على عكس الفكرة المنتشرة في العالم العربي والإسلامي بأن الأندلس انتهت بطرد أهلها من الموريسكيين، والتي لم تشهد أي تحركات من قِبَل الأندلسيين لعودة الأندلس، أو حتى التأثير على الحياة الإسبانية الحديثة بصيغة أندلسية، فإن الشعور بالانتماء للأندلس لم يغِب عن أهلها- الذين تنصَّر كثير منهم بسبب محاكم التفتيش- على مدار القرون وإلى وقتنا الحالي، وهو ما ارتقى في كثيرٍ من الأحيان إلى حراك واسع يهدف للانفصال عن إسبانيا واستعادة الحضارة الأندلسية الزاهرة.
وفي هذا التقرير سنرى كيف أن أهل الأندلس ظلوا محتفظين بالكثير من تراثهم السابق، ولهم طبيعة مميزة كإقليم مختلف عن باقي إسبانيا المعاصرة، وهو ما جعل من هذا الإقليم مسرحاً للكثير من الأحداث الكبرى.
الموريسكيون والقومية الأندلسية الحديثة
بعد انتهاء دولة الإسلام في غرناطة على يد الملكين الإسبانيين فرناندو وإيزابيلا، عاش الأندلسيون- الذين عُرفوا بالموريسكيين- حياة مليئة بالصعوبات من أول محاكم التفتيش التي كانت تبحث عن أي أثر لهم عبر البحث عن أي مظاهر قد تكون إسلامية، للقضاء عليها بتعذيب أصحابها وتنصيرهم أو طردهم خارج البلاد.
مع ذلك ظل الموريسكيون متمسكين بحقهم وثاروا على السلطات الإسبانية، التي بدأت بثورة البشرات التي انطلقت أحداثها في 1568 وانتهت في عام 1571 بفشلها والقضاء عليها من قِبَل السلطات الإسبانية والكنيسة وهو ما زاد الطين بلة، وهو ما أسس لأندلس مختلفة عن ذي قبل، في ظل مملكة إسبانيا الكبرى، اندثرت فيها هويتها العربية الإسلامية إلى حد كبير.
مع ذلك ظلت الروح الأندلسية تنبعث من آنٍ لآخر على مدار القرون المتعاقبة، وهو ما شكل الهوية الأندلسية الجديدة- البعيدة عن الإسلام بكل تأكيد والتي تدين بالنصرانية، ولكنها مختلفة عن باقي إسبانيا- والتي لا تعتبر نفسها إسبانية وإنما أندلسية؛ وهو ما أصبح يُعرف بالقومية الأندلسية وهو الجزء الجنوبي من إسبانيا حيث كانت الأندلس في السابق.
ضم إقليم الأندلس 8 مقاطعات، وهي التي قامت عليها حضارة الأندلس من قبل، وهي من الشرق إلى الغرب على الترتيب كالآتي: ألميرية، جيان غرناطة، قرطبة، مالقة، إشبيلية، ولبة، وقادس والتي شكلت مساحة كبيرة من بلاد الأندلس السابقة.
وظل يراود الأندلسيين المسيحيين في إسبانيا الحديثة من وقت لآخر شعور بجذورهم المنتمية إلى الأندلس القديمة، حتى شهدت قيام أحداث كبرى في القرن التاسع عشر.
القرن التاسع عشر وبزوغ الروح الأندلسية من جديد
كانت أولى تلك المحطات الهامة بعد سقوط الأندلس بثلاثة قرون هي تصدي أهل الأندلس للغزو الفرنسي الذي طال إسبانيا في 1808م، والذي تُوج باستسلام البحرية الفرنسية في قادس- مقاطعة أندلسية- أمام مقاومة أهلها من الأندلسيين، والسعي لتكوين حكومة سرية في إشبيلية في 17 ديسمبر/كانون الأول 1808 التي عُرفت باسم "المجلس الأعلى المركزي"، والذي خضع له كامل الإقليم الأندلسي، وذلك طبقاً لما ذكره الدكتور علي المنتصر الكتاني في كتابه (انبعاث الإسلام في الأندلس).
وفي عام 1812 أُعلن دستور جديد لإسبانيا، وهو ما عُرف بدستور قادس، الذي اعترف لأول مرة بالأندلسيين أحد الشعوب الإسبانية المميزة والتي لديها خصوصية عن باقي الإسبان، إلا أن الملك فراندو السابع ألغى ذلك الدستور وأعاد الاستبداد تحت حكم الكنيسة والقشتاليين الذين قضوا على الأندلس في الماضي.
بسبب ذلك، اشتعلت الثورة في إشبيلية واندلعت في كل أرجاء الأندلس، وانضمت إليها القوات العسكرية في إشبيلية وقادس وشريش في 1820، ليضطر الملك ومجلس النواب إلى قبول دستور قادس.
وفي حركة تصعيدية للحصول على مكاسب إضافية؛ حاول الثوار إعلان جمهورية قادس وتحويل الأندلس إلى جمهورية مستقلة عن الملكية الدستورية الإسبانية، وهو ما أقلق الملك، فاستغاث بالفرنسيين والكنيسة لتتكون قوة مشتركة لدخول الأندلس.
وتحت صيحات "عاش الملك، عاشت محاكم التفتيش" عاث الجنود فساداً، وقاموا بالقبض على زعماء الثورة، وأُلغي دستور قادس، إلا أن الأهالي لم يستكينوا لتلك الإجراءات وهاجموا محاكم التفتيش، وحطموا آلات التعذيب، وظلت المواجهات طوال عقد ونصف بين الأسرة الحاكمة والثوار الأندلسيين.
وفي عام 1835 استطاع الثوار طرد ممثلي الحكومة الإسبانية، واُنتخب بدلاً منهم مجلس ثوري لقيادة الأندلس، ثم تكون على إثر ذلك جيش شعبي أندلسي- طبقاً لما ذكره الكتاني- والذي عمل على إزاحة الحكومة المركزية عن كامل البلاد، ودخول العاصمة الإسبانية مدريد.
التقى الجيشان في وادي دسبينيا بروس، وفي خضم المعركة انضم عدد من جنود جيش الحكومة إلى الجيش الأندلسي ما رجح كفة الجيش الأندلسي، وهو ما كان سبباً في إلحاق الهزيمة بالجيش الحكومي.
عاد الجيش الحكومي إلى مدريد، وعلى إثر الهزيمة سقطت حكومة دي تورينو، واستُبدِلت بحكومة تحت قيادة منذيزابال، الذي كان يتمتع بسمعة طيبة لدى كافة الأطراف، والذي قدم بدوره مجموعة من التنازلات للمجلس الثوري.
وبذلك، أصبحت أحداث 1835 نواة تكوين القومية الأندلسية المعاصرة، والتي تحرك فيها الأندلسيون كأمة واحدة ضد الحكومة الإسبانية منذ ثورات الموريسكيين، وفقاً للكتاني.
تأسيس الحزب الجمهوري الاتحادي ودستور أنتقيرة
على مدار الأربعة العقود التالية ظلت المناوشات مستمرة بين الأندلس والحكومة الإسبانية، والتي اشتعلت فيها الثورة عدة مرات، لتقوم الحكومة بقمعها. وفي 1873 طالب الأندلسيون بتأسيس الولايات الكونفيدرالية، إلا أن الحكومة رفضت ذلك المطلب وأرسلت الجيش للقضاء على سيادة إقليم الأندلس الذاتي، وأعلنت الحكومة الجمهورية عودة الملكية، وبذلك قضت الحكومة على آمال الشعب الأندلسي الطامح لتكوين حكم ذاتي.
أدت تلك الأحداث إلى تحول الحركات الأندلسية إلى السرية من جديد، وانضم الأندلسيون إلى ميليشيات مسلحة مثل "اليد السوداء" وغيرها من الحركات شبه العسكرية. وفي 1884 أسست المقاطعات الأندلسية بالتعاون مع مقاطعات إسبانية أخرى الحزب الجمهوري الاتحادي وانتخبوا بي إي مارجال رئيساً للحزب، فيما انتخب الأندلسيون أنتونيو أزواجا لرئاستهم داخل الحزب.
بدوره، أعلن أزواجا "دستور أنتقيرة" الذي نادى بإنشاء دولة ديمقراطية أندلسية مستقلة وذات سيادة، وتكون عضواً في كونفدرالية إسبانية.
وفي ظل تلك الأحداث الكبرى التي كان يعيشها الأندلسيون، وُلد شخص أدى إلى تشكيل الوعي الأندلسي المعاصر، وأعاده إلى جذوره الأولى حيث الحضارة الأندلسية العريقة، كما قاد كبرى التحركات ضد القمع الإسباني للقومية الأندلسية، وسعى من أجل تحرر تلك القومية وحصولها على حقوقها.
بلاس إنفانتي وتشكل شخصيته الأندلسية
ففي 5 يوليو/تموز 1885 وُلد بلاس إنفانتي لعائلة قادت التحركات الثورية في مالقة، التي كان لها دور في الدفاع عن الأندلس والقومية الأندلسية، وفي 1900 حصل إنفانتي على شهادة الباشلراتو الثانوية حيث كان يدرس في قرطبة، عاصمة الأندلس القديمة وحاضرتها الكبرى، وفي وقت الإجازة كان يعود إلى مالقة ليعلم الفلاحين القراءة والكتابة، وهو ما أطلعه على العديد من مشاكل حياة الأندلسيين ومآسي الحياة الاجتماعية التي كابدها أهل الأندلس.
توجه إنفانتي بعد حصوله على شهادته الثانوية إلى غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، ليلتحق بقسم الحقوق في كلية الفنون والآداب، لتلعب دراسته في غرناطة دوراً في تعريف إنفانتي على التراث الإسلامي الأندلسي، وهو ما بث داخل روح إنفانتي إعجابه بالحضارة العربية الإسلامية الأندلسية.
وبعد انتهاء إنفانتي من دراسته سافر إلى العديد من المدن والحواضر الأندلسية، والتقى بزعماء الحركة الأندلسية في الوقت الذي كانت تعاني فيه الأندلس مآسي المجاعة والبطالة والفقر دون اهتمام من الحكومة أو الأحزاب الإسبانية الكبرى اليمينية منها واليسارية.
خلال رحلته، وجد إنفانتي أن إشبيلية تزخر بحركة ونشاط فكري كبير حول الأندلس ودراسة تاريخها، والتي تحولت مع الوقت إلى كرنفال قومي أندلسي يتناول فيها الحاضرون الحديث عن الأندلس ويتدارسون تاريخها وحضارتها وخصائص القومية الأندلسية، كما كان العديد من السياسيين والقوميين يلقون الخطب الحماسية عن طبيعة الشخصية الأندلسية وتأثيرها العميق في البلاد، وهو ما جعل بلاس إنفانتي يقطن في إشبيلية بشكل دائم.
وفي 1913 ألقى بلاس إنفانتي أول خطبة سياسية له في المؤتمر الدولي للاقتصاديين الفيزوقراطيين، والتي تحدث فيها عن معاناة أهل الأندلس وظلم الحكومة المركزية وفساد نبلاء الشمال. وفي أحد الخطابات البارزة والهامة؛ وصف خوزي اسكيردو السياسي الجمهوري إقليم الأندلس كونه وريث المملكة الإسلامية الأندلسية، وقال: "هذه الديمقراطية، ليست إلا ديمقراطية الممالك النصرانية الغازية، فهل سينتهي غزو الأندلس؟"، وهو ما أثر في فكر بلاس إنفانتي.
نشاط إنفانتي الواسع ومولد مفهوم الأمة الأندلسية
أسس بلاس إنفانتي مكتب محاماة في إشبيلية، وعمل على كتابه "النظرية الأندلسية" الذي تحدث فيه عن انبعاث الأندلس من جديد، وخصائص القومية الأندلسية، ما جعل الكتاب مرجعاً أساسياً للفكر الأندلسي المعاصر.
ومنذ عام 1916 سعى إنفانتي لتأسيس مجموعة من المراكز الأندلسية التي بدأها من إشبيلية لتشمل مدن وقرى الأندلس، والتي كانت تنشر الثقافة والفكر الأندلسي وتبثه في روح الشعب الأندلسي.
كما أصدر إنفانتي مجلة الأندلس كلسان حال للمراكز الأندلسية والحركة القومية الأندلسية، وبمرور الوقت أصبح مركز إشبيلية الأندلسي قبلة للعديد من ناشطي الحركة الأندلسية والمثقفين، والذي نشر مصطلح "الأمة الأندلسية" لأول مرة، معبراً عن أن الأندلس أكبر من أقليم، وأن الأندلسيين يرتبطون ببعضهم البعض كأمة لها مبادئها وخصوصيتها وماضيها.
وتحولت المراكز الأندلسية إلى "مدارس مجانية" لتعليم الأندلسيين بماضيهم وأمجاد أجدادهم والتي عملت على تقوية الهوية الأندلسية بمفهومها المختلف والجديد، وبهذا أصبح بلاس إنفانتي رئيس تيار جديد للقومية الأندلسية.
وفي أحد أهم خطاباته التاريخية، قال بلاس إنفانتي، كما أورد الكتاني في كتابه: "إن الأحزاب السياسية الحالية لا تتجاوب اليوم مع طلبات الشعب، لذا، فهي تحتاج إلى رجال جدد، ومن هؤلاء الرجال نحن في المركز الأندلسي". وأكمل، موضحاً هدفه من هذا الحراك: "نحن لسنا بصدد إنشاء حزب، نحن نريد إنشاء شعب قادر على أن يحكم نفسه بنفسه، وإذا أدى نضالنا إلى حتفنا، فسنموت سعداء لكوننا قمنا بالواجب".
وفي 1918 تحددت ملامح القومية الأندلسية الجديدة من خلال مجلس المقاطعات الأندلسية الذي عُقد في مدينة رندة في مالقة، عبر النقاط التالية:
- الاعتراف بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي على أساس دستور أنتقيرة لسنة 1883.
- اختيار العلم الأخضر والأبيض؛ علم الأمة الأندلسية، ورمز قادس شعاراً لها.
وكان لإنفانتي دور كبير في قرارات رندة، وقال بهذا الصدد: "إن القوميين الأندلسيين لا يبتكرون شيئاً جديداً، نحن نسعى فقط للحصول على اعتراف بوجود أمتنا كما صنفها تاريخنا". وفي هذا الإطار، سعت القومية الأندلسية لإيجاد حلفاء لها داخل وخارج إسبانيا، إذ تقدم إنفانتي وخوزي باسكس لهيئة الأمم للأعتراف بالقومية الأندلسية، كما انضموا إلى اجتماع في مدينة لوزان السويسرية للقوميات التي ليست لها دول.
وفي عام 1919 أسس إنفانتي "الديمقراطية الأندلسية" الذي قام على ائتلاف بين الجمهوريين الاتحاديين والقوميين الأندلسيين والاشتراكيين المستقلين، وتقدم إنفانتي هذا العام لانتخابات إشبيلية، إلا أن السلطة الحاكمة غضبت من هذه الخطوة، واتهموه وأتباعه من القوميين الأندلسيين بالتآمر على الدولة ووحدتها، وقرروا منعهم من دخول مجلس النواب، وأطلقوا عليهم الأكاذيب والشائعات، كما أطلقوا حملة للسخرية من مبادئ القومية الأندلسية.
في المقابل أسس إنفانتي دار نشر ومكتبة في إشبيلية، وأسس مركز الدراسات الأندلسية، وأصدر العديد من الكتب، والتي كان من أشهرها وأهمها "المعتمد ملك إشبيلية الأخير" وهي مسرحية عكس فيها إنفانتي جذور الهوية الأندلسية الإسلامية، ما دفع العديد من الناس للتعاطف مع الإسلام، وتمني الأندلسيين الانتماء إلى حضارته.
كما جعلت تلك المسرحية المعتمد بن عباد- ملك قرطبة وإشبيلية في عهد ملوك الطوائف- رمزاً شعبياً داخل إشبيلية إلى يومنا هذا، والذي أُلفت عنه العديد من الأغاني والأعمال الفنية. كما خاض إنفانتي من خلال كتبه نقد الدين المسيحي والتنظيم الكنسي الذي وصفه إنفانتي بأنه "يتعارض مع مبدأ الإيمان"، كما ربط الهوية الأندلسية بالحضارة الإسلامية، وأبدى إعجابه واحترامه للدين الإسلامي الذي لا يجعل هناك وسيطاً بين العبد وربه، ويجعل الناس تؤمن بإله واحد.
إسلام بلاس إنفانتي والانطلاقة الجديدة للقومية الأندلسية
في عام 1923 استحوذ على السلطة في إسبانيا الجنرال الديكتاتوري بريمو دي ريبيرا الأندلسي، والذي قضى على الحريات، وأقفل المراكز الأندلسية، واتهم القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة، وعمل على إسكات كل الأصوات المعادية للكنيسة، فيما أسس مراكز أندلسية بديلة، وجعل على رأسها أشخاصاً ذوي ميول يمينية.
على إثر ذلك، ترك بلاس إنفانتي إشبيلية وأقام في ولبة، وانسحب من العمل السياسي، ونصح أتباعه بعدم المشاركة في المراكز الأندلسية التي أسسها النظام الديكتاتوري. وفي شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام اتجه إنفانتي إلى المغرب؛ قاصداً زيارة قبر المعتمد بن عباد.
وهناك تعرف إنفانتي على بعض أبناء الأندلس الذين ينحدر أحدهم من بني الأحمر- آخر حكام الأندلس في غرناطة- فتأثر كثيراً بتلك الأجواء، ما أدى في نهاية الأمر إلى إعلان إسلامه، ليهديه أصدقاؤه الجدد جلباباً رمزاً للزي الإسلامي، وخنجراً رمزاً لنضال إنفانتي نحو تحرير الشعب الأندلسي المضطهد.
ومنذ ذلك الحين، سعى إنفانتي لربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية، فعمل على كتاب يحمل اسم "جذور الفلامنكو وأسرار الكانتي هوندو" والتي أثبت فيه جذور الأغاني الإسبانية (الفلامنكو والهوندو) بالموريسكيين المسلمين الذين عبروا عن آلامهم وصيحاتهم ضد ظلم محاكم التفتيش وتسلط الدولة والكنيسة عبر ذلك الفن.
وفي 1930 سقطت الدكتاتورية، فعاد إنفانتي إلى إشبيلية وأعاد تأسيس المراكز الأندلسية ولكن على أسس جديدة، وهو ما أنتج في النهاية "مجلس الأندلس التحرري"، ومنذ ذلك الحين ربط إنفانتي خطبه السياسية بمجد الأندلس السابق وحضارته العظيمة التي قامت في مدن مثل قرطبة، التي علمت أوروبا كلها الحضارة والتمدن.
وطالب إنفانتي بإزاحة هيمنة الكنيسة عن الدولة، والذي هاجمها كونها سبب طرد المسلمين الأندلسيين (الموريسكيين) وهو ما تسبب في القضاء على الثقافة الأندلسية، كما نادى إنفانتي بمجانية التعليم. وأراد إنفانتي أن ينضم إلى تيار سياسي أعرض في البلاد، فتقدم للانتخابات التشريعية ممثلاً للحزب الجمهوري الاتحادي، وهدد إن لم تستجب الدولة لمطالب الشعب الأندلسي بأن يعلن الجمهورية الأندلسية المستقلة، والدفاع عنها حتى الموت "لإنهاء الاستعمار الذي قضى على الأندلس".
كما رفض إنفانتي الانضمام إلى الشيوعية أو التعامل معها، لإيمانه بالإسلام والإله الواحد، فيما ظل إنفانتي يُذِكِّر الشعب الأندلسي دوماً بأمجاد الأندلس وحضارتها ومدنها الكبرى، ونضال المسلمين الأندلسيين، بمن فيهم الموريسكيون. كما كان يُذِكِّر الشعب الأندلسي بأهم ما أنتجته الأندلس من معمار مثل مسجد قرطبة وقصر الحمراء.
وبذلك أصبح التحول الجوهري في القومية الأندلسية بعد إسلام بلاس إنفانتي، هو ارتباط تلك القومية بجذورها الإسلامية، وإيمان الكثير من الشعب الأندلسي بأن هوية الأندلس إسلامية بالأساس، وليست غربية، وهو ما جعل أعداءهم يرمونهم بالتهم بشكل متواصل.
الكفاح حتى الرمق الأخير
كرد فعل على تحركات إنفانتي، تآمرت الحكومة على القومية الأندلسية وادعت أن مجموعة من الأندلسيين يعملون على مؤامرة ضد أمن الدولة، وأمرت مدير عام الحرس المدني بإلقاء القبض على مجموعة من زعماء الحركة الأندلسية بتهمة التآمر للقيام بثورة وإعلان الجمهورية الأندلسية.
لكن عندما لم يجد مدير الحرس أي دليل على الاتهامات المنسوبة إلى هؤلاء الزعماء الأندلسيين، أطلق سراحهم، إلا أن الحكومة لم تكتفِ بتلك الواقعة، وتلاعبت بأوراق الانتخابات للحول ضد نجاح القوميين فيها، وعلى رأسهم بلاس إنفانتي.
وظلت الحركة الأندلسية وبلاس إنفانتي في شد وجذب مع الحكومة الإسبانية والتيار اليميني واليساري في إسبانيا، وفي عام 1936 انتخب مجلس الأندلس التحرري إنفانتي رئيساً، فقام إنفانتي برفع العلم الأندلسي فوق بلديات قادس وإشبيلية، وبذلك انفجرت الحرب الأهلية الإسبانية.
وفي يوم 2 أغسطس 1936 هجمت فرقة تابعة للجنرال فرانكو على إنفانتي في منزله ذي الطراز الأندلسي العربي الذي كان يسميه "دار الفرح" بالعربية، وزُج به في السجن، ورغم محاولات حاكم إشبيلية إنقاذه، فإنهم قد قرروا رميه بالرصاص.
وفي فجر يوم الإثنين الموافق 10 أغسطس/آب اُقتيد إنفانتي إلى طريق قرمونة، وهناك أطلقوا عليه الرصاص وهو يصرخ: "عاشت الأندلس حرة".
كانت هذه الأحداث بمثابة الروح التي انبعثت من جديد في الجسد الأندلسي القديم، الجسد الذي ظل يئن ويعاني بعد استشهاد بلاس إنفانتي في ظل ديكتاتورية فرانكو، إلا أنه بعد سقوط الديكتاتورية استطاع القوميون الأندلسيون- أتباع إنفانتي- تأسيس أحزاب وحركات تعبر عنهم تعمل على عودة الأندلس والتي ظهر فيها الطابع الإسلامي بشكل مميز هذه المرة، متأثرة بنضال إنفانتي أبي القومية الأندلسية.