج في العالم العربي أحياناً قد تكون أكثر سوءاً وهدماً للمجتمع من الغربية، فنادراً ما تجد أعمالاً درامية هادفة تخدم القضايا العادلة للأمة أو تذكّرها بتاريخها أو تحمل قيماً بين طياتها كالعدل والتضامن والشجاعة والصبر وغيرها.
اليوم جئت أحدثكم عن أحد هذه الأعمال الاستثنائية والنماذج الجيدة وهو مسلسل "المؤسس عثمان"، وهو من كتابة وإنتاج التركي محمد بوزداغ. ويأتي هذا العمل كمتابعة لمسيرة مسلسل "قيامة أرطغرل"، الذي أعتبره نموذجاً للدراما التاريخية الهادفة، التي لا تسرد أحداثاً ووقائع تاريخية فقط بل تحمل قيماً ورسائل كثيرة في جعبتها. وقد استطاع هذا المسلسل تحقيق نسب مشاهدات عالية داخل تركيا وخارجها، وذلك منذ بدأ عرضه لأول مرة عام 2014، وهذا يفند بشكل ملموس الادعاءات بأن الأعمال الهادفة لا يمكن أن تحقق نجاحاً، وأن الجمهور اعتاد نوعية معينة من الأعمال. فقد حظي "أرطغرل" بمتابعة واسعة لدى 71 دولة حول العالم، وهذا النجاح الكبير لم يستطع أي عمل إعلامي عربي تحقيقه حتى الآن رغم وجود كل الإمكانيات. وقد تجد الأعمال الدرامية العربية أحياناً على نقيض تام مع ثقافة الشعوب، وسنتوقف عند مجموعة من الرسائل الحضارية والقيمية التي يوجهها مسلسل "المؤسس عثمان" للمشاهد.
مما لفت انتباهي هو مكانة العلماء داخل المسلسل، المتجسدة في دور الشيخ أديب علي الذي ينصح الناس، ويستخلص لهم الدروس والعبر من القرآن والسيرة النبوية ويحثهم على الاستفادة منها. ومن المشاهد الفاصلة عندما رفض الشيخ أديب في البداية تزويج ابنته لعثمان، فلم يعترض هذا الأخير ويغضب من الشيخ كونه ابن سيد قبيلة القايي أرطغرل.. بل على الرغم من ذلك وصف الشيخ بأنه شخص عظيم، ووراء رفضه حكمة.
الملاحظ كذلك تناول محمد بوزداغ للأحداث برؤية إسلامية، إذ أبرز ثقافة الشورى في اتخاذ القرار داخل خيمة السيادة وعدم انفراد سيد القبيلة بالقرار وحده، كما تم إبراز قيم التضامن، والعدالة، وعدم السماح لأي كان بمخالفة الأعراف حتى لو كان سيد القبيلة، وعدم الذل والاستسلام، مع الثقة بالله، والصبر عند البلاء والمصائب، والعفو. كما التسامح الذي يتجلى في مشاهد عديدة أبرزها إنقاد عثمان لسامسي رغم الخلاف الذي كان بينهما، وهذا يدل على النخوة وتجنب الأحقاد والضغائن.
مما يلاحظ كذلك أن المسلسل قدّم المرأة بصورة لافتة، فهي المقاتلة والمحاربة التي تمارس السياسة وتعيش هموم أهلها ولا تتذمر. ومن المشاهد المؤثرة التي تبين هذه الصورة أن عليشار عندما طلب من إيجول عدم التدخل في شؤون الرجال، أجابته بقوة: "أنت تخلط بيني وبين النساء اللواتي يركضن لخدمتك في قصرك، أنا من قايي، أكون امرأة في يوم ورجلاً في يوم آخر".
كما يقدم المسلسل شخصية "بالا" الشابة القوية المتزنة الرصينة والتي تفكر جيداً قبل مخالفة أوامر والدها، والتي تكرّس حياتها لخدمة قضية أمتها.
لكثرة الرسائل الإيجابية التي يحملها المسلسل بين طياته لا يسعنا الوقوف عندها كلها، والحقيقة أن الرسائل التي يوجهها مسلسل "المؤسس عثمان" تتشابه إلى حد كبير مع الرسائل التي يحملها سلفه "أرطغرل" فهو يعتبر بمثابة تتمة له. ولذلك أردت أن أسلط عليه الضوء وألفت القراء لهذا العمل، الذي ورغم بعض الانتقادات الموجهة له، فإن المتفق عليه هو أن إيجابياته تغلب على سلبياته، وما أتمناه هو أن تقوم إحدى القنوات العربية بدبلجته كي تتمكن فئات أخرى من متابعته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.