كل سعودي شاهد مسلسل "العاصوف" في رمضان 2019، يعلم ما سيجري بعدما أخرج مجهولون بنادق من نعوشٍ وهمية أدخلوها إلى المسجد الحرام في مكة، وأغلقوا أبواب المسجد بالسلاسل. عملية الاستيلاء على قبلة المسلمين التي ستستمر أسبوعين وتغّير السعودية بدأت بالفعل!
"العاصوف" – وتعني الكلمة "الرياح الشديدة" – ليس مسلسلاً حول أحداث مكة 1979، إذ لا يسلّط الضوء على اقتحام جماعة جهيمان للحرم المكي سوى في الحلقة الـ 15 من جزئه الثاني. أما الحلقات السابقة فكانت تتناول التحولات الاجتماعية والاقتصادية في العاصمة الرياض التي ستصبح قريباً مدينةً حديثة.
"العاصوف": أحداث الحرم بداية التطرّف
وبحسب تقريرٍ لصحيفة The Economist البريطانية، فإن مشاهد سيطرة جماعة جهيمان العتيبي على المسجد الحرام في مكة تمثّل ذروة حبكة "العاصوف" الذي عُرض جزآه على شاشة MBC، وأنتجته شركة O3 التابعة للمجموعة الإعلامية السعودية ذاتها.
ناقش السعوديون الحلقات كثيراً على الشبكات الاجتماعية، وخاصةً أحداث الحرم التي شكّلت نقطة تحوّل هامة في تاريخ المملكة.
قائد عملية الاستيلاء، جهيمان العتيبي، كان ذات يوم عضواً في الحرس الوطني السعودي. ترك الحرس في عام 1973 واتجه ببطء نحو التطرّف والسخط من تصرفات العائلة الحاكمة وإدخالها الثقافة "الغربية" إلى البلاد.
بعد إنهاء العملية، قام الملك السعودي الراحل خالد بن عبدالعزيز، بتحويل السعودية باتجاهٍ محافظ، خشيةً من أن تلقى انتقادات جهيمان تأييداً شعبياً، فأغلقت دور السينما وتم تطبيق الفصل بين الجنسين بشكل أكثر صرامةً.
مسلسلات رمضان: رسالة الحكومات العربية إلى شعوبها
وفي منطقة يندر فيها الإعلام الحر – بحسب The Economist – تمثّل المسلسلات التلفزيونية التي تُبثّ في رمضان معياراً للسياسة، وتعطي لمحةً عن الرسائل التي تود الحكومات العربية إيصالها لمواطنيها.فمثلاً، بينما تتجه مصر إلى حكم ديكتاتوري قمعي، يقدم المنتجون أعمالاً كثيرةً حول الإجراءات التي تتبعها الشرطة، وهي أعمالٌ تمجِّد القوى الأمنية.
قد يقول البعض إن "العاصوف" لم يكن فكرةً قدمتها الحكومة السعودية، لكن في الواقع لا يمكن أن تجرؤ مجموعة MBC -التي تعتبر شبه حكومية- على إنتاجه وبثّه دون مباركةٍ رسمية.
فحتى المسلسل الذي سعى بطله والمشرف العام على إنتاجه ناصر القصبي لأن يكون متميزاً، شهد حواراتٍ ركيكةً ومشاهد ضعيفة، بدت وكأن كاتبها يعمل في جهاز الشؤون المعنوية التابع للأمن أو المخابرات، إذ تعكس بوضوح الرؤية الحكومية الجديدة لتاريخ السعودية.
لماذا التعرّض لاقتحام الحرم في الدراما الآن؟
يعد هذا أول تصوير تلفزيوني لأحداث مكة 1979 -وهو أمرٌ بقي محرماً على الدراما منذ مدة طويلة- إلا أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يرى أن طرحه بات أمراً مناسباً الآن.
ففي عام 2018، رُفع الحظر القديم عن قيادة المرأة للسيارة في السعودية، واختفت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تماماً من المشهد الاجتماعي، فيما بدأت مقاهي الرياض وغيرها من المدن السعودية تخفف القيود على منع اختلاط الجنسين.
ولتبرير هذا التغيير، سعى ولي العهد إلى تقسيم تاريخ السعودية الحديث إلى جزأين. فبحسب روايته؛ مثّلت السنوات التي تلت عام 1979 انحرافاً فُرض على البلاد من قبل جماعات الإسلام السياسي وإيران، التي اندلعت فيها الثورة الخمينية قبل أشهر من حادث الحرم.
لكن من وجهة النظر التاريخية، فإن رواية محمد بن سلمان تبقى محط جدل -بحسب المجلة البريطانية- إذ تأسست السعودية الحديثة كتحالفٍ بين عائلة آل سعود ورجال الدين "المتزمتين".
ما من أحد يمكن أن يخلط بين الرياض "التي تعود إلى القرون الوسطى فكرياً"، والعواصم المتحررة مثل القاهرة وبيروت، "لكنها مسألة دهاءٍ سياسي".
هل كانت الرياض كما يصوّر "العاصوف"؟
صور الموسم الأول من "العاصوف" الذي دارت أحداثه أوائل سبعينيات القرن الماضي، انتشار الزنا وحفلات السكر والأطفال غير الشرعيين.
وبحسب رواية المسلسل الذي كتبه عبدالرحمن الوابلي، فإن المجتمع السعودي كان متسامحاً، قبل أن يتطفّل المحافظون والمتدينون ويتمادوا كثيراً في تطهير التنوّع الذي نعُم به المجتمع، ويفرضوا رؤية عقائدية عليه.
كما تضمّن "العاصوف" الكثير من التلميحات السياسية، ساخراً من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاة عموماً، وغيرها من المظاهر الدينية التي سادت المجتمع السعودي، "لكن جهوده بدت وكأنها فكاهية أكثر منها جدية، تشعر وكأنها معركة بائسة".
يختم تقرير The Economist عن "العاصوف" بالقول إن "المملكة لا تزال محافظةً بشدة في الوقت الحالي، بل إن الإصلاحات الاجتماعية فيها تقترن بالقمع السياسي القاسي. مع ذلك، يرى الكثير من السعوديين أن تلك لحظة تبعث على الأمل، وأنها ليست وقتاً مناسباً للكوميديا السوداء، بل للدراما المدروسة".
"العاصوف": الوافدون العرب وراء التطرّف
يشار إلى أن "العاصوف" أُنتج كان جاهزاً للعرض في عام 2017، لكن MBC أجّلت عرض جزئه الأول إلى رمضان 2018، الأمر الذي فسّره البعض بانتظار المجموعة الإعلامية السعودية لأن يكون الجو السياسي في المملكة أكثر تقبلاً لفتح الملفات الشائكة والحساسة الذي يتناولها العمل.
ولدى عرضه، تعرّض "العاصوف" للكثير من الانتقادات، لاسيما لدى التيار المحافظ، واتُّهم العاملون عليه بتسويق صورةٍ غير واقعية عن المجتمع في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، وتحميل المتدينين مسؤولية الأزمات الاجتماعية التي مرّت بها البلاد.
كما يتهم المسلسل الذي أخرجه السوري المُثنى صُبح، الوافدين العربَ من المنتمين إلى جماعة "الإخوان المسلمين" بالعمل على تغيير المجتمع السعودي فكرياً ونشر التطرّف فيه، سواءً من خلال الزواج، أو من خلال تغيير مناهج التعليم في المملكة.