هل أفاجئك عزيزي القارئ إذا قلتُ لك إن محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، هو أيضاً مؤسّس بيروت الحديثة؟
عندما فُتحت على أيدي الجنود المصريين عام 1831، كانت بيروت عبارة عن منطقة فقيرة على هيئة متاهة شديدة التعقيد من الأزقة الضيقة، فوسّع محمد علي الشوارع ونظّمها، حتى تحوّلت إلى مدينةٍ عصرية.
بموازاة الطفرة الاقتصادية التي شهدتها بيروت خلال حكم محمد علي، الذي أراد الاستقرار حتى آخر فرد في ذريته العلوية، فتح الباشا الباب للدول الأجنبية كي تستقدم سفراءها إلى بيروت؛ وفي ذلك كان دمار سلطته في لبنان، فكيف جرى الأمر؟
من المعروف أن الدولة العثمانية منحت -عبر سلسلة من المعاهدات- مجموعة امتيازات إلى الكثير من الدول الأجنبية، فتكوّنت على أساسها جاليات أجنبية تحوّلت كل واحدةٍ منها إلى كيانٍ يحكمه القنصل.
لكن ما أعطاه العثمانيون بيمين المعاهدات، أخذوه بيسار الواقع. فبفعل الصلاحيات الممنوحة إلى الولاة، بالإضافة إلى العداء الشعبي ذي الطابع الديني للقناصل، تقلصت حركة الأجانب واقتصر دور القنصل على المهام الدبلوماسية.
لكن مع مجيء محمد علي إلى سوريا ولبنان تغيرت تلك المعادلة الآمنة، بعدما أعطى الباشا دوراً أكبر للقناصل في حماية الأتباع ورؤوس الطوائف، لكي يكسب رضا الدول المسيحية في مواجهة الدولة العثمانية.
لكن اللعبة كانت سلاحاً فاسداً؛ فقد ازداد تغلغل القناصل في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية بالبلاد، تحت ستار "الصداقة مع الباشا"، وأدى ذلك إلى تفاقم الخصومات بين الطوائف، فضلاً عن الدسائس الخارجية.
بذور الغضب
رغم الجهود الكبيرة التي بذلها محمد علي في سوريا ولبنان، إلا أنه لم يحظَ برضى المحكومين. فقد طبّق السياسات القسرية التي سبق وطبقها في مصر من دون مشقة، والمتعلقة بالتجنيد الإجباري تحسباً لهجومٍ عثماني، ونزع السلاح تجنباً للثورات، والسخرة توفيراً للأموال، إضافةً إلى احتكار السلع والبضائع.
وبطبيعة الحال، أثرت هذه الأوضاع على الحالة الاقتصادية للبلاد. فباتت القرى بلا شباب للعمل ولا دواب للنقل، وتسبب ذلك في خلق حالةٍ من الاستياء في أرجاء البلاد.
وسط كل ذلك، رأى اللبنانيون أنفسهم محظوظين بالسفارات، ولجأوا إلى القناصل لحمايتهم من الخدمة العسكرية، التي كانت تصل إلى 15 عاماً.
أما الفلسطينيون الذين لم يجدوا قنصلاً يحميهم، فقد ثاروا في وجه الحكم المصري الذي قمع ثورتهم من دون هوادة، لكنها أثتبت شيئاً بالغ الأهمية: أن نظام محمد علي المخيف، والذي قهر جيوش الدولة العليّة، يمكن الثورة عليه مثل أي نظامٍ آخر.
وأثناء قمع ثورة الفلسطينيين الأشداء، اضطرّ إبراهيم باشا الاعتماد على الدروز بعد أن كان يستثنيهم من سياستَي التجنيد الإجباري ونزع السلاح، بحكم سدّهم لثغرات البلاد المُشرعة على البادية وصدّهم لغارات البدو.
كانت سياسة إبراهيم باشا بالغة النمطية ومكشوفة؛ تبدأ بنزع السلاح، ثم التجنيد، ثم إخضاع كامل للأهالي، وكان قادة جيشه يقولون علناً: "انزع سلاح الرجال، يصبحون نساءً".
سكان البلاد من جهتهم كانوا يفهمون تلك المعادلة جيداً، إذ رأوا في سحب السلاح منهم "نزع رجولة المرء". لذا فقد تسببت سياسة التجنيد في ثورة عارمة في جبل الدروز، تحطمت على صخرتها الكثير من الأساطير الشائعة عن نظام محمد علي آنذاك.
كان عدد المقاتلين الدروز قد بلغ ألفين فرد، لكنهم كانوا قوات نخبة قياساً على جنود ذلك الزمان، لا سيما أنهم كانوا يعيشون في ظروفٍ جبلية بالغة القسوة، واختبروا طويلاً حروب الجبال ضدّ القبائل الغازية.
ولهذا كان من السهل عليهم أن يبيدوا أول فرقة أرسلها شريف باشا، حاكم على سوريا، مؤلفة من 400 فارس. فأرسل حملةً جديدة من 8 آلاف مقاتل هذه المرة، أجبرت الدروز على التراجع نحو منطقة اللجاة، لكن هذا التراجع ما كان إلا فخاً مميتاً لجيش الباشا.
فلا أحد خارج حوران يعرف التضاريس الجغرافية المعقدة لمنطقة اللجاة، وهي أشبه بمتاهة سحرية من الكهوف الدائرية وبحر من البازلت. وهناك كان الدروز يستمتعون باصطياد الجنود المصريين، لدرجة أن محمد باشا -مفتش الجيش المصري- قُتل في المعركة.
شكل إبراهيم باشا قوةً من 20 ألف مقاتل، اجتازت مسالك اللجاة الأولى، بعد تراجع الثوار إلى المناطق الوعرة مجدداً. وهو ما رآه الباشا هزيمة محققة لخصومه، فأمر قواته بالهجوم، في الوقت الذي كان فيه الدروز يخططون لاستدراجه إلى الفخ نفسه، للمرة الثانية.
هُزمت قوات إبراهيم باشا، وخسر 4 آلاف من خيرة جنوده، فيما خسر الدروز 300 فقط لا غير. وقد شجع هذا الانتصار دروز وادي التيم للثورة على الحكم المصري.
في تلك الأثناء وصل إلى سوريا مترجم غامض، يُدعى ريتشارد وود، لمراقبة التمرد السوري على إبراهيم باشا وبحث ما يمكن القيام به من أجل تدمير سلطته.
فكانت أول فكرة خطرت على باله أن يتواصل مع الحليف التقليدي للباشا، الأمير بشير الثاني، من أجل إقناعه بالتخلي عن الباشا العالق في فخ الدروز. إلا أن الأمير الماروني رفض عرض الخيانة، فغادر وود إلى كردستان حيث يعسكر الجيش العثماني.
على الضفة الأخرى من الأحداث، اضطرّ إبراهيم باشا لاستقدام قواتٍ نظامية من مصر، وأخرى مؤهلة، لحرب الجبال. وقاد حملة مكوّنة من 21 ألف جندي، ووضع خطة مزدوجة للهجوم على معاقل الثوار من ناحية، والسيطرة على موارد المياه من ناحية أخرى، من أجل إبادتهم عطشاً.
أظهر الدروز مقاومة ملحمية، حتى إن إبراهيم باشا لم يتمكن في البداية من تحقيق خطة التعطيش، وواجه جيشه قتالاً ضارياً من الدروز، متكبداً خسائر فادحة. فقد خسر في "معركة براق" ألف جندي مصري، مقابل 300 من الدروز.
وبعد شهرين كاملين من الكرّ والفرّ، تمكن أخيراً من ردم كل برك المياه، وحرم الثوار وعائلاتهم من الماء. لم يستسلم الثوار، بل حرّضوا إخوانهم في وادي التيم على التحرك لإنقاذهم، فاستجابوا بحملة شغبٍ خطيرة، وانضمّوا إليهم أخيراً.
اتسع نطاق التضامن الدرزي؛ فانضم إلى الثوار دروز حاصبيا والشوف، فيما طلب إبراهيم باشا نجدة الأمير بشير، فأرسل إليه ابنه الأمير خليل مع 4 آلاف مقاتل مسيحي.
كانت مشاركة المسيحيين في الحرب على الدروز خطأ تاريخياً، إذ فتح معمقاً جرحاً في جسد البلاد لم يبرأ أبداً، وفي الأخير تمكن إبراهيم باشا من سحق ثورة الدروز بعد أن دفع الثمن غالياً.
ولم يكد إبراهيم يهنأ بقمع ثورة الدروز حتى جاءته ثورة لبنان على طبقٍ ناري، أوقدها الدبلوماسيون الأجانب الذين فتح لهم البلاد يمرحون فيها عرضاً وطولاً، وفي مقدّمتهم "المترجم الغامض".
ريتشارد وود.. "شيخ الجواسيس"
لم يغفر دروز لبنان لمحمد علي ما فعله في قادتهم الذين انحازوا لثورة إخوانهم، ولم ينسوا أبداً أن إبراهيم باشا حاول إبادة الدروز عطشاً، فتحيّنوا الفرصة للثورة على حكم الباشا.
جاءت تلك الفرصة الغائبة بعد موقعة "نصيبين" التي انتصر فيها الباشا على السلطان، وارتعبت بريطانيا مما فعله حاكم مصر الطموح بالدولة العثمانية، وخافت من تهديده لمصالحها في الهند، أو تحالفه مع فرنسا.
كما خشيت أن تفرض روسيا سيطرتها على تركيا، خصوصاً بعد أن سارعت بإرسال أسطولها إلى البوسفور تحسباً لغزو محتمل من جيش محمد علي.. وهو هاجس كانت تشاركها فيه فرنس، والنمسا، وبروسيا.
شعر محمد علي بأن أوروبا ستعاقبه على انتصاراته، فأخذ يعدّ العدة للدفاع عن سلطته في بلاد الشام، بينما توقع الأهالي عودة إبراهيم باشا إلى سياسات التجنيد الإجباري البغيضة.
وهنا خاف مسيحيو لبنان من أن يجنّدهم محمد علي في حربه المقبلة، فتحالفوا مع الدروز. وحينها طلب الباشا من الأمير بشير نزع السلاح، الذي سبق أن وزّعه على المسيحيين، من أجل محاربة الدروز.
ولم يكن لهذا التحالف أن يعلب دوراً كبيراً في زلزلة الحكم المصري، لولا جهود ترجمان السفارة البريطانية في الاستانة، السير ريتشارد وود.
فمن هو ريتشارد وود؟
وُلد وود، وهو ابن سائق في الجيش البريطاني، عام 1806 والتحق بمدرسة داخلية في مدينة "إكستر". بقي فيها حتى العام 1823، حيث تعلّم وأجاد اللغات التركية، واليونانية، والفرنسية، والإيطالية.
لاحقاً أصبح ريتشارد وود خبيراً في شؤون الإمبراطورية العثمانية؛ وقد منحته تلك المعرفة، مع إتقانه التركية بالفعل، مكانةً فريدة في تاريخ الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، حيث اضطلع بدورٍ حاسم في تأمين مصالحها في الشرق.
وبالفعل في العام 1831، أرسلته الحكومة البريطانية إلى سوريا -وهو العام الذي شهد فتح محمد علي لبلاد الشام- بمهمةٍ محددة: إيجاد الوسائل اللازمة لتقويض حكومة إبراهيم باشا في بلاد الشام.
لكن ريتشارد وود تظاهر بأنه أتى إلى الشام، بهدف تعلم اللغة العربية.
ووفقاً لهذه المهمة السرية راقب ريتشارد وود عن كثب حصار إبراهيم باشا لعكا، قبل أن يعود إلى إسطنبول عام 1834.
وهناك، أجرى ريتشارد وود محادثات طويلة مع السفير البريطاني لورد بونسونبي بشأن كيفية طرد إبراهيم من سوريا وتقويض النفوذ الروسي المتزايد في إسطنبول، والذي نجم بالأساس عن صعود مصر.
وبمجرد اندلاع شرارة الثورة اللبنانية، التقط مستر وود خيط التمرّد ولعب دوراً فعّالاً في استمالة زعماء الدروز والموارنة -الخارجين عن سطوة الأمير بشير الثاني- إلى الجانب العثماني، وبدأ في التخطيط لتدمير الحكم المصري.
وما لبثت أن انتقلت شرارة الثورة من صيدا إلى بيروت، وجرت بين الثوار اللبنانيين وبين القوات المصرية معارك عنيفة في ضواحي بيروت، انتصر فيها اللبنانيون.
وبفضل ريتشارد وود توحَّد الثوار من جميع الطوائف، دروز ومسيحيين وسُنّة وشيعة، وأمامهم هدفٌ واحد: العمل من أجل الاستقلال عن مصر. وقد تمكنوا من إثارة الشغب والاضطراب في البلاد، كما نهبوا مستودعات الذخيرة.
وحين عجز الأمير بشير الشهابي عن تفريق الثوار، أرسل لمحمد علي يُشير عليه بأن يستجيب لمطالبهم. لكن الباشا كان يعلم بأن تحرّكهم لم يكن عفوياً، بل مدعوماً من الدول الأوروبية، فقرّر قمع الثورة بالقوة.
وتحقق للباشا مراده في إخماد الثورة، لكنه أخطأ غايته في البقاء في الشام. فقد اتفقت الدول الأوروبية على وجوب إجلاء محمد علي عن بلاد الشام، فيما يُسمّى بـ"معاهدة لندن" (1840).
رفض الباشا المعاهدة واستعدّ للحرب، إلا أن بريطانيا قد سبقته في قطع خطوط الاتصال بينه وبين ابنه في سوريا، وأرسلت جزءاً من أسطولها إلى بيروت.
وفي هذه الأثناء عرض ريتشارد وود على بشير الثالث، المنافس القوي لحليف محمد علي -بشير الثاني- أن يتسلم الحُكم في جبل لبنان.
ولكي يحظى بثقة ريتشارد وود، انبرى بشير للدعوة إلى الثورة ضدّ المصريين، واستمال إليه الدروز، بينما أشرف ريتشارد وود على وصول الأسلحة إلى الثوار.
كما ألّف من الثوار قوة مساندة للجيوش الأوروبية، التي تمكنت من هزيمة الباشا وابنه، ليظفر ريتشارد وود بمنصب قنصل بريطانيا في دمشق على أنقاض الوجود المصري هناك.