للإسلام إرث غني من النساء الناجحات اللاتي برزن كقائدات في المجالات السياسية؛ أو نابغاتٍ في الشعر والأدب والعلوم؛ أو عالمات في أمور الفقه والدين؛ بل حتى مستشارات في إصدار الأحكام والفتاوى الشرعية.
ولكن نظراً إلى أن النساء اليوم قليلاً ما يشاركن في تعليم العلوم الشرعية وإصدار الفتاوى، هناك اعتقادٌ واسع النطاق بأنهن لم يقمن بهذا الدور من قبل. لكن في الحقيقة التاريخ مليء بالنساء اللائي برزن في زمانهن فقيهاتٍ تفوقن حتى على الرجال.
ومن هؤلاء النساء المسلمات العظيمات، عالمة القرن الثاني عشر، الفقيهة التي كانت تشارك في إصدار الفتاوى وتجلس في المساجد لإعطاء دروس العلم ويتعلم على يديها الرجال والنساء، فاطمة السمرقندية.
رافقونا في رحلة تاريخية للتعرف على الفقيهة بنت الفقيه وزوجة الفقيه، فاطمة السمرقندية، التي كان مهرَ زواجها كتاب في الفقه وعيّنها نور الدين زنكي مستشارة خاصة له.
الفقيهة فاطمة السمرقندية تخط الفتاوى بيدها وتوقّعها
وُلدت فاطمة بمدينة سمرقند، ثالث أكبر مدينة في أوزبكستان الحالية، وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان في آسيا الوسطى.
وعلى الرغم من أن تاريخ ميلادها غير معروف، فإنه يُعتقد أنها وُلدت في القرن الثاني عشر الميلادي.
كانت فاطمة السمرقندية ابنة عالم الفقه الكبير، محمد بن أحمد السمرقندي، وهو مؤلف كتاب الفقه الحنفي الشهير "تحفة الفقهاء"، الذي تعلمته فاطمة من والدها وحفظته عن ظهر قلب.
وقد كان لوالدها اهتمامٌ كبير بتعليم ابنته الفقه الحنفي وعلوم الحديث وأحكام الفتاوى ونقل الأحاديث النبوية، لدرجة أن والدها- ولاحقاً زوجها- كان يستشيرها في إصدار الفتوى وتصحيحها وتعديلها. وكانت الفتاوى تصدر مكتوبة بخط يدها وموقعة باسمها واسم ابيها.
شرحَ كتابَ والدها وقدَّمه مهراً لها
عندما أصبحت فاطمة في سن مناسبة للزواج، طلب كثير من الرجال الأغنياء وذوي المناصب والنفوذ يدها. ويحكى أنّ ملوكاً وأمراء من مختلف البلاد أرادوا الزواج بها، الأمر الذي رفضه والدها بشدة، لأنهم ليسوا من طالبي العلم ولخوفه من أن يُبعدوها عن دوائر العلم.
لكن عندما طلب يدها تلميذُ والدها، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، كتب شرحاً من ثمانية مجلدات لكتاب "تحفة الفقهاء" بعنوان "بدائع الصنائع"، وقدَّمه له.
ولشدة إعجاب والد فاطمة بكتاب الكاساني، وافق على زواجه بها بعد موافقتها، وكان الكتاب هو مهر زواجها.
وبعد الزواج، عاش الزوجان الجديدان في منزل والد فاطمة نفسه وأصبح الثلاثة بمثابة لجنة فقهية. وعلى الرغم من أن زوجها كان مثقفاً ومعلماً، فإن معرفة فاطمة وقدرتها الفقهية تجاوزتاه، وقد كان يلجأ إليها في كثيرٍ من الأحيان؛ للحصول على المشورة بشأن الفتاوى أو الأمور الفقهية الأخرى.
وقد رُوي أن زوجها كان يشك أحياناً ويخطئ في إصدار الفتوى، فتخبره بالرأي الصحيح وتشرح له سبب خطئه، كما جاء في موقع Daily Sabah.
برعت في التدريس وأصبحت مستشارة لنور الدين زنكي
انتقلت فاطمة مع زوجها إلى دمشق ودرّسا في الجامع الأموي، ثم استقرا في حلب التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم نور الدين زنكي، الحاكم اللامع المعروف بمقاومته للصليبيين في القرن الثاني عشر.
عيَّن زنكي فاطمة والكساني مستشارَين شخصيَّين له، وكان يطلب المشورة من فاطمة تحديداً، في مناسبات عديدة، في شؤون الدولة والفقه.
ولم تشارك فاطمة في الفقه الديني فحسب، بل كان لها دورٌ فعالٌ في الشؤون المجتمعية التي كانت تعمل تحت توجيهها ووعظها، بأمر من زنكي.
ويشير الكاتب والمؤرخ الدمشقي عمر رضا كحالة في كتابه "أعلام النساء في عالَمي العرب والإسلام"، إلى أن فاطمة السمرقندية أخذت العلم عن جملة من الفقهاء وأخذ عنها كثيرون، وبرعت في تدريس العلوم الإسلامية المختلفة والخط العربي.
كما قامت بتعليم الرجال والنساء على حد سواء، حتى إن الطلاب كانوا يسافرون إليها عندما استقرت في سوريا؛ للتعلم منها والحصول على أوراق اعتمادهم العلمية.
كانت أول من بدأ فكرة موائد الإفطار لطلاب العلم
يعرّف العديد من العلماء فاطمة على أنها المرأة التي بدأت تقليد تقديم الإفطار والحلويات للعلماء خلال شهر رمضان المبارك بمدرسة الحلوية في حلب، وهي من المدارس الشرعية الكثيرة التي لا تزال موجودة حتى اليوم.
وذكرت العديد من المصادر أنها باعت سوارَين كانا في يدها وصنعت بثمنهما الإفطار كل ليلة، واستمرت هذه العادة إلى اليوم في سوريا.
توفيت في حلب ودُفنت بمسجد إبراهيم الخليل
توفيت فاطمة السمرقندية سنة 1185 للميلاد، ودُفن جثمانها في مسجد إبراهيم الخليل بحلب. وبعد وفاتها كان الكساني يزور قبرها كل يوم جمعة حتى وفاته عام 1191 للميلاد. وقد تم دفنه بجوار قبرها في مسجد إبراهيم الخليل كما طلب في وصيته.