قرافة وجامع وقبر مثير للجدل.. “عربي بوست” يتفقد ما تبقى من آثار عمرو بن العاص بمصر

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/01 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/01 الساعة 08:41 بتوقيت غرينتش
مسجد عمرو بن العاص (خاص عربي بوست)

"نحن نقوم بعمرة الغلابة، كفاية أننا نزور أماكن تحمل ريحة الرسول والصحابة".. بصوت يحمل الشجن والخشوع، يتحدث محمد سعيد (في العقد الرابع من العمر)، وهو يقف أمام قبر عمرو بن العاص، بمنطقة القرافة الصغرى، الموجودة بسفح جبل المقطم التابعة لحي الخليفة بمصر القديمة بالقاهرة.

ويقول سعيد لـ"عربي بوست"، بعد أن حاول شم الرائحة النافذة من فتحة صغيرة، في المنطقة الخضراء البارزة من الحائط القديم بمسجد سيدي عامر بن عقبة الجهمي: "نحن ضمن رحلة جاءت من محافظة المنوفية لزيارة أماكن آثار آل البيت والصحابة في القاهرة، ونزور قبور من يوجد منهم بمصر، وتلك تصبيرة حتى يرزقنا الله بعمرة أو حج في مكة والمدينة".

وسعيد كان واحداً ممن جاءوا لزيارة قبر عمرو بن العاص بعد صلاة الجمعة، وقد توافد على المسجد ما يزيد عن 300 شخص، وذلك خلال ساعتين وُجد بهما مراسل "عربي بوست" في رحلة البحث عما تبقى من آثار عمرو بن العاص في مصر.

وكانت البداية من منطقة القرافة الصغرى وقبر عمرو بن العاص المثير للجدل، وكان من بين الزوار جنسيات عربية وغربية، فكان هناك زوار من تركيا والسودان وشرق آسيا جاءت إلى المنطقة رغم صعوبة الوصول إليها في ظل وجودها بمنطقة شعبية تتداخل بها بيوت السكان الأحياء، مع قبور الأموات.

هذا ما وُجد في قبر ابن العاص.. ومفاجأة في الكشف عنها

يتوسط مسجد سيدي عقبة بن عامر الجهني منطقة المقابر الصغرى بسفح جبل المقطم، وعند مدخل الباب الرئيسي للمسجد الموجود في الميدان الذي يحمل نفس اسم المسجد، توجد قبة بارزة من الحائط، وقد تم طلاؤها بلون أخضر، ولا يزيد بروزها عن الحائط عن 30 سم فقط.

وكتب فوق اللافتة: هنا قبر الصحابي الجليل عمرو بن العاص. وإذا رغبت في الزيارة فسوف تجد أمامك عند التوقف أمام تلك القبة، رجلاً يقوم بالشرح لك عن القبر، ورائحة المسك التي تفوح من داخله.

"عملت في هذا المسجد 10 سنوات، ولم يكن معروفاً أن هذا المكان به قبر عمرو بن العاص"، هكذا فجر أحد العاملين بالمسجد -رفض ذكر اسمه كونه غير مخول للحديث للإعلام- وهو في العقد السادس من العمر.

وقال المتحدث لـ"عربي بوست: "أنا هنا منذ 40 عاماً، وأول من سمعت منه عن وجود القبر هنا هو الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي مصر السابق، وبعدها تم تحديد تلك القبة باللون الأخضر، ووُضعت فوقها تلك اللافتة المشيرة إلى قبر ابن العاص، ثم زاد زوار المكان الباحثون عن قبر فاتح مصر". 

الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(1/6)
الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(2/6)
الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(3/6)
الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(4/6)
الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(5/6)
الزوار بقبر عمرو بن العاص
الزوار بقبر عمرو بن العاص
(6/6)

أسرار الدفن ووصية الموت وحيرة العلماء لليوم    

"لَا تَجْعَلَنَّ فِي قَبْرِي خَشَبَةً وَلَا حَجَراً، فَإِذَا وَارَيْتُمُونِي فَاقْعُدُوا عِنْدِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا أَسْتَأْنِسْ بِكُمْ". كانت تلك الكلمات، هي الجزء الخاص من وصية عمرو بن العاص لولده عند موته، حيث أمره بعدم وضع أي علامة تشير إلى قبره، ولتلك الوصية آثارها التي امتدت إلى اليوم.

حيث كان قبر عمرو بن العاص هو القبر الوحيد من الولاة في تلك الفترة الذي لم يكن فيه ما يميز المدفون به، وكان معلوماً فقط عبر الذاكرة، على عكس معظم قبور الولاة. 

وبالفعل نفذ ابن عمرو وصيته، كما تذكر كتب التاريخ، وكان من الطبيعي أن يكون مكان الدفن الأقرب للذهن هي القرافة الصغرى، وهي المدافن التي بنيت في عهد ابن العاص، ودفن بها ولاة العصور الأولى للخلافة الإسلامية المتعاقبة.

وقد تولى ابن العاص ولاية مصر مرتين، الأولى بعد فتحها عام 20 هجرية، واستمر حتى عزله عثمان بن عفان في 24 هجرية، ثم تولى الخلافة مرة أخرى في عهد الدولة الأموية من عام 38 هجرية، واستمر حتى وفاته عام 43 هجرية.

الجدل مستمر حول قبر فاتح مصر 

وكما قال أحد عمال المسجد، فقد عاد الجدل مرة أخرى عن قبر فاتح مصر خلال العقود الماضية، ولا يزال موضوع البحث عن مقبرة عمرو بن العاص يثير جدلاً واسعاً.

ففي 2017، أعلن الدكتور عبد الباقي السيد عبد الهادي، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عين شمس، أن القبر موجود في مسجد عقبة بن عامر، وهو المكان المشار إليه حالياً، وفند في ذلك الأمر العديد من القرائن والشواهد التي تؤكد ذلك.

في المقابل شكك آخرون في تلك الدراسة، وكان منهم الباحث الأثري مصطفى فوزي، مدير منطقة آثار عابدين والقصر العيني، في ذلك الوقت، ويؤكد أن قبر عمرو بن العاص لا يزال مجهولاً، لعدم وجود دليل قطعي، ولكنها عبارة عن أقاويل تسند لبعض الإشارات في كتب التاريخ، ولكنها ليست قطعية. 

ولكن حديث مفتي مصر السابق، ومن تبعه من ربط قبر ابن العاص بذلك المكان المشار إليه الآن تحديداً، يعود إلى أن عقبة بن عامر الجهني، وهو أحد ولاة مصر بعد عمرو بن العاص، كان يعرف قبر عمرو بن العاص، واختار أن يدفن بجواره وتحديداً بسفح المقطم.

وكلام حرملة الشافعي نفسه يؤكد ذلك، ومعرفة هذا الفقيه الشافعي بمكان دفن عمرو بن العاص ومكان عقبة بن عامر الجهني يوضح لنا بجلاء أن قبور ولاة وحكام مصر كانت معروفة لمشاهير الفقهاء الذين كانوا على علاقة قوية بالسلطة الحاكمة. 

ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
(1/3)
ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
(2/3)
ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
ببيت المال في الماضي والذي أصبح مقابر النحال المجاورة لمسجد عمرو بن العاص
(3/3)

القرافة بسفح المقطم.. أول مقابر للمسلمين بمصر 

ولكن المؤكد أن عمرو بن العاص مات ودفن في مصر، وقبره موجود في مدافن المسلمين في ذلك الوقت، وهي القرافة الصغرى، وهي من الآثار الباقية لعهد فتح الإسلام لمصر على يد عمرو بن العاص.

وتُعد من معالم الفسطاط التي أفاض المقريزي وغيره من المؤرخين الكلام عنها، وهو مكان يُقصد بها اليوم تلك المنطقة الواقعة بالعاصمة المصرية القاهرة، والتي امتدت مساحتها أسفل المقطم وسكنها البسطاء، وسميت المقبرة بهذا الاسم نسبة لقبيلة من المغافر يقال لهم "بنو قرافة".

وكان بالقاهرة قرافتان، إحداهما بسفح المقطم وسميت "القرافة الصغرى"، وتعد أول مدفن للمسلمين بمصر، والأخرى شرق الفسطاط بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى.

وقد أجمعت المصادر أن عامر المعافري قد دفن بجوار بطن بني قرافة، وكان الرجل أول من مات من المسلمين في هذا الوقت، فإذا مات آخر قال الناس: "يُدفن بجوار عامر المجاور لبطن بني قرافة".

وبالتالي أطلق هذا الاسم على منطقة الدَّفن هذه، ولما جاء حريق الفسطاط، والشدة المستنصرية وقلّ الخير الوارد على هذه المنطقة من المحسنين خربت هذه المنطقة، وتركها أهلها فصارت مكاناً لدفن الموتى فقط، وقد اختار المسلمون الدفن بجبل المقطم وسفحه بمصر، ويرجع ذلك إلى عوامل معنوية ومادية، فالمعنوية ما أشار إليه المؤرخون من أن المقوقس (عظيم القبط) أراد أن يشتري من عمرو بن العاص، والي مصر وقتئذ، جبل المقطم بسبعين ألف دينار، لأنهم قرأوا في كتبهم أن به غراس شجر الجنة، فأبقاها المسلمون لهم بدلاً من بيعها للمقوقس، لكي يدفنوا فيها موتاهم.

وأما المادي فإن هذا المكان من الأماكن الجافة التي لم تتغير فيها الأجساد بسرعة، حيث كان يتم تعليق لحم الحيوان فلا يتغير طعمه إلا بعد يومين وليلتين.

جامع عمرو وبجواره بيت المال الذي تحول لمقابر

ورغم أن أول ما تم إنشاؤه في مصر مع قدوم الفتح الإسلامي، كان مسجد عمرو بن العاص، إلا أنه مازال أحد الآثار الباقية من عصر ابن العاص، رغم زوال معظم آثار حكمه، والمسجد هو أول بناء في مدينة الفسطاط التي كانت عاصمة مصر حينها.

تلاه إنشاء دار الإمارة والتي جرت العادة على إنشائها لسكن الولاة منذ العصر الإسلامي المبكر، وبيت المال، وظل الجامع على حاله رغم التغيرات الكبرى في بنائه وشكله، إلا أن بيت المال الملاصق للمسجد تحول إلى مقابر تعرف باسم ترب النخال.

ويعد جامع عمرو بن العاص أقدم جامع في مصر وأفريقيا، ولُقب بـ"تاج الجوامع" ويعرف أيضاً بـ"الجامع العتيق"، وقد تم إنشاؤه في عام 21هـ/641م، وتعرض المسجد للعديد من التغييرات المعمارية.

فكانت مساحته وقت إنشائه صغيرة جداً، وتسوده البساطة، إذ بنى على قوائم من جذوع النخل، وكان مغطىً بالجريد، ثم زادت المساحة الكلية للمسجد تدريجياً حتى وصل إلى شكله الحالي، وعلى الرغم من أن البناء الحالي يرجع إلى القرن العشرين إلا أنه مازال محتفظاً بطابع العمارة الإسلامية المبكرة.

مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(1/7)
مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(2/7)
مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(3/7)
مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(4/7)
مسجد عمرو بن العاص (خاص عربي بوست)
مسجد عمرو بن العاص
(5/7)
مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(6/7)
مسجد عمرو بن العاص
مسجد عمرو بن العاص
(7/7)

أول مسجد بأفريقيا وجنسيات متعددة.. أسباب تزاحم السياح

وخلال تفقد "عربي بوست"، لداخل المسجد، لا تكاد تمر نصف ساعة، حتى تكون هناك مجموعة أخرى من السياح الأجانب الذين يدخلون المسجد لتفقده، وتأتي تلك المجموعات بصحبة أحد المرشدين السياحيين.

ووُجدت خلال ساعة ونصف، وفود سياحية من الصين وإيطاليا ويوغوسلافيا وروسيا، وكان أغلب السياح إن لم يكن معظمهم غير مسلمين، ونظراً لطبيعة ملابس السياح غير المطابقة للملابس الشرعية داخل المسجد، توجد عبايات ذات طابع مغربي، حيث تشبه الروب ولها غطاء رأس معها، وهي مميزة بلونها الأخضر، ويطلب من أي سيدة داخل الوفد السياحي أن ترتدي تلك الملابس للتجول بالمسجد. 

و"يحرص السياح الأجانب على زيارة المسجد، كونه أول مسجد للإسلام بمصر وأفريقيا، ولذلك دائماً ما يكون ضمن محطات الجولة السياحية المروج لها لدى دول العالم".

معوض سليمان، في العقد الثالث من العمر، يعمل مرشداً سياحياً للوفود الصينية، قال لـ"عربي بوست": "دائماً ما تنبهر الوفود السياحية بالمسجد، وهذا ما لاحظته على السياح من دول مختلفة، فكثيراً ما يتصادف وجود وفود من دول متعددة وقت وجودي مع الوفد الصيني".

وكما كان المسجد خلية نحل سياحية في نهار الجمعة بشهر رمضان، فإنه يتحول ليلاً إلى محراب كبير للصلاة والقيام والتهجد، حيث يتوافد آلاف المصريين من أحياء القاهرة والجيزة لصلاة التراويح به، وفيه كبار القراء الذين عرفوا للعالم من خلال هذا المسجد، ومن أشهرهم الشيخ محمد جبريل قارئ القرآن الشهير. 

القبر والقرافة والمسجد وبيت المال أطلال لمدينة الفسطاط  

بعد الفتح، سار المسلمون إلى الإسكندرية، وعند حصنها قاتلوا قتالاً شديداً، ثم فتحوها بعد حصار دام بضعة أشهر، وعزم ابن العاص على التوجه إلى الإسكندرية، وأراد اتخاذها عاصمة ودار هجرة للمسلمين.

فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك، فسأل عمر رسول عمرو بن العاص: هل يحول بيني وبين المسلمين الماء؟ فأجابه: نعم، فكتب عمر إلى ابن العاص أن يرحل عن هذا المكان لأنه لا يريد أن يحول بينه وبين المسلمين الماء، لا في الصيف ولا في الشتاء.

فتحول عمرو بن العاص إلى موضع فسطاطه القديم الموجود قرب حصن بابليون، ومن هنا جاء الحديث عن مدينة الفسطاط التي كانت عاصمة المسلمين في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية.

وتعد مدينة الفسطاط أول وأقدم العواصم الإسلامية؛ إذ بنيت بعد الفتح العربي الإسلامي لمصر في عام (٢١هـ/ 641م)، وأطلق عليها اسم "الفسطاط" أي الخيمة، وبدأت عمارتها ببناء جامع عمرو بن العاص الذي أطلق عليه فيما بعد اسم "الجامع العتيق".

وقد ظلت الفسطاط عاصمة لمصر لمدة 113 عاماً، وحالياً تعرف هذه المنطقة باسم "حي مصر القديمة"، وهو من أعرق الأحياء بالقاهرة الكبرى، ويضم العديد من المواقع الأثرية منها، وما تم ذكره من آثار فترة ابن العاص بحكم مصر، ما هو إلا أطلال لتلك المدينة.

وفي نهاية حكم الفاطميين شهدت مدينة الفسطاط الحريق علي أيدي الصليبيين أيام الخليفة العاضد، عندما بلغوها بمراكبهم بالنيل وأسروا ونهبوا بقيادة الملك عموري (أمالوريك)، وذلك عام 564 هـ – 1168م.وقد أمر وزيره بجمع العبيد وإحراق مدينة الفسطاط، وأصبحت الفسطاط بعد الحريق مدينة أشباح خاوية على عروشها عدة قرون، ولم يبقَ منها سوى جامع عمرو بن العاص والذي أنقذ من الحريق بأعجوبة، فالحريق الذي تعرضت له المدينة كان ضخماً لدرجة أنه أدى إلى احتراق نصف المدينة الشرقي، وبمرور الوقت تحول هذا النصف الشرقي إلى تلال، وظلت هكذا حتى عام 1912م، حين بدأت أولى الحفائر الأثرية بها.

تحميل المزيد