مع انخفاض عائدات الصحف المطبوعة وتداولها، أصبح الانتقال إلى المجال الرقمي هو القاعدة، حيث إن الأخبار في الشبكة العنبكوتية تُغري مُقَل العيون بشدة مع جميع أنواع مقاطع الفيديو المباشرة وغير المباشرة لكل ما يحدث حول العالم، وبينما تستخدم بعض المواقع الصحفية طرائق غير مهنية في عرض قصص ومواضيع مثيرة، فمن السهل الإحساس بالاكتئاب مع الشعور بأن الصحافة قد فقدت طريقتها التي وُجدت لأجلها.
إن المفهوم الظاهري البيّن للسلطة الرابعة يعكس قوتها الإعلامية في شرح أو فحص أي حدثٍ أو موضوعٍ معين، كما أنها قادرة على نقل الأحداث دون إغفال أي زاوية من زواياه، وبطريقة لا تشوبها شائبة من الجدية، ولكن في دورها الأقوى والأهم، فإن الصحافة تستطيع فضح المدفون وكشف المستور. وهذا بالضبط ما جاء به فيلم SPOTLIGHT.
الفيلم عبارة عن لوحة درامية بمقامات وثائقية، لوحة استظهر فيها المخرج أحد أهم التحقيقات الصحفية في تاريخ الولايات المتحدة، وكشف لنا أسراراً وفساداً من عمق الرمز الديني الكاثوليكي، المتمثل في الاعتداءات الجنسية المفتعلة بحق الأطفال، من قساوسة كاثوليك في أبرشيات بوسطن، وبطريقة دقيقة للغاية.
يتعامل الفيلم مع أساطيل من المعلومات، وبشكل صريح مقاوم لتكهنات الجهات اللاواعية بالموضوع، وهو ما أضفى مصداقيةً للبناء الدرامي، الذي حاكه المخرج بأسلوب سردٍ تقليدي، والذي كان مناسباً وموفقاً جداً في التعامل مع قضية بهذا الثقل، ولم يُنقص غياب الميلودراما من قيمة الفيلم أبداً، لأن المخرج توم مكارثي التزم هو وفريقه بالحقائق، ما جعل اجتهادهم الوسواسي يؤثر على الفيلم ويجعله صادقاً قدر الإمكان.
لقد كان أمام توم مكارثي تحدٍّ في مستوى خيالي لكي يطرح قضية بهذا الثقل، وبالنظر إلى سيرته الذاتية التي لم تكن لافتة للانتباه آنذاك، فقد راهن الكثيرون من داخل الوسط الفني على فشل الفيلم، خصوصاً أنه هو نفسه مَن يُمسك بلجام كتابة السيناريو إلى جانب الإخراج، لكن النتيجة كانت ترشيح الفيلم لـ6 جوائز أوسكار، وفوزه بجائزة أفضل سيناريو أصلي وأفضل فيلم.
كيف لهذا الفيلم أن يكون تاجاً فوق السلطة الرابعة؟
تم تمثيل الفيلم بشكل رائع من قِبل مارك روفالو، ومايكل كيتون، وراشيل ماك آدامز، وليف شرايبر، وبريان دارسي جيمس، ويمزج الفيلم بين صناعة الأفلام الجميلة والحقيقة ذات الواقعية المروعة. عندما يبدأ الفريق في إعادة النظر في ادّعاء سابق من سوء السلوك الجنسي داخل أبرشية بوسطن، ويكشف لنا عن الأساليب المختلفة التي تستخدمها الكنيسة للتستر على فضائحهم، وكيف تمكنوا من التلاعب بمؤيديهم، للحفاظ على أسرارهم، ليغوصوا أكثر وأكثر مما توقعوا، حتى وجدوا أنفسهم في تعقب المزيد من الناجين، وسرعان ما أدركوا أن ما يقرب من 90 كاهناً في كنيسة بوسطن الكاثوليكية وحدها قد تم تغطية أعمالهم الإجرامية من قِبل الكنيسة الأم. تقريرهم الذي استمرّ لسنوات وشمل مئات المقالات جلب الوعي في جميع أنحاء العالم بشدة، واتسع الجدل.
في كثير من الأحيان، لا تُستخدم الصحافة، وهي أداة ذات قوة وأهمية كبيرة، على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه. فإن فيلم spotlight قد أبان عن جدية المحققين الصحفيين الذين تصرفوا بدافع الإحساس بالالتزام الأخلاقي تجاه مجتمعهم. وأظهر لنا كيف تبدو النزاهة الصحفية الحقيقية، ليتجاوز أهميته السينمائية، ويُسلط لنا الضوء على أن قلم الصحافة لا يخشى السلطات التي تورده، مهما كانت أهدافها صادمة.
أشار الفيلم من زاوية أخرى إلى أن السلطة الرابعة تراقب العمليات السياسية للتأكد من أن اللاعبين السياسيين لا يسيئون استخدام عملتهم الديمقراطية، كما وجّه الفيلم عدسة الكاميرا إلى صورة ضمان اتخاد المواطنين خيارات مسؤولة ومستنيرة، بدلاً من التصرف بدافع الجهل أو التضليل، وتصوير جدية التدقيق في المعلومات، من خلال ضمان أن الممثلين المنتخبين يحافظون على يمينهم في المنصب، وينفذون رغبات أولئك الذين انتخبوهم.
لم يمنحنا الفيلم قصة أحادية المضمون فقط، بل أحاط أيضاً بالشرطة والهيئة التشريعية والسياسيين وجهاز السلطة في بوسطن، أي أن جذور الفيلم تتفرع داخل أركان اجتماعية وسياسية كبيرة، ولهذا فقد تم صنع فيلم Spotlight كرمز ومرجع للصحفيين، الذين ظلوا وما زالوا يحاسبون أقوياء السلطة، للصحفيين الذين صلّبوا شجاعتهم وإرادتهم للتغلب على الفساد الاجتماعي، للصحفيين الذين أسهمت أقلامهم في تغيير الواقع.
دون اللجوء إلى الميلودراما أو جنون العظمة أو البارانويا في بنائه الدرامي، فإن فيلم Spotlight هو إنتاج صحفي، سرد لنا أحد أعظم الانقلابات الصحفية في التاريخ، واستطاع اكتساح الحقائق المخفية تحت سجادة الكنيسة الكاثوليكية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.