بسبب اتساع مساحتها وتعدد القوميات داخلها، شهدت الصين وعلى مدار قرون، العديد من الاضطرابات ومحاولات السيطرة على الحكم أو استقلال مقاطعات وإعلان إمارات مختلفة، وكانت تلك الأحداث تؤدي للعديد من الخسائر بالأرواح والممتلكات.
ولكن لم يكن هناك أي حدث آخر دمر الصين في القرن التاسع عشر مثل "تمرد تايبينغ" الذي قاده رجل واحد ادَّعى أنه نبي مرسل لتأسيس "المملكة السماوية" والقضاء على حكم الأسرة الحاكمة من "الشياطين"، فاستطاع جمع ملايين الأتباع وقاد جيشاً سيطر على مناطق واسعة من الصين.
بداية "المملكة السماوية" كاتب حكومي ورؤيا بسبب الحمى
ولد "هونغ شيوكوان" عام 1814 لعائلة من الفلاحين في الصين، حاول "هونغ" عندما أصبح شاباً الحصول على وظيفة حكومية، لكنه فشل في الامتحان عدة مرات، وعندما عاد من الامتحان إلى منزله في عام 1837، ذهب إلى الفراش وهو يشكو من المرض.
بعد ارتفاع حرارته ومعاناته من الحمى لعدة أيام، ادَّعى "هونغ" أنه عندما كان مريضاً ذهب في رحلة إلى أرض سماوية إلى الشرق، حيث التقى بشخص قال إنه والده، وأخبره أن الشياطين كانت تدمر الجنس البشري.
وفي تلك الرحلة التي شاهدها "هونغ"، بحسب ادعائه، كان يحارب بمساعدة شخص آخر، أخبره أنه أخوه الأكبر، وقاتل هونغ مع أخيه، الشياطين وملك الجحيم.
بعد المعركة، شاهد هونغ أنه سيعود إلى الأرض، ويحصل على لقب "الملك السماوي".
لكن من وجهة نظر عائلته، كان هونغ في الفراش لعدة أيام، يعاني من هلاوس الحمى والصراخ حول الشياطين، مدعياً أنه إمبراطور الصين وكان يغني وأحياناً يقفز من السرير ويقف مستعداً للقتال.
عندما استيقظ هونغ أخيراً، أخبر عائلته وأصدقاءه عن تجربته واعتقدت القرية أنه أصيب بالجنون.
"المملكة السماوية" والديانة المسيحية
أثناء وجوده في مدينة "كانتون" للتقدم للوظيفة الحكومية، حصل هونغ على نسخة من "الكتاب المقدس"، وبعد تعافيه من الحمى أعاد قراءة النصوص وتفسيرها بناء على "رؤيته" عن المملكة السماوية.
فاعلن أن والده في الحلم هو الله، والأخ الأكبر هو المسيح، والشياطين هم العائلة المالكة في الصين، وعلى مدى السنوات العشر التالية، واصل هونغ دراسة النصوص المسيحية، والتبشير بدعوته بين القرى.
دعا "هونغ" إلى تقاسم ملكية الأراضي، وحظر الدعارة والرق، ومنع تدخين الأفيون والقمار وتعاطي التبغ والكحول، كانت دعوته مختلطة بالأفكار الفلسفية الصينية، والقوانين القائمة على الوصايا العشر من العهد القديم في الكتاب المقدس.
في البداية لم يتم يتقبل الناس رسالته بشكل جيد، لكن في جنوب الصين وجد نفسه بين "الهاكا" وهم مجموعة عرقية من أبناء الشعب الصيني، والذين تعرضوا للتمييز من قِبَل السلطة الحاكمة، ولأن "الهاكا" كانوا دائماً مهمَّشين اقتصادياً، فكانوا أكثر تقبلاً لرسالته، خاصة مع وعود تقاسم الملكية والثروات.
وفجأة وجد نفسه زعيم مجموعة من المتمردين المتحمسين، الذين يشاركونه معتقداته السياسية والاقتصادية والدينية، ولم يرغب أتباعه في سماع رسالته فحسب، بل قاموا أيضاً بتشكيل جيش نظامي يضم الآلاف، وأطلقوا على دينهم الجديد "عقيدة تايبينغ" أو عقيدة "السلام العظيم".
انتصارات "المملكة السماوية" وبداية "تمرد تايبينغ"
في سنواتهم الأولى، بنى أتباع "المملكة السماوية" جيشهم الخاص واستمروا في نشر دعوتهم بين المهمشين من الفلاحين وعمال المناجم، وأقاموا تحالفات مع العائلات الأقطاعية، الذين اعتقدوا أن أسرة تشينغ الحاكمة كانت ضعيفة، وأنها سبب تدهور الصين.
وفي أول مواجهة عسكرية مع جيش سلالة تشينغ حققوا نجاحاً مذهلاً، وفي عام 1850، سيطر هونغ وأتباعه الذين أصبحوا حوالي مليوني شخص، على مقاطعة "تايبينغ"، وأعلن هونغ نفسه ملكاً للمملكة السماوية وأطلق حملة "تمرد تايبينغ" في العام التالي، لمهاجمة عاصمة سلالة تشينغ.
على الرغم من هذا النجاح المبكر، عانى "تمرد تايبينغ" في نهاية المطاف من الصراع الداخلي وأصبح الجنرالات وأمراء الحرب في "المملكة السماوية" يتقاتلون في ما بينهم،
ويهاجمون القرى والمدن بدون رحمة، حتى راح ضحية تلك الصراعات الداخلية مئات الآلاف من الضحايا.
استمر "تمرد تايبينغ" حوالي 14 عاماً شهد معارك كثيرة، بين قوات "مملكة السماوات" من جهة وجيش الإمبراطور من جهة أخرى، واعتقد هونغ أن الحكومات الغربية تعاطفت مع حركته وحاول تقديم مبادرات لهم، لكن القوات الأوروبية ساعدت في النهاية حكومة تشينغ في استعادة ما غزته تايبينغ. وبعد حصار لمدينة "تايبينغ" دام عدة أشهر، تم العثور على هونغ ميتاً في قصره في 1864، ويُعتقد أنه قد تسمم، على الرغم من أنه من غير المعروف ما إذا كان انتحاراً أم اغتيالاً، وبعد دخول جيش الإمبراطور إلى المدينة، وخلال أيام فقط قتل مئات الآلاف من أتباع "المملكة السماوية".
تختلف التقديرات ولكن يعتقد أن تمرد تايبينغ قد أودى بحياة ما بين 20 مليون و70 مليون شخص، مما يجعله أحد أكثر الصراعات دموية في تاريخ البشرية.