بعد نجاح إنزال النورماندي في أغسطس/آب 1944، تقدمت قوات الحلفاء نحو حدود ألمانيا بسرعة كبيرة، ولكن بعد ذلك نجحت المقاومة الألمانية في إيقاف التوغل السريع للحلفاء في هولندا، وإجبارهم على الانسحاب من هولندا.
استعاد البريطانيون ببطء مصب نهر شيلدت للسماح باستخدام الميناء الرئيسي في أنتويرب، كما تقدم الكنديون مرة ثانية إلى هولندا في قتال شتوي صعب.
هاجمت الجيوش الأمريكية والفرنسية خط سيغفريد المحصن ونهر الميز في أقصى الجنوب، بينما انخرط الأمريكيون الآخرون في قتال عنيف ودامٍ في غابة هورتجن.
بدت غابة آردين القريبة، حيث حارب الأمريكيون الألمان في الحرب العالمية الأولى عام 1918، مكاناً هادئاً، سرعان ما تحولت إلى ساحة معركة دامية عندما شن الجيش الألماني هجوماً مضاداً ومفاجئاً ضد الحلفاء، عرفت تلك المعركة باسم معركة الثغرة، أو غزو آردين.
هتلر يعوّل على عامل المفاجأة والطقس للانتصار على الحلفاء
بحلول منتصف شهر ديسمبر/كانون الأوّل عام 1944، بدا أن الحرب في أوروبا تقترب من نهايتها، وأنّ الألمان في طريقهم إلى الهزيمة بعد نجاح إنزال النورماندي في تحرير فرنسا من النازية.
لم يكن أحدٌ من الحلفاء يتوقع بأنّ الجيش الألماني المنهك في القتال على عدة جبهات، والذي يتعرض إلى هزائم متتالية ويقاتل في أكثر من عدو في آنٍ واحدٍ، بإمكانه شنّ هجومٍ معاكسٍ على الجبهة الغربية.
كان الجنود الأمريكيون المتمركزون في بلجيكا ولوكسمبورغ يستعدون للتخييم لفصل الشتاء والاستمتاع قبل نهاية الحرب.
حتى إنّ العديد من الفنانين والمغنين كانوا يتوافدون على بلدة آردن البلجيكية للترفيه عن الجنود الأمريكيين، ففي 14 ديسمبر/كانون الأوّل 1944، قدمت المغنية الألمانية الأمريكية مارلين ديتريش أداء صاخباً للجنود الأمريكيين المتمركزين في بلدة باستون البلجيكية.
في اليوم التالي، قاد لاعب فريق نيويورك جاينتس ميل أوت وفداً من لاعبي كرة القدم الأمريكية في زيارة إلى مقر الفرقة الأولى في مدينة سبا البلجيكية، ووجد العديد من الضباط الأمريكيين يقضون إجازة بالعاصمة الفرنسية باريس.
على الجانب الآخر كان هتلر يدرك أنّه لا يمكن لألمانيا محاربة أقوى جيوش العالم معاً ومن كافة الجهات في آن.
اعتقد هتلر أنَّ الأمل المنطقي الباقي، هو أن يجبرَ الحلفاء، لا سيَّما إنجلترا والولايات المتحدة، على التفاوض معه على سلامٍ أحادي، على الخطوط الحالية، لكي يتفرغ بما تبقى من الثقل العسكري الألماني لمواجهة السوفييت الأكثر شراسة، ورغبة في الثأر.
لذلك كان عليه تحقيق انتصارٍ يقوي موقفه ويجبر الحلفاء الأمريكيين على التفاوض معه.
علاوة على نسبة التوقع الضئيلة للأمريكيين من هجوم ألماني محتمل، كان على هتلر أن ينتظر الظروف الجوية السيئة، من سحب وأمطار وضباب، لمنع الحلفاء من استخدام قوتهم الجوية المتفوقة، لبدء هجومه.
وبينما كانت القوات الأمريكية في بلجيكا وفرنسا تستمتع بوقتها قبل دخول فصل الشتاء، كانت القوات الألمانية تتجمع على الحدود البلجيكية.
وضع هتلر خطة لهجوم آردين سمّاها "عملية المراقبة على نهر الراين"، وتعتمد تلك الخطة على جدول زمني، فقد طلب هتلر من جنرالاته، التوغل في خطوط الحلفاء وعبور نهر الميز في غضون أيام قليلة فقط، قبل الاستيلاء على ميناء المياه العميقة الحيوي في أنتويرب.
وبالرغم من أن خطة هتلر في الهجوم على آردين تبدو وجيهةً نظرياً ويساعدها عاملا المفاجأة والطقس، فإن الكثير من الجنرالات الألمان اعترضوا عليها بشدة، ورأوا أنها مقامرة بالقوة الرئيسية التي يمكن استغلالها في الدفاع عن العمق الألماني بفاعلية، لمنع سقوط الوطن.
فقد حذّر المشيران الألمانيان جيرد فون روندستيدت ووالثر موديل من مثل هذا الجدول الزمني غير المعقول، وقدم هؤلاء عدة احتجاجات مكتوبة واستراتيجيات بديلة، لكن دون جدوى.
معركة الثغرة.. آخر فرص هتلر للانتصار على الحلفاء
في 16 ديسمبر/كانون الأوّل 1944، شقّت ثلاثة جيوش ألمانية هي جيش بانزر إس إس السادس والجيش المدرع الخامس والجيش السابع لبراندنبيرجر غابة آردين، عبر جبهة طولها 75 ميلاً، تضمنت العملية أكثر من مليون جندي، 200 ألف جندي من خيرة جنود الفيرماخت، وأكثر من 800 ألف جندي في الاحتياط، على استعداد لاستغلال النجاح الأولي.
اختار الزعيم الألماني أدولف هتلر هذه اللحظة لشن آخر هجوم كبير له في الحرب، فقد علقت ألمانيا النازية آمالها في تحقيق نصر نهائي في هجوم أخير في غابة آردين البلجيكية، ليتسنى لها التفرغ للجبهة الشرقية.
كان الهدف من الهجوم هو وقف استخدام الحلفاء لميناء أنتويرب البلجيكي وتقسيم خطوط الحلفاء، مما يسمح للألمان بتقسيم جيوش الحلفاء وتجنب الهزيمة الوشيكة لفترة أطول.
إذا نجح الهجوم في الاستيلاء على أنتويرب، فستتم محاصرة أربعة جيوش كاملة بدون إمدادات خلف الخطوط الألمانية.
تمت تسمية الهجوم الألماني باسم "عملية مراقبة نهر الراين"، ولكنه معروف عند الأمريكيين باسم "معركة الثغرة" حسب national ww2 museum.
كان توقيت هجوم هتلر في منتصف ديسمبر/كانون الأول استراتيجياً، حيث أدت سقوط حبات البرد والضباب الكثيف وانجرافات الثلوج ودرجات الحرارة المنخفضة إلى معاناة القوات الأمريكية.
خلال المعركة القصيرة نسبياً مقارنة مع بقية معارك الحرب العالمية الثانية تم الإبلاغ عن أكثر من 15 ألف جندي أمريكي أصيبوا بنزلات برد أو التهاب رئوي وعضة الصقيع.
بعد يوم من القتال الشاق، أحدثت الجيوش الألمانية الثلاثة ثغرة في خط الحلفاء، مما أدى إلى ظهور اسم المعركة، كما نجح الألمان في تحقيق سلسلة من الانتصارات في بداية المعركة، فقد كان الجنود الأمريكيون المصدومون من الهجوم يتساقطون بين أيدي الجنود الألمان واحداً تلو الآخر.
خلال الأيام الأولى لمعركة الثغرة، انتشرت العديد من القصص عن مذبحة الجنود الأمريكيين الذين وقعوا تحت أسر الجيش الألماني في بلدتي مالميدي وستافيلوت، وتم إعدامهم جماعياً.
واستعمل الألمان في هذه المعركة الخداع والحيل لتحقيق الانتصار على الحلفاء، من بينها إسقاط المظليين الألمان بملابس أمريكية خلف صفوف الجيش الأمريكي والبريطاني، كان هؤلاء المظليون يتقنون اللغة الإنجليزية، مما زاد من اضطراب وهلع الجيشين الأمريكي والبريطاني.
في هذا الصدد ذكرت مجلة لايف في عام 1945 أنّه "لقد تم إعداد النازيين بعناية للقيام بمهمتهم الخطيرة"، تضيف المجلة أنّ الجنود الألمان لقد كانوا يتحدثون الإنجليزية بشكل ممتاز، وقد تم ضبط لغتهم الممتازة من خلال الارتباط الوثيق بأسرى الحرب الأمريكيين في المعسكرات الألمانية.
لوقف المتسللين الألمان، كان على القوات الأمريكية أن تستجوب الألمان المشتبه بهم في كونهم من المظليين الذين أُسقطوا في معركة الثغرة من خلال الإجابة على الأسئلة التافهة الأمريكية.
وفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، يذكر الجنرال عمر برادلي، وهو أحد الجنرالات الأمريكيين المشاركين في معركة الثغرة، بأنه أُمر بإثبات هويته ثلاث مرات خلال المعركة، في هذا الصدد يقول: "في المرة الأولى بتحديد سبرينغفيلد كعاصمة إلينوي، والثانية عن طريق تحديد موقع الحارس بين المركز والمعالجة، والمرة الثالثة عن طريق تسمية الزوج الحالي لشقراء تدعى بيتي جابل".
في بلدة باستون البلجيكية، كان الألمان يحاصرون الآلاف من قوات الحلفاء، بما في ذلك الفرقة الأمريكية 101 المحمولة جواً الشهيرة.
لم تمضِ سوى أيام قليلة عن بداية المعركة، حتى خلع البلجيكيون أعلام الحلفاء وأخذوا يعلقون الصليب المعقوف على منازلهم، كما فرضت الشرطة في باريس حظر تجول طوال الليل، حتى المدنيين الأمريكيين، الذين اعتقدوا أن النصر النهائي قريب، استيقظوا من الهجوم النازي المفاجئ، وفقاً لمركز الجيش الأمريكي للتاريخ العسكري.
أجبرت معركة الثغرة، والتقدم المفاجئ الذي حققه الألمان في بداية المعركة، الأمريكيين على إلغاء سياسة الفصل العنصري، فقد كانت معركة الثغرة هي أوّل معركة يشارك فيها الجنود الأمريكيون السود، إذ شارك حوالي 2500 جندي أمريكي من السود في المعركة، مع قتال العديد منهم جنباً إلى جنب مع الجنود الأمريكيين البيض، وفقاً لـ history.
هجوم أمريكي مضاد في آردين يقضي على أحلام هتلر
بحسب Encyclopedia ushmm، لم تتحسن الأحوال الجوية إلّا في يوم عيد الميلاد، مما سمح للقوات الجوية التابعة للحلفاء بالعمل مجدداً، وبحلول 26 ديسمبر/كانون الأوّل، كان من الواضح أن التقدم الألماني قد توقف دون تحقيق هدفه، في عبور والسيطرة على نهر الميز.
فقد أنهك نقص الوقود الجيش الألماني الذي اضطر إلى استعمال الأحصنة البرية في النقل بعد فشل خطة هتلر في الإستيلاء على مستودعات الحلفاء من الوقود.
في نفس اليوم، وصلت القوات الأمريكية المدرعة إلى القوات الأمريكية المحاصرة عند تقاطع طريق حيوي في بلدة باستون، ونجح جيش جورج باتون الثالث بإراحة باستون.
في 3 يناير/كانون الثاني 1945، بدأ الجيش الأمريكي الأول هجوماً مضاداً على القوات الألمانية في آردن من الشمال، بينما تكفّل جيش الجنرال جورج باتون الثالث بالهجوم من الجنوب، وبين 8 يناير/كانون الثاني و16 يناير/كانون الثاني، بدأ الألمان في الانسحاب من معركة الثغرة.
في 16 يناير 1945، استمر التقدم الأمريكي بعد انضمام الفرقة 11 المدرعة، التي كانت جزءاً من الجيش الأمريكي الثالث، إلى الفرقة المدرعة الثانية والفرقة 84، مما أدى إلى القضاء على جميع المكاسب الألمانية المحققة في معركة الثغرة بحلول نهاية يناير 1945.
وفقاً لإحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية، شارك في معركة الثغرة، أكثر من مليون جندي من قوات الحلفاء، بما في ذلك حوالي 500 ألف جندي أمريكي.
قُتل ما يقرب من 19 ألف جندي أمريكي في المعركة وجرح 47 ألفاً و500 جندي آخرين، وما يزيد على 23 ألف أمريكي في عداد المفقودين، وهي أكبر حصيلة دموية في تاريخ الجيش الأمريكي.
وبينما خسر الحلفاء من حوالي 75 ألف ضحية، فقدت ألمانيا 98 ألفاً من جنودها خلال المعركة.
وصف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل معركة الثغرة بكونها أعظم معركة أمريكية في الحرب، فقد كانت تلك المعركة في منطقة آردن في بلجيكا هتلر آخر هجوم كبير لهتلر في الحرب العالمية الثانية ضد الجبهة الغربية.
بعد خمسة أشهرٍ من نهاية معركة الثغرة، كانت قوات الحلفاء والجيش الأحمر السوفييتي يتقاسمون في العاصمة الألمانية برلين.
في عام 2002، منح الكونغرس إذناً بوضع نصب تذكاري في مقبرة أرلينغتون الوطنية لتكريم قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية في معركة الثغرة.
تم تدشين النصب التذكاري في 8 مايو/أيّار 2006، في حفل حضره 300 من قدامى المحاربين وأفراد الأسرة، إلى جانب رئيس الوزراء البلجيكي جاي فيرهوفشتات ووزيرة دولة لوكسمبورغ للثقافة، أوكتافيا مودرت.