بدأت قصة الإيقاع بالقاتل المتسلسل "روبرت هانسن" بالمصادفة البحتة، في أغسطس/آب 1982، أثناء جولة ضابطيْ شرطة في ولاية ألاسكا خارج النطاق الرسمي لعملهما، وأثناء رحلة صيد شاهدا شيئاً يبرز من أسفل التربة المفككة من بعيد، فقررا الاقتراب، وكانت المفاجأة بأنها بقايا جثة آدمية.
بعدها توجها للإبلاغ عن الجثة، وفي اليوم التالي انتقلت وحدة مباحث المقاطعة لمعاينة الجثة، وبعد التحريات المكثفة تم تحديد هوية الضحية، كانت جثة "شيري مورو" البالغة من العمر 17 عاماً، وكانت تعمل في ملهى ليلي للتعري والرقص، وكان خطيبها قد أبلغ منذ فترة عن اختفائها، وأقر خطيبها أن قلادتها المفضلة قد اختفت، فذهبت كل الشكوك إلى أن الدافع هو السرقة، ولكن الأمر لم يكن كذلك، فتلك الجثة كانت سبباً للإيقاع بواحد من أشرس القتلة المتسلسلين في تاريخ أمريكا: روبرت هانسن.
اختفاءات ومصادفات
بعد العثور على جثة الفتاة بدأت قوات الشرطة في تكثيف التحقيقات، خاصة أن بلاغات اختفاء كثيرة قد بدأت تتزايد أغلبها لفتيات يعملن في الأنشطة الليلية، مثل رقص التعري وممارسة البغاء، وحاولت السلطات الربط بين ظهور الجثث خلال مدة 3 أعوام وبين وجود قاتل متسلسل في المنطقة، ولكن التحريات كلها لم تصل إلى أية نتائج.
ولكن في يونيو/حزيران 1983 كان سائق شاحنة يمر عبر المدينة "أنكوراج" في ولاية ألاسكا لاحظ وجود فتاة مذعورة ومقيدة بأصفاد، وفي حالة مزرية من الإصابات، تعدو في وسط الطريق وهي تلوح له بذراعيها، وعندما توقف السائق طلبت منه أن يقوم بتوصيلها إلى أقرب مكان آمن، فأوصلها لأحد النُزُل، فقامت على الفور بإبلاغ الشرطة بقصتها.
كانت الضحية هي "سيتني بوسنيل"، وتعمل راقصة تعرٍّ في أحد النوادي الليلية، وأقرت أن رجلاً في الشارع، يبلغ من العمر ما يقارب الأربعين، ذا شعر أحمر، عرض عليها 200 دولار لممارسة الرذيلة، وعندما وافقت وذهبت معه فوجئت به يضع الأصفاد في يديها، وأخرج المسدس وصوبه على رأسها، ثم اصطحبها إلى منزله، وهناك قام بتقييدها في غرفة النوم واغتصبها بوحشية، وقام بتعذيبها جنسياً. واستطاعت الفتاة أن تستغل انشغاله وقامت بالهرب، ولما طاردها توقف عندما استنجدت بسائق الشاحنة.
وبعد الإدلاء بأوصاف الجاني، وبعض تفاصيل منزله، ظهر اسم "روبرت هانسن" في التحريات، وبدأت الشرطة في التحقيق معه، ولكنه أجاب بكل ثقة أنه كان في مكان آخر وقت الجريمة، ولم تستطع الشرطة ربط الجريمة به، خاصة أنه، بتفتيش منزله، لم يُعثر على أية أسلحة، كما أن سيارته كانت في حالة نظيفة وكأنها لم تستخدم خلال عدة أيام.
الشكوك تتراكم.. وانكشاف الماضي
بعد أن أفلت روبرت هانسن من تهمة اغتصاب "سيتني بوسنيل" وتعذيبها، وفي سبتمبر/أيلول 1983 عُثر على جثة أخرى بجوار أحد الأنهار الصغيرة في حالة تحلل جزئي مدفونة على على عجالة وفي عمق ضحل، تبين لاحقاً أنها فتاة تدعى "بولا غولدنغ" بالغة من العمر 17 عاماً، وكانت أيضاً تعمل راقصة تعرٍّ في نوادي المدينة الليلية، وكشف تقرير تشريح جثتها أنها قتلت برصاصة من عيار 233 ملليمتراً، وهو ما يتطابق مع العيار الذي يظهر في أكثر من جثة من الضحايا.
هنا كان المحققون في مدينة "أنكوراج" شبه متأكدين أن هانسن هو الجاني في كل جرائم القتل التي تحدث في المقاطعة، ولكن مراوغات هانسن وثباته الانفعالى أغلقوا أية أبواب للاتهامات.
وعندها استعانت قوات شرطة المدينة بالمباحث الفيدرالية للحصول على المزيد من الدعم، خاصة المعلوماتي في هذا الزمن الذي لم تكن فيه البيانات تنتقل بسهولة عبر الحواسب، وعندما قامت الشرطة المحلية والمباحث الفيدرالية بتتبع تاريخ المشتبه فيه؛ جاءت المفاجأة التي أكدت شكوكهم.
سجل إجرامي حافل وماضٍ مخيف
جاءت تقارير التحريات أن "روبرت هانسن" يعود لأبوين دانماركييْ الأصل، وكانت طفولته قاسية؛ إذ كان والده رجلاً صارماً، أصر على أن يعمل ابنه لساعات طويلة في مخبز العائلة في ولاية بنسلفانيا في سن صغيرة، وظل طوال طفولته ومراهقته وحيداً بلا أصداء، وعانى من سخرية أقرانه.
وبعد أن أصبح شاباً تزوج من إحدى جاراته، ولكن بدأ سلوكه العنيف والمضطرب عندما ألقي القبض عليه بتهمة حرق مرآب حافلات مدرسته الثانوية، وأودع سجن الإصلاحية لمدة 3 سنوات.
بعد حبسه تقدمت زوجته إلى المحكمة وطلبت الطلاق وحصلت عليه، أما هو فقد أفرج عنه بعد 20 شهراً فقط من المدة، وبعد وقت قصير كانت زيجته الثانية، وظل عدة سنوات يتنقل من وظيفة إلى أخرى، ولكن سلوكه الجنوني المخيف لم يتوقف.
قبض على "هانسن" عدة مرات وتم سجنه في محاولة اغتصاب عاملة استقبال بقوة السلاح، وبعد أقل من شهر واحد اتهم بالتحرش بفتاة في الـ18 من العمر بقرب منزلها، كما ألقي القبض عليه في عدة سرقات صغيرة.
وبعدها قرر روبرت أن يبدأ حياة جديدة، وانتقل إلى "أنكوراج" في ألاسكا، وقام بالاحتيال على شركة تأمين بادعاء أن منزله تعرض للسطو وتمت سرقة محتوياته، واستطاع بالفعل أن يحصل على ثروة صغيرة، وبعد وقت قصير فتح روبرت مخبزه الخاص وعاش بصحبة زوجة وطفلين، وازدهرت تجارته وتحولت جرائمه القديمة إلى ماضٍ حاول دفنه؛ ولكن روح الشر بداخله لم تتركه، فتحول إلى تفريغ رغباته الشاذة بأن أصبح صياداً برياً بارعاً في استخدام الأسلحة النارية، والأسلحة البيضاء.
وقوع هانسن والاعترافات المروعة
بعد ظهور هذا الماضي المريب، توجه فريق من أبرع رجال المباحث الفيدرالية إلى ألاسكا، وعرضوا هذه الأدلة على المحكمة لاستصدار إذن تفتيش لمنزل هانسن، وبالفعل هذه المرة عُثر على مجموعة من الأسلحة النارية، وبنادق صيد من عيار 233 مشابهة لأسلحة الجرائم المحفوظة لدى الشرطة، ولكن الدليل الأكبر والذي زج بهانسن خلف القضبان كانت قلادة عثرت عليها المباحث الفيدرالية، وهي نفسها قلادة أول ضحية "شيري مورو"، ومن ثم تأكد ثبوت صحة أقوال الضحية الوحيدة الناجية منه "سيتني بوسنيل".
بعد حصار قوي للقاتل اعترف بقتله عدة نساء وصل عددهن إلى 30 ضحية؛ وإن لم يسجل في جريمته رسمياً سوى 17 فقط، واعترف أنه كان يقوم بتعذيبهن بهدف التلذذ بمعاناتهن، والأكثر بشاعة هو أنه اعترف بأنه كان يتلذذ أحياناً بإطلاق ضحاياه مقيدات معصوبات الأعين في الخلاء واصطيادهن مثلما كان يفعل مع حيوانات "الموظ" والغزلان.
بعد عدة أسابيع من محاكمة روبرت هانسن؛ حُكم عليه بالسجن بتسعة أحكام مؤبدة وصل مجموعها إلى 461 عاماً، وأمضى حياته في السجن حتى توفي عام 2014 في محبسه بولاية ألاسكا.