بحلول العام 1942، كانت الحرب العالمية الثانية في عامها الثالث، وكان يبدو أن الأمور تمضي بشكلٍ سيئ بالنسبة للمملكة المتحدة ودول الحلفاء. الجيش الألماني في ستالينغراد، وقيادة قاذفات القوات الجوية الملكية تُرسل 479 طائرة لقصف دوسلدورف.
حتى في آسيا وشمال إفريقيا كان الوضع سيئاً، ويمكن القول إن الأمور لم تكن بهذه السوداوية، منذ الاستسلام الفرنسي عام 1940.
وسط كلّ ذلك كانت شخصية الكولونيل بليمب الكرتونية تسيطر على الأجواء العامة في كل مكان، وسط الناس في الشارع، وداخل المجالس السياسية، حتى بدأ التحضير لفيلم سينمائي عنها، ووصل الخبر إلى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.
غضب تشرشل كثيراً، وفي سبتمبر/أيلول من العام 1942، راسَلَ وزير الإعلام حول "فيلمٍ بريطاني قيد الإنتاج"، وكتب للوزير بريندان براكن: "اقترح عليَّ التدابير اللازمة لوقف هذا الإنتاج الأحمق، قبل أن يتصاعد الأمر أكثر".
فما هي قصة فيلم The Life and Death of Colonel Blimp، الذي حطّم الأرقام القياسية في شباك التذاكر، ومن يقف وراءه؟ ولماذا أغضب تشرشل لدرجة أنه أراد إيقاف إنتاجه؟
الكولونيل بليمب.. شخصية كرتونية تنتقد بريطانيا
فيلم The Life and Death of Colonel Blimp، وكما يوحي اسمه، مبني على شخصية الكولونيل بليمب، وهي شخصية كرتونية ابتكرها الرسام الكاريكاتيري ديفيد لو، في ثلاثينيات القرن العشرين، للسخرية من رؤية المملكة المتحدة للعالم، والتهكم من المؤسسة العسكرية.
ظهرت شخصية الكولونيل بليمب الكرتونية للمرة الأولى في صحيفة Evening Standard، خلال أبريل/نيسان 1934، واستمرت بالظهور على صفحاتها طوال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
كان بليمب ضابطاً في الجيش، بريطانياً نمطياً، متغطرساً وسريع الغضب، ينتمي إلى الطبقة العليا، سمين، ملامحه حادة، ويمكن التعرّف إليه من خلال شاربيه العريضين وعبارته الشهيرة "Gad, Sir".
ادّعى الرسام الكاريكاتيري ديفيد لو أنه طوّر شخصية الكولونيل بليمب، بعدما سمع عسكريَّين يتحدثان في أحد الحمامات التركية، عن أنه يحق للضباط ارتداء مهمازهم داخل الدبابات، والمهماز هو تلك القطعة الحديدية التي يضعها راكب الحصان على حذائه، لتحفيزه على التقدّم أو تخفيف سرعته.
استحوذت شخصية الكولونيل بليمب ورسومات ديفيد لو على المزاج العام في بريطانيا، بعد سلسلة من الكوارث العسكرية في بداية الحرب العالمية الثانية. فأصبح بليمب اختصاراً لكل ما هو خاطئ في سياسة الإمبراطورية البريطانية غير ذات الكفاءة، والبعيدة عن أرض الواقع.
ووفقاً لموقع BBC البريطاني، حضرت شخصية الكولونيل بليمب خلال أحد النقاشات بالغة الأهمية، حول "حالة الحرب" في مجلس العموم البريطاني. ففي فبراير/شباط 1942، ألقى عضو البرلمان فريدريك بيثيك لورانس خطاباً ينتقد فيه ما سمّاها "البليمبية"، في المجهود الحربي البريطاني.
اشتهرت شخصية الكولونيل بليمب كثيراً خلال تلك الفترة، وبدأت تُزعج السلطات السياسية في البلاد، حتى جاء فيلم The Life and Death of Colonel Blimp، فكان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
فيلم The Life and Death of Colonel Blimp
مع تصاعد شهرة شخصية الكولونيل بليمب، قرّر الثنائي مايكل باول وإيمريك بريسبيرغر تقديمها في فيلم سينمائي. مايكل باول هو مخرج بريطاني، أما إيمريك فهو كاتب مجري، وقد تعاون الثنائي في صناعة أفلامٍ عدة.
لكن The Life and Death of Colonel Blimp سيكون الأكثر شهرة ووَقْعاً. ورغم أنه أثار استياء السلطة وغضب تشرشل، وكاد أن يُمنع، فإن الفيلم يُعتبر اليوم عملاً كلاسيكياً من أجرأ ما قدّمته السينما البريطانية.
يُعيد سيناريو الفيلم تصوير الكولونيل بليمب من خلال شخصية اللواء كلايف وين-كاندي، وحين صدوره عام 1943، يعود الفيلم 40 عاماً إلى الماضي، ويُظهر الكولونيل كاندي خلال إجازته من حرب البوير الثانية، وعلى صدره وسام صليب فيكتوريا، وهو أعلى وسام عسكري بريطاني، يُمنح لأفراد القوات المسلحة الذين يُظهرون شجاعتهم في مواجهة قوات العدو.
يتتبَّع الثنائي باول وبريسبيرغر حياة جنديهما على مدار العقود الأربعة التالية، حين عايش 3 حروب وقصَّتَيْ حُب آلَتَا إلى الفشل، ويستكشفان كيف تتشكّل نظرة كاندي وتصبح رجعية من خلال تجاربه كخادمٍ مطيع للجيش البريطاني.
مع الانتهاء من كتابة سيناريو فيلم The Life and Death of Colonel Blimp، وبدء العمل على تفاصيل الإنتاج، واختيار أماكن التصوير، وقع اختيار كل من باول وبريسبيرغر على الممثل لورانس أوليفييه للعب دور الكولونيل كاندي.
كان أوليفييه يخدم وقتئذٍ في ذراع الأسطول الجوي البريطاني، ما يعني أنه يجب الحصول على عفو خاص يسمح له بترك خدمته، والمشاركة في الفيلم. ولأنهما أرادا الحصول على إذنٍ لاستخدام بعض المنشآت العسكرية أيضاً، اتصل المخرج والمنتج بمكتب وزارة الحرب.
ووفقاً لموقع History Today، رُفض الطلبان على الفور. وهكذا باتت السلطات السياسية العليا تعرف بأمر الفيلم، وقد عبّرت عن استيائها منه في أكثر من مناسبة.
استياء السلطة مقابل نجاح باهر في السينما
إلى جانب وزارة الحرب، رفضت وزارة الإعلام تقديم أي دعم رسمي، كما حاول وزير الدولة لشؤون الحرب توبيخ المخرج والكاتب، حتى وصل الأمر إلى الرئيس ونستون تشرشل.
فوفقاً لكتاب British War Films 1939-45، راسَلَ الوزير بيرسي جيمس غريغ، المخرج باول عام 1942، يقول له: "أصبحتُ سئماً للغاية من نظرية أن أفضل طريقة لتعزيز سمعتنا في عيون شعبنا، وبقية العالم، هي لفت الانتباه إلى الأخطاء التي ينسبها المنتقدون لنا، خصوصاً حين لا يعود للنقد أي أهمية، كما في الحالة الراهنة".
وجد ملخص للسيناريو طريقه إلى رئيس الوزراء ونستون تشرشل، الذي طلب من وزير الإعلام بريندان براكن اقتراح الإجراءات الضرورية لوقف إنتاج فيلم The Life and Death of Colonel Blimp.
لكن براكن رفض طلب تشرشل، وردّ عليه مؤكداً بأنه "لا يملك أي سلطة لقمع الفيلم"، ومُحذّراً من أنه "سيتعيّن على الحكومة الاضطلاع بسلطات من النوع واسع المدى لإيقاف الفيلم".
ورغم كل تلك الاعتراضات، عَرف فيلم The Life and Death of Colonel Blimp طريقه إلى صالات السينما. وقد عُرض للمرة الأولى في 10 يونيو/حزيران 1943، وتمّ الترويج له من خلال شعار "تعال وشاهد الفيلم المحظور".
المفارقة أن تشرشل حضر العرض الأول للفيلم، ووفقاً لصحيفة The Daily Telegraph، في 11 يونيو/حزيران 1943، فقد "بدا في مزاجٍ ممتاز"، لكن رغم ذلك حاول تشرشل منع توزيعه في الخارج حتى أغسطس/آب 1943.
ومع ذلك، حطم الفيلم الأرقام القياسية في شباك التذاكر، وشأنه شأن جميع الأفلام التي تثير الجدل فقد أدّت المعارضة الرسمية للفيلم إلى زيادة الاهتمام العام به، فتصدر قائمة أعلى الأفلام البريطانية ربحاً للعام 1943.
اليوم، يُعتبر فيلم The Life and Death of Colonel Blimp أحد أجرأ وأجمل الأفلام التي أُنتجت في بريطانيا. ويكاد يكون الفيلم الوحيد الذي قدّم، خلال تلك الفترة، نقداً للسلوك البريطاني في الحرب العالمية الثانية.