في مارس/آذار من عام 1988، لم يمن اسم القاتل المتسلسل "آثر شوكروس" قد ظهر بعد، ولكن على ضفاف نهر جينيسي في منطقة "لايل آفينيو" بولاية نيويورك الأمريكية؛ عثرت قوات شرطة الولاية على بقايا جثة "دورثي بلاكبيرن"، وهي امرأة تبلغ من العمر 27 عاماً، مقتولة خنقاً، بعد بلاغ تلقته الطوارئ من أحد الصيادين في المنطقة، ولاحقاً في يوليو/تموز من العام نفسه تلقت الشرطة بلاغاً بظهور جثة مشوهة ومخنوقة لامرأة مدمنة على ضفاف النهر، وسرعان ما سرى الذعر في المنطقة التي اشتهرت بالنوادي الليلية وانتشار بائعات الهوى.
وبعد فترة هدأت فيها الأوضاع، ظهرت الجثة الثالثة قرب منطقة "لايل آفينيو" لامرأة فقيرة مقتولة خنقاً بالطريقة نفسها، وهنا بدأت وحدة البحث الجنائي والمباحث الفيدرالية بالتأكد أن هناك "نمط قتل متكرراً"، ولم يكن هذا إلا بداية سقوط واحد من أكثر القتلة المتسلسلين شراسة ودموية، وربما جنوناً، في تاريخ الجرائم المتسلسلة؛ "آرثر شوكروس" الملقب بقاتل نهر جينيسي، أو "الحوت القاتل"، كما اشتهر في الملفات الجنائية الأمريكية.
كيف نشأ القاتل المتسلسل آرثر شوكروس؟
ولد آرثر شوكروس، والملقب بقاتل نهر جينيسي، في يونيو/حزيران عام 1945، وانتقل وهو رضيع بصحبة أسرته إلى ولاية نيويورك، وبحسب اعترافاته لاحقاً كانت طفولته غير مستقرة نفسياً، تعرض فيها للإساءة الجنسية وهو في سن 6 سنوات من قبل أمه، وهو ما تسبب في انهيار نفسيته وانحدار مستواه الدراسي وفشله في التعليم.
لاحقاً في عمر 9 سنوات اعترف "شوكروس" أن خالته أيضاً كانت تعتدي عليه جنسياً، واعترف أنه بالمقابل عانى من الاضطرابات فقام بالإساءة جنسياً لشقيقته الصغرى، وبدأ في ممارسة التنمر والتعنيف على أقرانه في المدرسة المتوسطة، وبدأ في إشعال الحرائق بشكل كبير، وهو من أبرز علامات الاضطراب النفسي والميول السيكوباتية لدى الأشخاص في أعمار صغيرة.
وبعد فترة من التمرد والشغب و3 أعوام من إثارة الاضطرابات وممارسة السرقة وإشعال الحرائق، ترك شوكروس الدراسة وتزوج من فتاة تركت منزل والديها، وأنجب منها طفلاً في سن 20 عاماً، ولكن ميوله المتمردة ورغباته المنحرفة أجبرته على ترك زوجته والفرار إلى ولاية أخرى، ثم كانت أفضل فرصة لديه لممارسة العنف بشكل "رسمي" عندما قرر أن يلتحق متطوعاً بالجيش الأمريكي الذي كان غارقاً في مستنقع حرب فيتنام عام 1967.
دموية شوكروس.. الحرب وما بعدها
في أبريل/نيسان عام 1967 التحق آرثر شوكروس بإحدى وحدات الجيش الأمريكي في فيتنام، وبحسب اعترافاته كانت واحدة من أسوأ خبراته في الحياة، وعانى فيها من متلازمة بعد الصدمة إثر العنف والدموية التي اتسمت بها المعارك على الجبهة الفيتنامية.
وبعد عام، وتحديداً في سبتمبر/أيلول 1968 أنهى "آرثر شوكروس" خدمته في فيتنام ونُقل إلى إحدى الوحدات العسكرية في ولاية أوكلاهوما، حيث جاء في تقارير خدمته أنه دموي ويُبدى شغفاً خاصاً بإشعال الحرائق والفتك بالأعداء بعنف أثناء وبعد المعارك، وأكد الطبيب النفسي الخاص بتقييم حالة الجنود بالجيش آنذاك أن شوكروس مصاب بجنون إشعال الحرائق pyromania، وبعد تسريحه من الخدمة تماماً، انطلق آرثر شوكروس إلى مطاردة خيالاته المرعبة والمريضة، والتي بدأت في نهايات الستينيات بجرائم السرقة بالإكراه وإشعال الحرائق، ولم تتوقف حتى بعد زواجه للمرة الثانية.
آرثر شوكروس (البطل)!
في أواخر الستينيات، وبعد أن ازداد معدل جرائم "آرثر شوكروس" خاصة السرقة وإشعال الحرائق، والتي لم تتضمن القتل حتى هذا الوقت، قامت زوجته الثانية برفع دعوى طلاق عليه، بعدها ألقي القبض عليه بتهم التخريب والسرقة، وحكم عليه بالسجن مدة 5 سنوات في أحد سجون مقاطعة "أوبرن" بولاية ألاباما.
ومن غرائب قضية "شوكروس" أنه قضى في سجن أوبرن مدة 22 شهراً فقط، وأطلق سراحه مبكراً تكريماً له على إنقاذه أحد حراس السجن أثناء أحداث تمرد وشغب وقعت في عام 1971، ووصف آنذاك بأنه "مواطن شجاع أنقذ حياة أحد رجال الشرطة".
في أوائل عام 1972 عاد شوكروس إلى ولاية نيويورك، وعمل في إحدى إدارات الإنشاءات الحكومية التابعة لمقاطعة "ووتر تاون"، ولكن تلك المرة لم يعد شوكروس مهتماً بإشعال الحرائق أو السرقة، بل بإراقة الدماء والاغتصاب، وهو ما حدث في مايو/أيار 1972، عندما أغوى شوكروس أحد أبناء جيرانه الطفل البالغ من العمر 10 سنوات والمدعو "جيك بلاك"، وقام باغتصابه وقتله في إحدى الغابات القريبة.
وبعد عدة أشهر كرر شوكروس جريمته الوحشية، ولكن تلك المرة مع "آن هيل" البالغة من العمر 8 سنوات، والتي كانت تزور البلدة بصحبة أمها في أحد الأعياد المحلية، وقام بإغوائها واقتيادها إلى منطقة معزولة قرب نهر جينيسي، واغتصبها ثم قام بالتمثيل بجثتها بحشو فمها وحلقها بفروع الأشجار والفضلات.
أثار تشابه الجريمة الثانية مع الأولى الشكوك حوله، خاصة أن أم الضحية الأولى كانت قد أخبرت الشرطة بشكوكها حول شوكروس، وأنها تشعر بأن تصرفاته قبل الجرائم غير طبيعية تجاه التلامس الجسدي مع النساء والأطفال، ولكن كانت شكوكها مجرد سطور في محاضر التحقيقات. ومع ظهور الجريمة الثانية بدأ أحد محققي إدارة جرائم النفس في "ووتر تاون" بملاحقة شوكروس ومواجهته، وتضييق الحصار عليه في التحقيقات، وبالفعل بعد عدة أشهر من التحقيقات وافق آرثر شوكروس على الاعتراف بالجريمة الثانية، ولكن الضحية الأولى كان قد عُثر على جثتها مشوهة فلم تستطع جهة الإدعاء توجيه الاتهام إليه بأي دليل مقابل حكم مخفف، وأدين وحكم عليه بالسجن المشدد مدة 25 عاماً.
إطلاق سراح (الوحش) مرة أخرى!
كانت ولا تزال قضية شوكروس سابقة غريبة لنُظم العدالة في العالم؛ فبعد سجنه مدة 14 عاماً تقريباً أطلق سراحه (وهو متهم بعدد من الجرائم من بينها قتل واغتصاب طفلين)، بعد أن رأت لجان العقوبات الأمريكية أنه أصبح "مواطناً صالحاً" يمكن إعادة تأهيله في المجتمع، وبالفعل في أوائل عام 1987 أطلق سراحه مع وضعه تحت المراقبة، وبدأ في إظهار السلوك المستقيم، وانتقل في عدة أماكن في ولاية نيويورك للتخلص من فترات مراقبته، ثم بعد أن شعر أنه بعيد عن الأضواء انتقل إلى منطقة "لايل آفينيو" التي تشتهر بالبغاء وانتشار بائعات الهوى ومدمني المخدرات ورواد حياة الليل، والذين كانوا، ولسبب ما، دائرة هدفه الجديد.
هنا بدأ آرثر شوكروس في ارتياد حياة الليل، واعتنى بشكله جيداً حتى لا يثير الشكوك، وكان ينتقى ضحاياه من بائعات الهوى والنساء المدمنات أو المشردات حتى، ليقتادهن إلى نزهات متطرفة بدعوى ممارسة الرذيلة مقابل المال، ومن ثم يقتلهن خنقاً أو بكسر أعناقهن، ثم تمزيق جثثهن، ولاحقاً في اعترافاته أقر أنه كان يتلذذ بتعذيب النساء انتقاماً من أمه وخالته اللتين اعتديتا عليه طفلاً، كما اعترف بتقطيع وأكل أجزاء من ضحاياه.
ويعد أن قتل شوكروس ضحيته الأخيرة "جون سيسرو"، والتي كانت معروفة بشكل كبير في "لايل آفينيو" بدأت شكوك أجهزة الأمن تحوم حوله؛ لأن البعض شاهدوه يغادر بصحبة "سيسرو" قبل مقتلها مباشرة، ومرة أخرى بعد تحقيقات مكثفة ضاق الخناق على شوكروس، فوافق على اتفاق قانوني جديد بالاعتراف بجرائمه مقابل مدة حكم أقل من المفترضة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1990 وقع آرثر شوكروس على ملف تفصيلي بجرائمه بلغ 80 صفحة بكل التفاصيل الممكنة حول جرائمه في منطقة نهر جينيس، وحُكم عليه بمجمل أحكام بلغت 250 عاماً، قضى منها آرثر شوكروس 18 عاماً ثم مات في السجن عام 2008، بعد أن أصبح مرجعاً مهماً لرجال المباحث الفيدرالية حول جرائم القتل المتسلسلة.