من الممكن أن تكون شقراء أو سمراء، ذكية أو حمقاء، واسعة الحيلة أو مغلوبة على أمرها، قوية أو ضعيفة، لكنها على الدوام تكتسب اسمها من الرجل صاحب الاسم الأشهر "بوند"، جيمس بوند، ويكون لقبها "فتاة بوند".
لطالما كانت "فتاة بوند" جزءاً أساسياً من الصيغة التي تسير عليها أي رواية أو اقتباس سينمائي لحكايات الجاسوس الشهير، ففي القصة الواحدة توجد فتاة أو أكثر، كلهن يقعن في حبه دون تفكير، وحتى عندما يترددن قليلاً يقتنعن في النهاية بالوقوع في حبه، وأحيانا بالقوة عندما يكن غريماته قبل أن تحدث مغازلة.
العامل المشترك أن بوند لا يقبل أن يقال له لا، لكن في عام 2021 لمَ تغيرت هذه الصورة في الإضافة الأخيرة للسلسلة فيلم No Time to Die، إذ نجد بوند بجانب زميلاته في العمل دون أن يحاول إرغامهن على حبه أو إغواءهن إذا لم يظهرن اهتماماً؟!
يمثل ذلك انقلاباً حتمياً على واحد من العناصر الأساسية لنجاح تلك القصص فكيف تطورت "فتاة بوند" على مر تاريخها وإلى أين من الممكن أن تذهب؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في التقرير.
الموت محرك للأحداث
"واحدة تقتل في البداية، أخرى في المنتصف وتبقى واحدة"
خلقت سلسلة جيمس بوند منذ البداية على يد رجل قومي ساهم في الحرب العالمية الثانية يعتز برجولته وإنجليزيته وهو إيان فليمنغ، الذي عمل كمدير للاستخبارات البحرية بالجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية.
صنع التصور عن رجل الاستخبارات في صورة الرجل المثالي، داخلياً وخارجياً، فهو وسيم، وجذاب، وذكي، وشجاع، ومغوار ووطني من كل قلبه، لكنه في الوقت ذاته لعوب ومهتم بالنساء، لكنهن لا يمثلن أبداً نقطة ضعف له، فوجودهن يقتصر على متعته الخاصة التي لا يتعب في الوصول إليها فليس من المنطقي أن ترفض أي منهن رجلاً في وسامته ووطنيته.
"الفتاة الأولى داعمة لبوند تظل موجودة في الثلث الأول من الفيلم ثم يتم التخلص منها على يد الأعداء ومن المحبب أن يحدث ذلك بين ذراعي يوند".
في حوار سابق قال روالد دال كاتب فيلم "أنت تعيش مرتين – You Only Live Twice" وهو أحد أشهر أفلام جيمس بوند، إنه تلقى نصيحة تفيد بكتابة ثلاث فتيات لبوند، واحدة تموت بين ذراعيه، وواحدة يتضح أنها أحد الأعداء لكنه يغويها على أي حال ثم تموت في منتصف الأحداث، والثالثة تكمل الفيلم حتى النهاية.
عادة ما يعكر صفو علاقات بوند موت الفتاة الأولى على يد أعداء بوند وأعداء الوطن، ولا يمر على العلاقة وقت كافٍ لكي تتحول لقصة حب، لكن القتل يصبح محركاً لرجولة البطل لكي يثأر لفتاته، يمثل القتل أيضاً تحذيراً، يقول: لقد كنت هنا في غرفتك، حيث تنام وتشعر بالأمان، اقتحمتها وقتلت فتاتك.
في "الإصبع الذهبي" Gold Finger واحد من أشهر أفلام جيمس بوند، يقابل بوند الذي يلعب دوره شون كونري فتاة شقراء جميلة تترك له نفسها بعد مقابلة واحدة لا تنشأ بينهما أي رابطة عاطفية، لكنها تستخدم لتخلق أحد أكثر المشاهد أيقونية في السلسلة كلها، حيث يتم قتلها عن طريق طلائها بعنصر ذهبي مميت، فتصبح أشبه بتمثال منحوت بلا روح، تلك الصورة هي الهدف الوحيد من وجودها.
بدأ فيلم "في خدمة جلالتها السرية" On Her Majesty's Secret Service 1969 أصبح بوند إنساناً قابلاً للوقوع في الحب بل إنه تزوج من فتاته قبل أن يخسرها مقتولة على يد أعدائه، ورغم ذلك لم يصنع ذلك الفيلم تغييراً جذرياً واستمرت السلسلة على نهجها الأصلي.
المرة الأخرى التي يرتبط بها الحب بالموت لم تحدث إلا بحلول عام 2006 في فيلم كازينو رويال Casino Royale، إذ يقع بوند الذي يلعب دوره دانيال كريغ في حب فتاته، لكنها تموت دافعة ثمن خيانتها وندمها على اختياراتها، ويحرك ذلك الأحداث فيظل موتها ذكرى معلقة تشكل شخصية بوند في الألفية وحتى آخر إصداراتها هذا العام.
عدا بالموت لا يتم تفسير أبداً لماذا تختفي الفتاة إذا انتهى الفيلم وانتقلنا لجزء ثانٍ من السلسلة، إذ يعتبر بعض المنتقدين لشخصية "فتاة بوند" أنها "تتبدل مثل السيارات الفاخرة والبدلات الأنيقة".
الفتيات مثل "المقتنيات الأنيقة"!
مثل السيارات الفخمة والأقلام المفجرة والكاميرات الصغيرة، فإن فتيات بوند يملكن صفات معينة، أشبه بعارضات الأزياء يتم انتقاء مقاسهن ومظهرهن بعناية، فكلهن فائقات الجمال نحيفات وطويلات، تتغير ألوانهن حسب الخيارات الفنية للمخرجين أو حسب أوصافهن في الرواية، لكن لا يتخطى عمر فتيات بوند الثلاثين كمبدأ رئيسي وإن تغير في مرات محدودة.
معظم فتيات بوند في أوائل العشرينيات ويصغرنه بحوالي 10 سنوات، لكن تم كسر تلك القاعدة في أفلام بوند الحديثة فبعض الناس يعتبرون رئيسته في العمل m التي تلعب دورها جودي دينش فتاة بوند، فبينه وبينها رابط عاطفي قوي يصفه البعض بالأمومي، كما أنها تموت في أحداث أحد الأفلام بين يديه مثل فتيات بوند الرئيسيات، ويشجعه موتها على الانتقام.
تتسم كثير من فتيات بوند بأسماء ذات معانٍ جنسية مزدوجة، وفي قصصهن الأصلية تملك العديدات منهن قصص مأساوية فيما يتعلق بالعلاقة بالجنس، فبعضهن تم اغتصابه أو التعدي عليه في الطفولة لكن تحل كل تلك المشاكل عندما يقابلن الرجل المثالي بوند الذي يحررهن من عقدهن السابقة، ربما أكثر الأمثلة تطرفاً على ذلك هي الفتاة في رواية "الإصبع الذهبي"، إذ كانت الفتاة مثلية الجنس في البداية، لكن بعدما قابلت بوند تحول ميولها لأنها -على حد قولها- لم تقابل رجلاً حقيقياً من قبل.
أثناء صناعة أول أفلام بوند DR.NO 1958 سألت الممثلة زينا مارشال التي تلعب دور إحدى الفتيات: أي نوع من النساء هي؟ فأجابها المخرج تيرنس يانج: "هي الفتاة التي يحلم بها جميع الرجال، لكنها لا توجد في الواقع، يمكن تفسير ذلك الهوس الخيالي بمثالية النساء المرئية بأعين الرجال".
إذ أضاف فليمنغ لمسته على النساء كنوع من العزاء الشخصي لقصة حب قصيرة عاشها هو نفسه، إذ قابل فليمنغ فتاة شقراء خارقة الجمال عملت عارضة في العام 1935، وظلت مخلصة له رغم خياناته المتكررة لها، لكنه فقدها وهي في الـ26 فقط من عمرها أثناء غارة جوية في العام 1944، وصفها فليمنغ بأنها أفضل من أن تكون حقيقية وكانت مثالية في تقبل نزواته وجمالها الخارق، لكنها تموت بشكل مأساوي في النهاية، كما أشارت مدونة جامعة برمنغهام البريطانية.
الفتيات كفاعلات في القصة
"الفتاة الثالثة في صف بوند بعنف، تقع مشاهدها في الثلث الأخير من الأفلام ولا يجب بأي وسيلة قتلها ولا يجب أن تدع بوند يقوم بـإغوائها إلا في نهاية القصة بعد أن تثبت قوتها"
في أفلام جيمس بوند على مدار تاريخها وجدت شخصية المرأة الرياضية القوية المعتمدة على نفسها التي تقف نداً لبوند في مهماته وتساعده في بعضها، وقادرة على أن تقاوم سحره قبل أن تقع في حبه بالنهاية، كما تملك ما هو أكثر من الجمال وهو ذكاؤها وقوتها.
في الفيلم الأخير "لا وقت للموت" No Time to Die من إخراج كاري فوكوناجا، والذي شاركت في كتابته فيبي وولر بريدج مما يجعلها الكاتبة الثانية فقط في تاريخ أفلام السلسلة، يمكن لمس تأثير وجود صوت نسائي بسهولة في سيناريو الفيلم، فعلى الرغم من التزامه ببعض السمات الشهيرة، فإنه يقلب الكثير منها.
إذ تلعب الممثلة البريطانية لاشانا لينش دور نومي العملية 007، وهي سيدة عاملة تحمل رقم بوند الشهير وتتحداه في كل خطوة بعدما انعزل قليلاً عن عالمه، لا يحاول بوند التقرب منها أو إغواءها بأي شكل ربما يمتعض قليلاً بسبب وجودها في مكانه، لكنه مع تقدم الأحداث يبني معها صداقة، ويقدرها بشكل كبير بشكل أبعد من الشراكة الجنسية.
كما تلعب آنا دو ارماس دوراً صغيراً، وهي فتاة بوند كلاسيكية فائقة الجمال التي تظهر بثوب كاشف وأنيق، يخطئ بوند تقدير نواياها، ويتوقع أن تغويه، لكن حالما يفهم أنها لا تهتم به، يتجاوز الأمر دون أن يفرض نفسه عليها، وعندما يرى مهاراتها القتالية يُثني عليها وعلى قدراتها دون الإشارة لمظهرها.
تقع مادلين التي تلعب دورها الممثلة الفرنسية ليا سيدو في تلك الفئة، فهي جيدة في استخدام الأسلحة، لكنها تمتنع عن ذلك بسبب صدمة طفولية، وتساعد بوند وتكون نداً له وترفض عروضه الجنسية، لكنها تستسلم في النهاية، وما يجعلها مختلفة عن الأخريات هو استمراريتها في القصة بعد إتمامها المراحل المحفوظة، فمعها تنتهي رحلة بوند المعاصر دانييل كريغ، ومعها يستقر ويكوّن أسرة دون الحاجة للتلاعب بفتيات أخريات.