مسلسل أقوى من الزمن.. لماذا لا يموت “لن أعيش في جلباب أبي”؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/16 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/16 الساعة 10:44 بتوقيت غرينتش
مسلسل أقوى من الزمن.. لماذا لا يموت "لن أعيش في جلباب أبي"؟

"التاريخ ليس هو الزمن، ولا هو النشوء.. كلاهما نتائج. الزمن حالة؛ إنَّه اللهب الذي يعيش فيه سمندر النفس البشرية".

يمتزج الزمن والذاكرة معاً في رؤية الكاتب الروسي أندريه تاركوفسكي بحيث لا يمكن فصل كل عنصر وإعادة المكونات الأولية خارج المركب الجديد، وقد مثلت السينما بالنسبة له ملقاط الزمن، فيقول: "لقد اكتسب الإنسان منبتاً للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في عُلبٍ معدنية لفترةٍ طويلة وإلى الأبد".

كانت ساحة السينما المصرية حقلاً فسيحاً أمام مخرجين وكتاب أعدوا الطعم جيداً واصطادوا الزمن ثم قدموه هدية للأجيال القادمة. لنتجاهل تماماً المتعة العائدة من الذهاب إلى دور السينما، ولننظر لكونها تأريخاً واقعياً يسرد حالة المجتمع على مدار حقب زمنية متتالية، بجمعها يمكن الخروج بصورة قريبة لتطور الحياة في مصر.

أخرج محمد بيومي أول فيلم روائي مصري صامت بعنوان "برسوم يبحث عن وظيفة" في عام 1923، قدم نقداً جارحاً لثورة 1919، وعكس حالة العوز والفقر وقتال المصريين على رغيف الخبز في ذلك الوقت.

ومثلما شكلت الحرب العالمية الثانية نقطة انطلاق نحو فلسفة جديدة تدعى الوجودية، تمسك رائدها جان بول سارتر بفهوم الالتزام وبطرح قضايا تمس المجتمع، وتشاركه همومه وعقبات حياته اليومية. وساهمت أيضاً الأحداث السياسية والصدمات التي مرت بها مصر في طرح أفلام هي أقرب لمرآة يرى فيها المجتمع ذاته، تعكس تجاعيده وشقاؤه كما تشاركه أيضاً سعادته وحياته الاجتماعية اليومية.

تبنى الكتاب وصناع السينما "الالتزام" كما تبناه ودافع عنه سارتر، امتزجت أفلام مثل اللص والكلاب، ميرامار، ثرثرة فوق النيل مع قضايا الإنسان والمجتمع. في المقابل، تمت تنحية المبادئ العامة التي لا ترتبط بوعي العصر ومشكلاته جانباً وأفسحت المجال للحديث عن مشكلات محددة. أعلن نجيب محفوظ موت الحدوتة وأصبحت الأفلام تروي قصة محكمة لها دلالات اجتماعية وسياسية، كما أفسح المجال للطرح الفلسفي والإنساني في أفلام مثل الشحاذ والطريق وقلب الليل.

من الضروري وضع نجيب محفوظ جانباً وتناول تجربته وحيداً باعتباره الأب الروحي ومن فتح الباب أمام يوسف السباعي، وصبري موسى، وعبدالحميد جودة السحار، وصلاح حافظ وغيرهم ممن ساروا نحو وجهته بطرق وخطوات مختلفة.

مسلسل لا يقاوم 

يمكننا وضع الأعمال الأدبية والسينمائية والمسلسلات في سلة واحدة. إذ إن جميعها يمزج بين عالم الأحلام والواقع، فهي أحلام مصنوعة، من مادة ملموسة، وبأدوات تنتمي لعالم اليقظة، راقب التفاعل مع إعادة عرض مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، المأخوذ من قصة لإحسان عبدالقدوس تحمل نفس الاسم.

 بمرور الزمن لا يشيخ ولا يأتي من ينزع عنه صفة الخلود، هناك إدمان نحو هذا العمل الدرامي بالتحديد، إدمان مدخن شره يطفئ سجارته ثم يشعل الأخرى، نفس حال مدمني قصة حياة الحاج عبدالغفور البرعي، بعد نهاية المشاهدة تعاد مجدداً دون ملل فحتى لو أصبحت المشاهدة من قبيل العادة، فهي عادة يصعب تخيل التخلي عنها.

إن جوع الواقع على حد تعبير الكاتب الأمريكي ديفيد شيلدس هو ما يحركنا للاحتفاء بالأعمال التلفزيونية التي تساعدنا على فهم الواقع الحالي. وقد يكون هو نفس السبب الذي ساهم في احتفاء النقاد والمشاهدين على حد سواء بأعمال مثل "سجن النسا" و"هذا المساء" و"سابع جار".

الكاتب المصري إحسان عبد القدوس

يرى الفيلسوف آلان دو بوتون أن ما يعرض على الشاشة يمكنه مساعدة الناس على عيش حيواتهم بطريقة أفضل. وذلك بتقليل الجدية في التعامل مع مشاكلنا على أنها نهاية العالم، فتجعلنا نسخر منها عندما تتجسد بسخرية أمامنا على الشاشة. وقد يكون أحد أسباب تجديد اللقاء مع "لن أعيش في جلباب أبي" أنه قصة مستمدة من الواقع تدفع لمشاهدة ما يجري في الشارع وما يجري داخل أغلب البيوت المصرية، نراها بعين المشاهد وتتجلى في شخصياتها انعكاسات لأشخاص حقيقيين في حياتنا اليومية. 

إذا سلمنا لأن الأعمال التليفزيونة القادرة على النفاذ إلى قلوب المشاهدين بنقل تفاصيل من حياتهم أصبحت شحيحة في حال لم تكن معدومة، سنجزم مما لا يدع مجالاً للشك بأن "لن أعيش في جلباب أبي" استطاع التوغل في تفاصيل الحياة العادية، فغير نظرتنا لها وأخفى الضجر والملل، وجعلنا ننظر لذواتنا بشكل أعمق لا يخلو من الضحك والكوميديا.


عودة المعلم سردينة

بالنسبة للأجيال التي عاصرت عرض المسلسل للمرة الأولى في أواخر عام 1996 تمثل تجربة إعادة المشاهدة استعادة للحنين والدفء الذي صاحب العرض الأول للمسلسل، ذكريات الطفولة، وقصة نجاح عبدالغفور البرعي وشق طريقه في الحياة، ربما يكون حنيناً للنوستالجيا.

 لكن إعادة إحيائه من قبل جيل الألفية الجديدة أو كما يسمى باللغة الإنجليزية (Generation Z)  ومع انتشار الميمز والصور المتحركة بين الحاج سردينة وعبدالغفور البرعي، بدت مشاهد المسلسل وكأنها قطوف من الحكمة بعباءة الماضي تنطق بلسان الحاضر الآني على الرغم من مرور كل تلك السنين، وأن من يصدرها الآن للحياة هو جيل أصغر من عمر العرض الأول للمسلسل.

المعلم إبراهيم سردينة

إن السمة الرئيسية التي ميزت أفلام ومسلسلات القرن العشرين التي لا تزال حية وباقية حتى الآن، هي الالتزام. مع رائعة إحسان عبدالقدوس يمكن إسقاط عبدالغفور البرعي على أوجه الغرباء في الشارع، وفاطمة أو فطنة -كما تلفظ في المسلسل- في أمك بكل ما تحمله الشخصية من أصالة وقوة ودعم، المعلم سردينة وحكمته التي لا يبخل بها على تلميذه نور الشريف في الوكالة.

لكن الشخصيات لم تكن نفسها العامل المشترك بين المسلسل ونظيره من الأعمال الأخرى التي خاطبت المجتمع بصورة من واقع المجتمع نفسه، فعلى الرغم من طغيانها على باقي السمات، إلا أنها مع المتعة الفنية رسخت لخدمة رسالة العمل، وربما يكمن السر وراء الاحتفاء بأعمال القرن الماضي بسبب أنها خرجت من مبدعين تبنوا شيئاً وسخروا أدواتهم للنطق به.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد