"هنا برلين، حيِّ العرب"، بهذه العبارة كان "يونس بحري" العراقي الهارب من البريطانيين، والمقيم في ألمانيا، يفتتح خطاباته من خلال أثير المحطة الإذاعية العربية التي أسسها في برلين وحملت اسم "إذاعة برلين العربية"، بدعم وتمويل من الحكومة النازية في ألمانيا بقيادة "هتلر".
وفي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، كان هتلر يحاول منافسة الدعاية البريطانية التي تفاقمت ضده وضد الحزب النازي في العالم عامة، وفي البلاد العربية خاصة، فكان يونس بحري هو صوت هتلر والدعاية النازية في المنطقة العربية.
يونس بحري صوت "إذاعة برلين العربية"
لا يمكن الحديث عن "إذاعة برلين العربية"، دون الحديث عن مؤسسها "يونس بحري" الذي عاش حياة فريدة حافلة بالمغامرات.
كان "يونس بحري" مغامراً يحب السفر، وأجاد عدة لغات، وكان متعدد المواهب وعمل في مهن عديدة متناقضة، فعمل أمام جامع ومفتياً وراقصاً وصاحب مطعم، لكن شغفه الحقيقي كان التأليف والكتابة، وعالم الصحافة.
فتجاوزت كتبه ومؤلفاته 15 كتاباً، من بينها: "دماء في المغرب العربي" 1955، و"ليالي باريس" 1965، ولعل أشهر كتبه "هنا برلين حيّ العرب" الذي صدر عام 1956 في ثمانية أجزاء.
وتعرف في رحلاته العديدة حول العالم، على العديد من القادة والرؤساء والشخصيات المعروفة في عصره، وضمت قائمة معارفه، الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس السعودية، والملك غازي من العراق، والحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وأنور السادات من مصر، وهتلر من ألمانيا والقائمة لا تنتهي.
حقق يونس نجاحاً في عالم الصحافة وأصبح له اسم معروف فيها، بعد إصداره جريدة "الكويت والعراقي" في إندونيسيا عام 1931، مع صديقه الكويتي الأديب الأمير عبد العزيز الرشيد، ومجلة أخرى تحت عنوان "الحق والإسلام"، بتمويل من ملك السعودية آنذاك عبد العزيز آل سعود.
وأيضاً كتب عدة مقالات في صحف عربية، منها مقال بجريدة الأهرام المصرية سنة 1931، حقّق نجاحاً كبيراً، لفت الأنظار اليه ومنها أنظار المخابرات البريطانية بحسب وثيقة رسمية تم رفع السرية عنها من الأرشيف البريطاني.
وحين عاد يونس بحري إلى العراق الذي كان مملكة يحكمها الملك "غازي الأول"، اختار الملك، يونس بحري ليكون جزءاً من إذاعة "قصر الزهور"، التي ركزت جهودها على الترويج للمساعي العراقية في ضمِّ الكويت إلى أراضيها.
لم تستمر هذه الإذاعة طويلاً، بعد حادث السيارة الغامض الذي تعرّض له الملك غازي وأودى بحياته في أبريل/نيسان 1939، وسط تكهُّنات أشارت بأصابع الاتهام إلى إنجلترا، بسبب سياسات غازي الساعية للتقرّب من هتلر.
وفي اليوم نفسه الذي وقعت فيه الحادثة، أصدر يونس بحري جريدة "العقاب" وصفحتها الأولى مكللة بالسواد، مع عنوان بالخط العريض: "مقتل الملك غازي"، وأشار "يونس بحري" إلى وجود أصابع انجليزية وراء الحادث، للتخلص من الملك الوطني الشاب الذي كان يدعو إلى التخلص من الاستعمار.
فتسبب ذلك في مظاهرات صاخبة قُتل خلالها القنصل البريطاني العام في الموصل، وحين ذهب رجال الشرطة إلى بيت "يونس بحري" لإلقاء القبض عليه، كان "يونس" قد وصل إلى برلين عن طريق المطار، بجواز سفر أصدرته له السفارة الألمانية في بغداد بعد وساطات من شخصيات عراقية مقربة من ألمانيا.
أغانٍ وخطب حماسية باللغة العربية وآيات من القرآن الكريم من قلب برلين
استقر يونس بحري في برلين، وبسبب علاقاته السابقة استطاع التقرب من وزير الدعاية النازية "غوبلز" ولقاء الزعيم النازي هتلر، حتى أصبح يونس يحضر التجمعات والاحتفالات النازية وهو يرتدي الزي العسكري وشارة النازية في ذراعه.
وبعد 3 أيام فقط من مغادرته بغداد، استمع العرب لأول مرة إلى صوت يونس بحري وهو يقول: "هنا برلين، حيَّ العرب" في يوم 7 أبريل/نيسان 1939، أما عن سبب اختيار هذه العبارة بالذات، يقول يونس بحري في مذكراته، إنه أراد أن يُحيِّي العرب على غرار التحية النازية، ولكن باللغة العربية.
وبحسب مذكرات يونس بحري، فقد طلب من غوبلز الموافقة على بث القرآن الكريم، في "إذاعة برلين العربية"، من أجل جذب المستمعين العرب فيبدأ به إرسال الإذاعة، تردد غوبلز في البداية وأوصل المقترح إلى هتلر الذي وافق عليه.
بعد أن شرح له يونس بحري أنَّ بث القرآن الكريم سيجذب انتباه المستمعين العرب، ويدفعهم إلى العزوف عن الاستماع لإذاعة "بي بي سي" البريطانية، التي كانت لا تذيع القرآن، فكانت النتيجة أن أصبحت "إذاعة برلين العربية" المفضلة لدى العرب لسماع أخبار الحرب ومعارك ألمانيا ضد الحلفاء.
وحصلت الإذاعة على دعم شخصيات عربية كثيرة، مثل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني والداعية المغربي "تقي الدين الهلالي" الذي كان يراجع الخطابات ويدققها لغوياً.
وكان كثير من تلك الشخصيات يدعمون الإذاعة، لأنها كانت بالنسبة لهم طوق النجاة للتخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي في الدول العربية.
فكان أمين الحسيني يُوجِّه نداءات للفلسطينيين عن طريق إذاعة "برلين العربية"، ويحرضهم على مقاومة الإنجليز، ولكن لم يكن أحد بشهرة يونس بحري في تلك الإذاعة، وسريعاً أصبح يونس بحري بمثابة المتحدث شبه الرسمي باسم هتلر وقواته النازية، ويلقي الخطابات الموقعة من هتلر والموجهة للشعوب العربية.
لكن يونس كان كثيراً ما يخرج عن نهج المحطة بشتمه ملوك مصر والعراق واتهامهم بالعمالة والعبودية، وكان يخص الوصي على العرش في العراق الأمير "عبد الإله" بالقسم الأكبر من شتائمه، وكذلك رئيس الوزراء العراقي حينها "نوري السعيد" والملك "عبد الله" في الأردن.
وبعد أن كان العاملَ الرئيسي في نجاح الإذاعة، واستحوذ على آذان المستمعين العرب في كل مكان، قرر مفتي القدس أمين الحسيني، الذي كانت تربطه علاقة بالنظام النازي، إخراج يونس بحري من الإذاعة.
لأنه لم يكن يلتزم بنصوص البيانات والتعليقات التي كان يعدها المكتب العربي في القدس، ويرسلها إلى الإذاعة، فقد كان يونس بحري ينفعل ويضيف عبارات قاسية غير مكتوبة في النص.
ومع سقوط ألمانيا بيد قوات الحلفاء انتهت تلك الإذاعة للأبد، لكن لاتزال هناك مقاطع كثيرة منشورة على الإنترنت مسجلة بصوت يونس بحري وخطاباته من "إذاعة برلين العربية"، كما وثقها يونس بحري جميعها في كتابه "هنا برلين حيَّ العرب" الذي صدر في العام 1956 بثمانية أجزاء.