شكّل القرن الـ16 م، العصر الذهبي للبحرية العثمانية، خلال ذلك القرن تمكن الرياس والبحارة العثمانيون من فرض سيطرةٍ شبه كلية على المضيق المائي الفاصل بين قارتي أوروبا وإفريقيا، وخاضوا عشرات المعارك الحاسمة مع الأساطيل الأوروبية، أبرز تلك المعارك كانت معركة البليار البحرية، وهي المواجهة التي وقعت سنة 1529، وشكلت واحدةً من أبرز انتصارات العثمانيين على القوة المسيحية الصاعدة في إسبانيا.
خلال هذه المواجهة نجح إيدين رايس بأمرٍ من البحار العثماني الشهير خير الدين بربروس، في الهجوم على جزيرة فورمنتيرا بجزر البليار التابعة للسيادة الإسبانية، وذلك من أجل إفشال مخطط الملك الإسباني شالكمان في القضاء على الأسطول الجزائري الذي كان يهاجم سواحل فالنسيا حينها من أجل إنقاذ المسلمين المهجرين من الأندلس، أين استطاع إيدين رايس في أن يكبّد الإسبان خسارة مذلّة، فالأسطول الذي أرسله الملك الإسباني من أجل وقف السفن الجزائرية على الإغارة على سواحل فالنسيا لم يعد منه أحد، بعد أن قتل إيدين جزءاً منه وأسر البقية.
إنقاذ الموريسكيين.. سبب معركة البليار البحرية
منذ سقوط غرناطة سنة 1492م، والتي بموجبها سقطت بلاد الأندلس، تعرض المسلمون هناك إلى تقتيلٍ وترويعٍ شديدٍ عبر تطبيق الممالك الإسبانية محاكم التفتيش بحق المسلمين واليهود بالأندلس، ثم صدور قرار بطردهم فيما بعد، وفي سبيل إنقاذ من تبقى من المسلمين واليهود، قام بحارة المسلمين في المتوسط بتنظيم قوافل بحرية لإنقاذهم.
وطيلة عقودٍ من ذلك، تحوّلت مدينة الجزائر إلى قاعدةٍ لإجلاء المسلمين واليهود من الأندلس، وعمل البحارة العثمانيون المتمركزون في الجزائر على الإبحار بقوافل من السفن لإنقاذ، وفي المرحلة الأولى وضع حاكم الجزائر خير الدين بربروس أسطولاً من 15 سفينة تحت قيادة البحار العثماني أيدين رايس، وأرسلها لإنقاذ المسلمين تحت الاضطهاد الإسباني، أطلق الإسبان على هذا الأسطول اسم: "ضارب الشيطان"، ثم سرعان ما عاد أيدين إلى الجزائر وترك وراءه مئات البحارة في مهمة إنقاذ المورسكيين.
نجحت هذه الغزوات التي قادها بشكلٍ واسعٍ بحارة الجزائر في إنقاذ عشرات الآلاف من المهجّريين المورسكيين، كما تسببت في إغراق مئات السفن الإسبانية، وفرضت حصاراً على الأساطيل الإسبانية التي وجدت نفسها تتعرّض إلى القرصنة والأسر.
وأمام هذا الواقع الذي فرضه البحارة الجزائريون والعثمانيون، وفي منتصف 1529م أمر ملك إسبانيا، الإمبراطور الروماني شارلكان أو تشارلز الخامس الهابسبورغي بوضع حدٍّ لهجمات الأسطول الإسباني على شواطئ فالنسيا، وبذلك بإرساله أسطولاً بحرياً مكوناً من 8 سفن عملاقة، بقيادة الربان المعروف آنذاك، رودريغو بورتوندو، بهدف القضاء على الأسطول الجزائري الذي كان يهاجم شواطئ فالنسيا وينقل المورسكيين من إسبانيا إلى الجزائر، وذلك بحسب كتاب "حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا"، للمؤرخ الجزائري أحمد توفيق المدني.
معركة البيار البحرية.. حين هزم الأسطول العثماني نظيره الإسباني في عقر داره
مع اقتراب وصول الأسطول الإسباني إلى جزيرة فورمونتيرا بجزر البليار من أجل شنّ هجومه على الأسطول الجزائري المرابط على تخوم السواحل الإسبانية من أجل إنقاذ الموريسكيين، أصدر بربروس تعليماته إلى أيدين رايس بقيادة أسطول عثماني كبير من أجل الدفاع عن السفن الجزائرية ووقف تحرش الأسطول الإسباني بها، والدفع بالسفن الحربية الإسبانية خارج جزيرة فورمونتيرا القريبة من إيبيزا.
وبعد محاولات تحذيرية عدة من أيدين رايس، للربّان الإسباني رودريغو بورتوندو، لم يستجب الأخير، وتقرر خوض المنازلة بين الأسطولين في 28 من أكتوبر/تشرين الأول 1529 بين القوتين، العثمانية والإسبانية.
سُميت المعركة في المصادر العربية والعثمانية بمعركة البليار البحرية، وفي المصادر الإسبانية بمعركة فورمنتيرا، وخلالها حقّق إيدين رايس انتصاراً كاسحاً على الأسطول الإسباني، وتمكن العثمانيون من الاستيلاء على جميع سفن الأسطول الإسباني، كما قتل قائد الأسطول الإسباني الربان رودريغو بورتوندو، والكثير من جنوده، فيما أسر كلّ من تبقى من الجنود الإسبان على قيد الحياة، وأخذوا في سفينة إلى الجزائر حيث بيعوا في أسواقها كعبيد.
وبعد تلك المعركة، انسحب الأسطول العثماني برفقة السفن الجزائرية دون أن يخسر خلال المعركة أيّاً من سفنه، كما أنقذ في الطريق مئات الموريسكيين الذين نقلوا إلى الجزائر.