تعتبر "عصابة آل كابوني" لزعيمها المجرم المعروف "آل (سكارفيس) كابوني" أحد أشهر الأسماء في عالم الجريمة المنظمة في أمريكا، والتي تورطت مثلها مثل غيرها من عصابات أمريكا في ثلاثينات القرن العشرين، في الكثير من الأعمال غير القانونية حينها مثل تهريب وبيع الكحول، وإدارة العالم السري لكازينوهات القمار غير القانونية وغير المرخصة.
لكن "عصابة آل كابوني" لم تكتف بتلك الأرباح والأموال التي تدفقت لجيوبهم، وإنما أنشأوا شبكة إجرامية سيطرت بقبضة من حديد على مدينة شيكاغو ثالث أكبر مدينة في أمريكا من حيث عدد السكان.
رغم كل جرائمهم تمكنوا ولسنوات من عدم ترك دليل واحد يدينهم أو يربط زعيمهم آل كابوني بتلك الجرائم. كما سيطروا على رجال شرطة وقضاة وسياسيين عن طريق الرشاوى، ومن لم يكن يقبل التعاون معهم كان يتعرض للابتزاز والتهديد وحتى القتل.
كانت أشهر جرائمهم مذبحة يوم القديس فالنتين، والتي قُتِلَ فيها 7 من أفراد العصابات المتنافسة على يد مسلحين يرتدون زي ضباط شرطة. مع ذلك، لم تثبت أي صلة جازمة بين كابوني والكمين الذي نُصِبَ يوم 14 فبراير/شباط 1929.
لكن هنالك قصة واحدة بشأن عصابة آل كابوني ربما لم تسمعوا بها من قبل. وهي محاولتهم السيطرة على صناعة الألبان في شيكاغو والمواجهات العنيفة التي حدثت بسبب ذلك مع العديد من النقابات، بما في ذلك "اتحاد الحليب النقي" و"نقابة سائقي توصيل الحليب".
النقابات العمالية "إوزة" عصابة آل كابوني التي تبيض ذهباً
رغم كل محاولات ربط آل كابوني بأي من جرائم القتل والأعمال الإجرامية الأخرى، لم تستطع السلطات الأمريكية إثبات أي من تلك التهم، لكن بطريقة ما، تمكنت الحكومة الفيدرالية في الزج به في السجن عام 1932 لمدة 11 عاماً بتهمة التهرُّب من الضرائب. وقد قضى محكوميته في سجون فيدرالية في مدينة أتلانتا، ثُمَّ في سجن ألكاتراز الفيدرالي سيئ السمعة.
بعد دخول آل كابوني السجن، بدأ رجاله يفكرون في طرق جديدة للحصول على المال، خاصة أنَّ الرئيس فرانكلين روزفلت حينها كان يستعد لإلغاء "حظر الكحوليات". فبمجرد أن يصبح تهريب الخمور والحانات التي تُقدِّم الخمور غير القانونية جزءاً من الماضي، سيؤثر ذلك على مصدر أساسي لعائدات العصابة.
في ذلك الوقت كانت نقابات العمال هي الإوزة التي تبيض ذهباً لرجال العصابات.
استطاعت "عصابة آل كابوني" ابتزاز أصحاب الشركات والمصالح المختلفة، عن طريق السيطرة على تلك النقابات والقيام بإضرابات تسبب توقف العمل والإنتاج ثم التفاوض مع أصحاب الشركات لإلغاء الإضراب وتجنيبهم الخسائر. ومثال ذلك ما قامت به ذراع آل كابوني اليمنى، وابن عمه "فرانك نيتي"، الذي ابتز استوديوهات هوليوود بملايين الدولارات.
وفي عام 1933، كانت الفرصة أمام عصابة آل كابوني للسيطرة على نقابات الحليب والألبان خاصة مع المشاكل التي كانت تجري بينهم حينها.
للسيطرة على تجارة الألبان؛ عصابة آل كابوني تشعل "حرب الحليب"
في تلك السنة كانت تسعيرة الألبان ثابتة، لكنَّ مزارعي منتجات الألبان المستقلين أرادوا بيع الحليب بسعر أعلى. قال ممثلون عن المجموعة الخاصة بتجارة منتجات الألبان المعروفة باسم "تجار الحليب المتحدين" إنَّ الجمهور لن يدفع المزيد؛ لذا، دخل المزارعون، الذين كانوا أعضاء في نقابة اسمها "اتحاد الحليب النقي"، في إضراب.
تقول كلير وايت، مديرة التعليم في المتحف الوطني للجريمة المنظمة وإنفاذ القانون في مدينة لاس فيغاس، إنَّه كان هنالك سببان رئيسيان؛ الأول، وهو افتقار مجال الألبان للقواعد التنظيمية. والثاني، وهو أنَّ المافيا كانت تسيطر بالفعل على مجالات المنتجات الغذائية الأخرى.
اشترت عصابة كابوني شركة Meadowmoor Diaries (ميدومور دياريز) للألبان، بهدف شق طريقها عنوة إلى مجال الألبان. وقررت أن تقوم بتوزيع الحليب الذي تنتجه شركتها من خلال المتاجر بصورة حصرية بدلاً من استخدام السائقين لتوصيل الحليب إلى المنازل. فكانت الشركة تشتري الحليب من المزارعين بسعر ثابت وأجبرت أصحاب المتاجر على بيع بضاعتهم بالقوة.
سمح هذا للشركة بالبيع بسعر أقل من الشركات الأخرى التي كانت مُلزَمة، بموجب عقود، بدفع الأسعار التي تحددها النقابة للسائقين الموجودين ضمن نقابات أخرى. أثارت تلك الأساليب غضب مسؤولي النقابات من مزارعين وعمال النقل وشركات الألبان ضد رجال العصابة.
حاول أفراد العصابة اتباع أسلوب "فرّق تسُد"، واستمالة نقابة سائقي توصيل الحليب إلى صفهم، أو السيطرة عليهم بأي شكل من الأشكال.
بحسب صحيفة The Chicago Tribune، قرر نائب "آل كابوني" موراي "الجمل" همفريز، التواصل مع "ستيف سامنر"، رئيس نقابة سائقي توصيل الحليب، وأخبره أن عليه أن يقوم بتمثيلية من أجله ليستطيع رفع أسعار الحليب والألبان التي تبيعها شركة العصابة بعد أن كانت الشركة تبيعه بسعر رخيص لضرب مصالح الشركات المنافسة.
طلب "موراي" من "ستيف سامنر" الاختفاء لفترة، لأن الشركة التي تديرها العصابة ستقرر توظيف عمال من خارج النقابة يقومون بتوصيل الحليب. بحجة أن "ستيف سامنر" غير موجود ولم يستطيعوا التواصل معه لتوظيف عمال من داخل النقابة.
الخطوة التالية في الخطة كانت أن يعود "ستيف سامنر" ويحتج مع أعضاء نقابة السائقين على الشركة، لتتخذها الشركة ذريعة لرفع أسعار الحليب مجدداً. كل ذلك كان في مقابل حصول النقابة على حماية العصابة بالطبع.
لم يرغب سامنر في أن يكون جزءاً من هذا. فرفض حماية العصابة، ورفض كل مطالبها، وهو ما أدَّى إلى بداية حرب الحليب في شيكاغو.
"حرب الحليب" مواجهات وتفجيرات وعنف في الشوارع
بعد فترة من تلاعب العصابة بالسوق والأسعار وتهديد أصحاب الشركات وابتزاز النقابات، قرر المزارعون وأفراد النقابات أن عليهم مواجهة عصابة آل كابوني ووضع حد لها، وعلى مدار فترة امتدت 18 شهراً، وقع العديد من التفجيرات، والعشرات من حوادث تحطيم النوافذ، وإتلاف الشاحنات، وضرب السائقين والبائعين.
فجَّر مزارعو حليب الألبان والسائقون المضربون شركة ميدومور، ولم ترتدع الشركة، فباعت حليبها بتكلفة 9 سنتات مقابل الربع جالون، أي أقل بواقع سنتين من السعر العادي لدى الموزعين الآخرين. كما أجبرت عصابة كابوني مطاعم البيتزا في نيويورك على استخدام جبن شركة ميدومور فقط.
ومع احتدام المعركة بين النقابات والعصابة وسائقي توصيل الحليب وبائعي التجزئة، حاول سامنر ونقابة سائقي توصيل الحليب تنظيم الشركات وتحويلها إلى نظام دفع رواتب للعاملين. لكنَّ مجموعة "تجار الحليب المتحدين" رفضت، واستمر مزارعو منتجات الألبان في الإضراب على الرغم من أنَّ المحكمة العليا أصدرت إنذارات قضائية ضد التحريض النقابي على الإضراب.
لم تنته المشاكل حتى عام 1938، حين أدانت هيئة محلفين كبرى 43 شخصاً بانتهاك "قانون شيرمان" لمحاولتهم تثبيت سعر الحليب.
أُدينت 14 شركة و43 شخصاً، بما في ذلك سامنر وعدة نقابات، من بينها نقابة سائقي توصيل الحليب، واتحاد الحليب النقي، وتجار الحليب المتحدين. لكن لم تُدِن شركاء كابوني.
وبعد توقيع الأطراف المتنازعة على تسوية والالتزام بشرط التنافس التجاري النزيه، انتهت حروب الحليب رسمياً عام 1940.
وبحلول الوقت الذي أُطلِقَ فيه سراح كابوني من سجن ألكاتراز عام 1939، كان يعاني من شلل جزئي نتيجة إصابة شديدة بالزهري أثَّرت على صحته العقلية والجسدية.
وأشار الأطباء إلى أنَّ عملياته الإدراكية تكافئ طفلاً يبلغ من العمر 12 عاماً. ولم يعد قط إلى شيكاغو، وعاش بدلاً من ذلك سنواته الأخيرة مع عائلته في قصره في فلوريدا، حيث توفي في عام 1947. وكان حينها بعمر 48 عاماً فقط.