بعد منتصف الليل، في يوم 30 يوليو/تموز عام 1945، دوّى صوت الانفجار على متن السفينة يو أس أس إنديانابوليس، التابعة لسلاح البحرية الأمريكية، لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى هزّ انفجار ثانٍ السفينة، وهذه المرة صاحبه دخان كثيف.
حاول قبطان السفينة "تشارلز مكفاي"، معرفة ما حدث بالضبط، ليدرك أن السفينة تمت مهاجمتها من قبل غواصة يابانية، وتلك الانفجارات كانت ضربات قاتلة بالطوربيدات لا يمكن النجاة منها، فاتخذ قراره وأعطى أوامره للبحارة بمغادرة السفينة والقفز في الماء من أجل النجاة.
خلال 12 دقيقة غرقت السفينة بالكامل، ونجا مئات البحارة، لكن كابوس القبطان والبحارة الذي سيمتد لعقود قد بدأ للتو، فما كان ينتظرهم في تلك المياه أسوأ بكثير.
مهمة السفينة يو أس أس إنديانابوليس السرية لنقل القنابل الذرية
في أواخر شهر يوليو/تموز 1945، تم إرسال السفينة يو أس أس إنديانابوليس في مهمة سريعة وعالية السرية، لتسليم حمولة إلى قاعدة جوية في أحد جزر ماريانا، في غرب المحيط الهادئ.
لم يكن أحد من البحارة على متن السفينة يعلم ما هي طبيعة تلك الحمولة، فكانوا يعتقدون أنهم ينفذون مجرد مهمة روتينية أخرى لصالح البحرية الأمريكية. خاصة أنه لم يتم إرسال أية مرافقة للسفينة في هذه المهمة، وتم إرسالها لوحدها.
ولكن بعد وصولهم إلى القاعدة الأمريكية، اكتشف البحارة أنها كانت تحمل أجزاء القنابل الذرية التي سيتم إلقاؤها لاحقاً على مدينة هيروشيما اليابانية بعد أيام قليلة فقط.
بعد انتهاء تلك المهمة توجهت السفينة يو أس أس إنديانابوليس وعلى متنها 1195 بحاراً، للانضمام لقوات البحرية الأمريكية الأخرى في منطقة "ليتي غولف" بالفلبين لمزيد من التدريب قبل غزو اليابان، ولكن قبل أن تصل إلى وجهتها كان المصير المحتوم ينتظر السفينة ومن عليها.
غواصة يابانية تُرسل السفينة يو أس أس إنديانابوليس إلى قعر المحيط
في عتمة الليل كان الملازم الياباني "موتشيتسورا هاشيموتو" يراقب السفينة يو أس أس إنديانابوليس من منظاره الليلي، على متن الغواصة اليابانية I-58. كان هاشيموتو قد شاهد سفن البحرية الأمريكية، ترسل العديد من زملائه قادة الغواصات اليابانية إلى حتفهم.
وخشي أن يفشل في الحصول على جائزة لليابان قبل خسارة الحرب. استعد هاشيموتو لإرسال رسالة إلى قائده العام: "نسفت سفينة حربية أمريكية كبيرة".
وللتأكد من أن السفينة الأمريكية لن تستطيع النجاة بأي شكل، أو تفادي الطوربيدات، أمر "هاشيموتو" إطلاق 6 طوربيدات في عدة اتجاهات متقاربة، لتغطي أكبر مساحة ممكنة، لم تمض سوى ثوانٍ، وأصاب الطوربيد الأول بدن السفينة الأمريكية.
ثم أصابها طوربيد ثانٍ، والذي سبب إصابة قاتلة للسفينة، بعد تفجير مستودع الذخيرة.
نجح تكتيك الضابط الياباني وانطلقت ألسنة اللهب من السفينة يو أس أس إنديانابوليس، وخلال 12 دقيقة غرقت السفينة ومعها حوالي 300 جندي من البحرية الأمريكية حوصروا داخل هيكل السفينة الذي التهمته النيران.
أما بقية البحارة، فكانوا يصارعون من أجل البقاء، وسط مياه المحيط وبقع الوقود المتسرب من السفينة. لحسن حظ بعضهم كانوا يرتدون سُتر النجاة، والبعض الآخر تشبثوا بما استطاعوا من قطع حطام السفينة التي طفت فوق الماء.
"ثم جاءت أسماك القرش".. المصير المرعب لبحارة السفينة يو أس أس إنديانابوليس
لم تكن لدى البحرية الأمريكية فكرة عن غرق السفينة إنديانابوليس، فلم تخرج من أجلهم أية مهمات إنقاذ. وعلى مدى الأيام الأربعة التالية، كان الناجون من البحارة وسط أمواج المحيط المتلاطمة، يحاولون البقاء على قيد الحياة.
لكن بعد أن نال منهم التعب وعلى مدى 4 أيام، تعرض البحارة لأسوأ الظروف، من أشعة الشمس اللاهبة في النهار، والطقس البارد في الليل، وكان بعضهم مصابين بجراح بليغة وبحاجة لعناية طبية عاجلة.
خلال تلك الفترة من بقائهم في المياه، بدأ الناجون في الهلوسة. كان البعض منهم مقتنعاً بأنهم يستطيعون رؤية اليابسة، وبدأوا السباحة باتجاه ذلك السراب، ولكنهم لم يعودوا أبداً.
اعتقد آخرون أن حطام السفينة تحتهم مليء بالطعام والماء. فخلعوا سترات النجاة وجربو الغوص لإحضار ما يستطيعون، ولكنهم كانوا يغوصون ولم يعودوا فوق سطح الماء مرة أخرى.
وبسبب العطش الشديد، لم يستطع الآخرون مقاومة إغراء شرب مياه البحر، معتقدين أنهم يستطيعون تصفية الملح من خلال أصابعهم. وسرعان ما أصيبوا بالتسمم بسبب الوقود الذي كان موجوداً في المياه، أو أصيبوا بالمرض بسبب المياه المالحة.
كان البحارة الناجون يشاهدون رفاقهم تبتلعهم الأمواج الواحد تلو الآخر، أو يموتون جراء الإصابات، أو كان بعضهم يستسلم من التعب ويغرق في المحيط، وكأن كل هذا لم يكن يكفي، كان أسوأ مخاوفهم على وشك التحقق.
تجمعت مئات أسماك القرش حول البحارة الذين كانوا لقمة سائغة لتلك الأسماك، كانت أسماك القرش في البداية تلاحق الأشخاص المصابين بجروح وتمزقهم إرباً، ثم بدأت تهاجم الجميع. ولم يكن لدى البحارة أي مكان يذهبون إليه، لكنهم قرروا مواجهة أسماك القرش بأية طريقة.
فحاولوا التجمع ضمن مجموعات والسباحة قرب بعضهم، وضرب أسماك القرش بأيديهم وأرجلهم إن استطاعوا لحماية أنفسهم منها، ونجح بعضهم في إخافتها، ولكن الكثيرين منهم كانوا منهكين للغاية ولم يمتلكوا أية قدرة على المقاومة.
التهمت القروش حوالي 150 بحاراً، ومات المئات بسبب العطش أو الغرق أو ضربات الشمس أو البرد، وفي النهاية لم يتبق سوى 316 رجلاً فقط، من طاقم السفينة البالغ 1195 رجلاً، ما يجعلها أكبر خسارة في الأرواح في عرض البحر في تاريخ البحرية الأمريكية.
في نهاية المطاف، اكتُشف وجود الناجين عن طريق طائرة دورية بثت إشارة بموقعهم. هبطت طائرة مائية أمريكية واحدة عند الموقع، حيث وضع طاقم الطائرة من استطاعوا من البحارة عند أجنحتها لإبقائهم على قيد الحياة، حتى وصلت زوارق الإنقاذ.
محاكمة قبطان السفينة يو أس أس إنديانابوليس وتبرئته بعد 50 عاماً
في أعقاب الحرب، خضع قائد السفينة الأدميرال تشارلز ماكفاي، لمحاكمة عسكرية، واتُّهم بتعريض سفينته للخطر، لأنه لم يستطع التصدي للهجوم وتفادي تلك الطوربيدات، رغم أن عديداً من البحارة من طاقمه تحدثوا دفاعاً عنه.
بل حتى إن قائد الغواصة اليابانية اعترف بأن ربان السفينة الأمريكي، لم يكن بمقدوره فعل أي شيء لإنقاذ السفينة يو أس أس إنديانابوليس من الهجوم.
لسنوات بعد الحرب، تلقى ماكفاي رسائل كراهية من أقارب بعض الرجال الذين لقوا حتفهم في الغرق، وأصبحوا يلومونه على ما حدث، وبسبب كل رسائل الكراهية تلك وما تعرض له من محاكمة، سار ماكفاي إلى الشرفة الخلفية لمنزله بالزي العسكري في 6 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1968، وقتل نفسه بمسدسه.
لكن في عام 1996، بدأ طالب في الصف السادس بحثه عن غرق إنديانابوليس في مشروع عن التاريخ، وهي مهمة أدت في النهاية إلى تحقيق في الكونغرس الأمريكي.
في عام 2000 أصدر كونغرس الولايات المتحدة قرارًا ينص على أن سجل الكابتن ماكفاي يجب أن يذكر أنه "تم تبرئته لفقدان إنديانابوليس"؛ وقع الرئيس بيل كلينتون القرار.
لاحظ القرار أنه على الرغم من أن عدة مئات من سفن البحرية الأمريكية قد فقدت في القتال خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن مكفاي كان القبطان الوحيد الذي يتم استدعاؤه أمام محكمة عسكرية لغرق سفينته. في يوليو 2001، أمر وزير البحرية الأمريكي بإلغاء سجل مكفاي الرسمي في البحرية من أي مخالفات.