بعد أيام من صدور الحُكم في قضية اغتيال توماس سانكارا، أحد أبرز الشخصيات في قارة إفريقيا والعالم بأَسره، بات من الضروري معرفة من هي تلك الشخصية المثيرة للجدل، وكيف تمكَّن في الثلاثينيات من عمره، من أن يغيّر تاريخ دولة بوركينا فاسو، ويخلّصها من السطوة الفرنسية في أعقاب الاحتلال.
الحُكم بالمؤبد على رئيس بوركينا فاسو السابق
في الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان من عام 2022، تلقَّى رئيس بوركينا فاسو السابق، بليز كومباوري، حكماً غيابياً بالسجن مدى الحياة؛ لدوره في اغتيال سلفه صاحب الشخصية المثيرة للجدل، توماس سانكارا.
وقد قُتل سانكارا الذي كان يبلغ من العُمر حينها 37 عاماً، مع 12 آخرين خلال انقلابٍ، عام 1987، أوصل كومباوري لاحقاً إلى السلطة. وقد كان الرجلان صديقين مقربين حينما استوليا على السلطة في عام 1983 في انقلاب سابق.
لكن سانكارا لا يزال بطلاً لكثيرين في جميع أنحاء إفريقيا، بسبب موقفه المناهض للإمبريالية وأسلوب حياته المتشدد والمائل إلى الزهد مقابل طموحاته في إعمار إفريقيا ووضع اسم بلاده على خريطة العالم المتحضّر.
وبعد الاستيلاء على السلطة في سن 33 فقط، شنَّ الثائر الماركسي المعروف لدى البعض باسم "تشي جيفارا الإفريقي"، حملة ضد الفساد، وأشرف على زيادات هائلة في الإنفاق على التعليم والصحة.
وقالت النيابة الأسبوع الماضي، إن سانكارا تم استدراجه لقتله في اجتماع للمجلس الوطني الثوري الحاكم في ذلك الوقت. وحينها أصيب في صدره بسبع طلقات على الأقل، وفق خبراء المقذوفات الذين شهدوا خلال المحاكمة.
وبحسب موقع BBC، تم استقبال حُكم المؤبد الغيابي على الرئيس السابق بالتصفيق في قاعة المحكمة بعد قضية استمرت ستة أشهر، وجاءت بعد سنوات من النضال من أجل تحقيق العدالة من قِبل عائلة سانكارا وأنصاره.
عدالة متأخرة أفضل من لا شيء
وقالت مريم سانكارا، أرملة الزعيم الإفريقي الراحل، إن الحكم يمثل "العدالة والحقيقة" بعد انتظارٍ دامَ 35 عاماً على مقتل زوجها.
وأوضحت لـBBC: "كان هدفنا إنهاء العنف السياسي الذي شهدناه في بوركينا فاسو. هذا الحكم سوف يعطي كثيراً من الناس سبباً لإعادة التفكير".
ومع ذلك، هناك احتمال ضئيل في أن يقضي كومباوري عقوبته في أي وقت قريب.
إذ يعيش كومباوري في منفاه بساحل العاج منذ إقالته من منصبه في أعقاب احتجاجات حاشدة اندلعت في البلاد عام 2014، وحصل حينها على الجنسية الإيفوارية؛ لحماية نفسه.
ولكن مع هذه العدالة المتأخرة التي نالها سانكارا، من هو صاحب الشخصية التي أثَّرت في إفريقيا بهذا الشكل، وتمكَّن من إدخال بوركينا فاسو في أطول محاكماتها الجنائية حتى اليوم لمعاقبة قاتله؟
من هو جيفارا إفريقيا الاشتراكي الطَّموح؟
يعتبر سانكارا "أبو ثورة بوركينا فاسو" وأيقونة إفريقية بامتياز إلى يومنا هذا، فقد ترك إرثاً لا يُمحى في تاريخ بلاده.
وصل إلى سدة الحكم عام 1983 خلال انقلاب عسكري. وحينها قام بتغيير اسم بلاده التي كان يسميها المستعمرون الفرنسيون في ذلك الوقت "هوت فولتا"، لتصبح "بوركينا فاسو" التي تعني "بلاد الرجال النزهاء".
وقال برينو جفري، صاحب كتاب "الانتفاضة التي لم تكتمل: بوركينا 2014" الصادر عام 2019، لموقع "فرانس 24" الفرنسي: "لقد أثبت توماس سانكارا أن من الممكن تطوير اقتصاد بلاده بكل استقلالية وعبر منح الثقة لأهاليها".
ولفت جفري إلى أن هدف الشاب الطَّموح كان زيادة ثروات البلاد والاستفادة منها محلياً، وتابع: "سانكارا كان ثورياً ومناهضاً للإمبريالية يطمح إلى إيصال صوت الضعفاء والمظلومين عبر العالم، فضلاً عن وضعه أسس الاستقلال في بوركينا فاسو من قيود التبعية الفرنسية التي أعقبت فترة الاحتلال".
وتابع في تصريحاته لـ"فرانس 24": "نظام بليز كومباوري -المسؤول عن اغتيال سانكارا وخلفه في الحكم- قام بكل ما في وسعه لوقف الإجراءات القضائية، وقد توجب انتظار تنحيته من السلطة في 2014؛ لكي يتسنى إعادة فتح هذا الملف من جديد".
تورط فرنسي في تنحية قائد بوركينا فاسو عن المشهد
يرى عديد من المراقبين أن توماس سانكارا كان يزعج ما يسمى آنذاك بـ"فرانس أفريك"، أو إفريقيا الفرنسية.
فعلاوة على نضاله من أجل الاستقلال الذي كان يلقى صدىً كبيراً في دول منطقة غرب إفريقيا، كان أيضاً يطالب الأمم المتحدة بتسجيل كاليدونيا الجديدة في قائمة المناطق التي يجب أن تتحرر من الاستعمار الفرنسي.
وقد استطاع توماس سانكارا أن يكون رئيساً لدولة بوركينا فاسو الواقعة في غرب إفريقيا، عن عمر يناهز 33 عاماً، في فترة لم تتجاوز 5 سنوات حينما تم اغتياله.
وكان قائداً لمبادرة جريئة لتغيير بلد محاصر في علاقة تبعية مع بقية العالم، لا سيما فرنسا.
منذ أوائل الثمانينيات، برز سانكارا كمنافس للطبقة الساخرة لقادة ما بعد الاستقلال. وبحسب موقع The Africa Report، كان سانكارا ضابطاً راديكالياً في الجيش، وقد شعر بالاشمئزاز من تداول نخبة تخدم مصالحها الذاتية في بلاده منذ الاستقلال في عام 1960.
أثناء التدريب العسكري المطول بمدغشقر في السبعينيات، قرأ كثيراً ودرس تاريخ الحركات المتشددة في القارة، وشهد الإطاحة بالحكومة في مدغشقر نفسها من قِبَل الطلاب والعمال.
الوصول للسلطة وتطلعات بتغيير شكل البلاد
جاء سانكارا إلى السلطة بانقلاب شعبي وقع في 4 أغسطس/آب من العام 1984. وحدثت ثورة بوركينا فاسو، كما أصبحت معروفة، في بداية عصر التقشف الاقتصادي بالقارة الإفريقية.
نشأ هذا من سياسات التكيف الهيكلي التي طالب بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن التخفيضات في تمويل الخدمات العامة.
وشكلت العلاقات غير المصححة إلى حد كبير، بين الدول الإفريقية والقوى الاستعمارية السابقة نمطاً حلم سانكارا بكسره. لذلك رفض قبول فكرة أن الفقر في غرب إفريقيا أمر حتمي.
فشلت المشاريع التنموية التي فرضها الغرب بإفريقيا، ورأى سانكارا المستقبل في فصل فولتا العليا (كما كانت تُعرف البلاد قبل عام 1984) عن الروابط الاستغلالية مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة.
كان سانكارا ضابطاً في الجيش، لذا تصور أن التغيير الجذري سيأتي بحركة يمكن توجيهها من أعلى، وإن كان ذلك بمشاركة جماعية من جانب الفقراء وعامة الشعب، وفقاً للموسوعة البريطانية Britannica.
وبالفعل، كانت العديد من الإصلاحات التي تم تنفيذها في فترة وجيزة من حُكم سانكارا، طموحة وبعيدة النظر. إذ أطلقت حكومته برنامج تطعيم شاملاً؛ في محاولة للقضاء على شلل الأطفال والتهاب السحايا والحصبة.
ومنذ عام 1983، تم تحصين مليونين من سكان بوركينا فاسو.
وقبل هذا العام كانت وفيات الرُّضع في بوركينا فاسو تقارب 20% سنوياً، لكنها انخفضت في فترة رئاسة سانكارا إلى 140 لكل 1000 ولادة.
فكانت هذه مبادرات حيوية مُرحَّباً بها، وقد تم تقديمها من خلال هياكل الدولة والمجتمع بعد انقلاب عام 1983.
وكجزء من الإصلاحات، كلفت لجنة الدفاع عن الثورة، وهي مؤسسة مكلفة بمراقبة الثورة في ذلك الوقت، بترجمة التعليمات والأوامر الحكومية إلى واقع ملموس، واللجوء أحياناً إلى تدابير قسرية.
انقلاب مضاد من الدائرة المُقرّبة
بسبب السيطرة السياسية للمجلس الوطني الثوري على أرض الواقع، وهي الهيئة السيادية للثورة، ومع حظر الأحزاب الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، كان سانكارا عرضة للانقلابات المضادة من داخل الجيش، علاوة على القوى التي أرادت العودة بشكل عام للعمل كالمعتاد مع الإمبريالية الفرنسية، إضافة إلى المصالح المحلية التي استفادت بشكل كبير من هذه العلاقة.
في الوقت نفسه، كان من بين تدابير سانكارا القسرية أن يتم تهميش المعارضة كلياً والقضاء عليها. الأمر الذي تركه ضعيفاً، مع تنامي النواة المتشددة والديكتاتورية إلى جانبه ضمن فريقه وحكومته.
وبالفعل، جاء انقلاب مضاد حينما أطلق مسلحون يرتدون الزي العسكري النار على سانكارا في المقر الرئاسي، وفقاً لموقع The Nation.
هل تم تحقيق العدالة فعلاً لتوماس سانكارا؟
وعلى الرغم من أن كومباوري، الذي كان وزيراً للدولة برئاسة الجمهورية خلال سنوات سانكارا في الحُكم، نفى تورطه مُدعياً أنه كان يقبع مريضاً في منزله، لكنه بحلول مساء الاغتيال كان الرئيس الجديد للبلاد!
وسرعان ما أعاد النظام الجديد بوركينا فاسو إلى مكانها في التسلسل الهرمي السياسي والاقتصادي العالمي الذي لَطالما حلم سانكار بتغييره ووضع بلاده على مشارف الدول المتقدمة.
فهل حقق فعلاً الحكم القضائي بالمؤبد غيابياً على كومباوري مدى الحياة، بعد أكثر من 30 سنة على اغتيال سانكارا، أي شكل من أشكال العدالة، أم لا تزال بوركينا فاسو تقع بين فكَّي المؤامرة والاحتيال ويقبع مستقبلها الحر في الأُفق البعيد؟