ربما لا يمكننا أن نحصي عدد المعارك عبر التاريخ، وخصوصاً في القرن الماضي الذي شهد حربين عالميتين كان ضحاياها عشرات الملايين، لكنّ معارك بعينها تظلّ في الذاكرة الإنسانية، إمّا لمحوريتها في تغيير التاريخ، أو لدفع محتل أو لانتصار أمّةٍ على أخرى، لكنّ أبرز الذكريات عن المعارك ستكون مؤلمة بالضرورة، فالمعارك تعني القتل والتدمير واللاإنسانية.
في هذا التقرير نأخذكم في جولة عن أكثر 9 معارك دموية في القرن الماضي، وبالطبع في المركز منها معارك الحرب العالمية الثانية.
معركة ستالينغراد.. السوفييت يقلبون الهزيمة إلى نصرٍ مُكلّف
كانت الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب تسبباً في المآسي، فقد كان ضحاياها عشرات الملايين، لكنّ أكثر المعارك عنفاً وبالتالي أكثرها ضحايا عبر التاريخ. وتعتبر معركة ستالينغراد أكثر المعارك دمويةً في التاريخ الإنساني، بعدد ضحايا يقارب 3 ملايين قتيل!
كانت القوات الألمانية قد سيطرت على أغلب أوروبا، واحتلّت حتى باريس، وبينما كان صراع هتلر الأساسي مع القوى الأوروبية، وعلاقته بالاتحاد السوفييتي تتلخص في كلمة واحدة "الحياد"، ولكن فجأةً ودون مقدّمات أراد هتلر غزو الاتحاد السوفييتي للسيطرة على المواد الخام، بدلاً من استيرادها منه، لكنّ التكلفة كانت هائلة، وفي النهاية لم يحقّق هتلر ما أراد.
قد يخيّل إليك أنّ هذه المعركة قد وقعت في عدة أيام على عادة المعارك عبر التاريخ كله، لكن هذه المعركة مختلفة، فقد وقعت في 6 أشهر، فقد بدأت المعركة يوم 21 أغسطس/آب 1942، وانتهت باستسلام الجيش الألماني المُحاصر في 2 فبراير/شباط 1943.
فوجئ الألمان بقوة الجيش الأحمر في مدينة ستالينغراد (أصبحت الآن مدينة فولغوغراد)، فقد نشر الاتحاد السوفييتي أكثر من مليون جندي لإحباط مخطَّطات الجيش الألماني داخل المدينة. عندما بدأت المعركة تقدّم سلاح الجو الألماني أولاً، ثم لحقته القوات البريّة، لكنّ المعركة التي كان مخططاً لها أن تنتهي بانتصارٍ ألمانيٍّ كاسح في أيام تطوّرت إلى حرب شوارع، فكانت المعركة تدار من شارع إلى شارع، بل من بيتٍ إلى بيت.
ورغم أن السوفييت قاربوا على الهزيمة، فإن خط دفاعهم الأخير استطاع قلب النتيجة، هُزِمَت في النهاية قوات المحور (ألمانيا وحلفاؤها) شر هزيمة من الجيش الأحمر في ستالينغراد، المدينة المُسمّاة على اسم القائد السوفييتي جوزيف ستالين، ولهذا فقد كانت المعركة تحمل قيمة معنوية كبيرة لهتلر وستالين.
كانت حصيلة القتلى في ستالينغراد ضخمةً، إذ خلَّفَت المعركة حوالي 850 ألفاً من جنود المحور (ألمانيا وحلفائها) بين قتلى وجرحى ومفقودين في المعركة، وأكثر من مليوني جندي سوفييتي سقطوا قتلى أو فُقِدوا أو أُصيبوا.
لكنّ الخسائر العسكرية لم تكن الوحيدة، فمع الأسف قد قُتِلَ معظم المدنيين في المدينة خلال المعارك.
معركة موسكو.. هزيمة ألمانية ثانية
أما معركة موسكو التي أطلق عليها الألمان اسم "عملية تايفون"، خلال الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت حوالي 1.6 مليون ضحية، وهو تقريباً نصف ضحايا معركة ستالينغراد، وقد وقعت المعركة في نصف المدة الزمنية تقريباً، أي في 3 شهور.
بدأت المعركة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1941، بعدما هاجم الألمان موسكو لتشتيت القوات السوفييتية بين جبهة ستالينغراد وجبهة موسكو.
لم يكن السوفييت مهاجمين في هذه الحالة أيضاً، فقد بذلوا جهداً دفاعياً كبيراً لوقف الزحف الألماني المخيف. شنَّ الجيش الأحمر السوفييتي هجوماً مضاداً ضد الألمان لإجبارهم على الانسحاب من موسكو عندما توقَّف هجومهم.
وقد انتهت المعركة في يناير/كانون الثاني 1942، مُخلِّفةً خسائر تُقدَّر بين 174 ألف إلى 400 ألف لألمانيا، و650 ألفاً إلى 1.2 مليون ضحية من الجيش الأحمر. وقد شكَّلَ دفاع موسكو نجاح المقاومة السوفييتية ضد قوات المحور، وفشل عملي وتكتيكي للألمان. وبعدها بوقتٍ قصير استسلم الجيش الألماني المُحاصر في مدينة ستالينغراد. وهكذا كان الفشل الألماني في غزو الاتحاد السوفييتي أبرز المحطات التي حسمت الحرب العالمية الثانية.
معركة السوم.. أوروبا مرة أخرى
ثالث المعارك دمويةً في القرن الماضي تأتي من نصيب القوى الأوروبية أيضاً، ولكن هذه المرة في الحرب العالمية الأولى، فقد تسبَّبت معركة السوم في خسارة أكثر من 1.2 مليون شخص من كلٍّ من الإمبراطوريَّتين البريطانية والفرنسية، والإمبراطورية الألمانية على الجانب الآخر.
استمرّت المعركة طيلة 4 شهور، بدايةً من يوليو/تموز إلى نوفمبر/تشرين الثاني عام 1918 بالقرب من نهر السوم في فرنسا، وكانت معارك السوم أحد أكبر الصراعات في الحرب العالمية الأولى.
ولا تزال معركة السوم تمثِّل واحدةً من أكثر المعارك دمويةً في التاريخ، إذ تسبَّبَت في مقتل ما يقرب من 57 ألف ضحية من الجيش البريطاني في اليوم الأول للمعركة فقط.
وإجمالاً قُتِلَ حوالي 420 ألف جندي من القوات البريطانية وقوات الكومنولث أو أُصيبوا أو فُقِدوا أثناء القتال، بينما تجاوزت الخسائر الفرنسية 204 آلاف.
أمّا من الناحية الأخرى، فقد تكبَّدَت الإمبراطورية الألمانية حوالي 680 ألف ضحية. وفي النهاية استولت قوات الحلفاء على قطاعٍ صغير جداً من الأرض الواقعة تحت الحيازة الألمانية، بعرض 20 ميلاً فقط، وطول 6 أميال.
عملية باغراتيون.. عودة أخرى للحرب العالمية الثانية
ليس غريباً أن تكون معارك الحربين العالميتين هي المعارك الأكثر دموية، والأكثر عدداً من حيث الضحايا. ومع إجمالي عدد ضحايا أكثر من 1.1 مليون ضحية كانت عملية باغراتيون واحدةً من أسوأ الكوارث العسكرية في التاريخ كله، وليس في القرن الماضي فقط.
كانت العملية اسماً رمزياً للعملية الهجومية الاستراتيجية البيلاروسية لتطهير جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفييتية وشرق بولندا من القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد أسفرت العملية عن تدمير 28 فرقة من أصل 38 فرقة من الجيش الألماني. كما قُتِلَ أو أُصيبَ أو أُسِرَ حوالي من 350 إلى 400 ألف من الجيش الألماني.
كان يُنظَر إلى العملية باعتبارها الهزيمة التي أسفرت عن أكبر عددٍ من ضحايا القوات المسلَّحة الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
أمّا الجيش الأحمر السوفييتي فقط تكبَّدَ أكثر من 770 ألف ضحية، من بينهم 180 ألفاً قُتِلوا أو فُقِدوا في المعركة، وأُصيبَ أكثر من 590 ألف رجل.
ولكن النتيجة أنّ القوات السوفييتية قد حرَّرَت مساحةً كبيرةً من أراضيها من ألمانيا ودمَّرَت بشكلٍ كبير مركز مجموعة الجيش الألماني.
معركة غاليبولي.. الصمود العثماني يكلّف المستعمرين
في هذه المعركة الكبيرة حارب العثمانيون ضدّ القوات الأوروبية التي أرادت احتلال إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية حينها، وتشير بعض الأبحاث أنّ ما يقارب نصف الجيش العثماني حينها كان من العرب.
يشار عادةً إلى معركة غاليبولي باسم حملة غاليبولي أو حملة الدردنيل. وقد خلَّفَت معارك حملة غاليبولي أكثر من 500 ألف ضحية. وقعت المعركة في شبه جزيرة غاليبولي، وتحوَّلَت هذه المعركة في الحرب العالمية الأولى إلى كارثةٍ عندما فشلت قوى الحلفاء في السيطرة على الطريق البحري من أوروبا إلى آسيا (مضيق الدردنيل ثمّ البوسفور).
شنَّت السفن البريطانية والفرنسية هجوماً بحرياً على مضيق الدردنيل، في فبراير/شباط 1915، بينما غزت قواتٌ من بريطانيا وفرنسا وأستراليا ونيوزيلندا شبه جزيرة غاليبولي برياً، في أبريل/نيسان من العام نفسه.
تكبَّدَت قوات الحلفاء أكثر من 250 ألف ضحية قبل إجلائها النهائي من غاليبولي، في يناير/كانون الثاني 1916، وبلغ مجموع الخسائر للإمبراطورية العثمانية من 218 ألفاً إلى 250 ألف ضحية.
انتهى الغزو بالفشل، إذ تعرَّضَت قوات الحلفاء لهجومٍ مضاد شرس من القوات العثمانية. وساهم سوء الأحوال الجوية، وعدم كفاية المدفعية، وعدم دقة الخرائط والمعلومات الاستخباراتية، في فشل قوات الحلفاء.
معركة فرنسا.. الغزو الألماني لباريس
استولت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية على مُجمل أوروبا تقريباً، ما عدا المملكة المتحدة، وقد كانت أبرز معارك الاستيلاء تلك معركة فرنسا، أو ما يُعرف أيضاً بـ"سقوط فرنسا".
تسببت هذه المعركة في خسائر تبلغ أكثر من 500 ألف جندي من قوات الحلفاء والمحور. قُتِلَ أو أُصيبَ 360 ألف جندي من جيوش الحلفاء، بينما تكبَّدت قوات المحور خسائر بأكثر من 160 ألف ضحية. وكان سقوط فرنسا غزواً ألمانياً ناجحاً، وكذلك كان غزواً ألمانياً لهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ.
انتهت المقاومة العسكرية الفرنسية عندما احتلَّت القوات الألمانية باريس، في يونيو/حزيران 1940، واحتلَّت ألمانيا فرنسا لاحقاً بموجب هدنة مُوقَّعة بين الدولتين. وظلَّت فرنسا ترزح تحت احتلال المحور حتى تحريرها من قِبَلِ قوات الحلفاء في عام 1944.
معركة كولوبارا.. الجيش الصربي يوقف الغزو النمساوي
تحوَّلَت معركة كولوبارا أو معركة سوفوبور إلى واحدةٍ من أسوأ كوارث الجيوش عندما أجبر الجيش الصربي غير المُجهَّز جيداً قوة غزوٍ نمساويٍّ-مجريّ على التراجع. وقد أسفرت المعركة عن سقوط أكثر من 350 ألف ضحية.
اعتُبِرَت معركة كولوبارا أكبر معركةٍ بين الجيشين الصربي والنمساوي-المجري خلال الحرب العالمية الأولى، إذ اشتملت على نشر 450 ألف جندي من القوات النمساوية-المجرية، و250 ألفاً من القوات الصربية.
تكبَّدَت الجيوش النمساوية-المجرية 224,500 ضحية، وبلغت خسائر الجيش الصربي 133 ألف جندي.
هجوم التيت.. الهجوم الفيتنامي الكاسح ضد أمريكا
كان هجوم التيت، الذي أسفر عن إجمالي عدد ضحايا أكثر من 100 ألف، هجوماً كبيراً شنَّته فيتنام الشمالية وفيت كونغ ضد فيتنام الجنوبية والولايات المتحدة وحلفائهم عام 1968. كانت هذه الحرب تقع في نطاق الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي.
كان هجوم التيت أحد أكبر المعارك العسكرية في حرب فيتنام، وقد راح ضحيته 100 ألف جندي كما ذكرنا، مقسمين كالتالي: أكثر من 45 ألف جندي من قوات فيتنام الشمالية وفيت كونغ. أكثر من 20 ألف جندي قُتِلَ وأُصيبَ من فيتنام الجنوبية وحلفائها في القتال. كما قُتِلَ أكثر من 14 ألف مدني وأُصيبَ 24 ألفاً خلال النزاع.
وقد أثبت هجوم التيت أنه نقطة تحوُّلٍ في حرب فيتنام، كان للصراع تأثيرٌ كبير على الحكومة الأمريكية، وأدَّى في النهاية إلى انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام، رغم أنه كان انتصاراً تكتيكياً لفيتنام الجنوبية والقوات الأمريكية.
عملية ماركت غاردن
حدثت كارثة عملية ماركت غاردن عندما فشلت قوات الحلفاء في تطويق منطقة الرور. وأسفرت المعركة عن سقوط أكثر من 26 ألف ضحية.
أطلقت قوات الحلفاء عملية ماركت غاردن، في سبتمبر/أيلول 1944، لإنشاء ممر محمول جواً بطول 64 ميلاً يسمح بدخول الدبابات والقوات إلى شمال ألمانيا.
أُسقِطَ أكثر من 20 ألف مظلي، وأكثر من 13,500 طيَّار لطائرات شراعية، و5200 طن من المعدَّات، و1900 مركبة، و560 بندقية خلال العملية، ما يجعلها أكبر عملية محمولة جواً في تلك الأوقات.
نجحت قوات الحلفاء في الاستيلاء على عددٍ من الجسور خلال المراحل الأولى من العملية، لكنها واجهت مقاومةً ألمانية أكثر شراسة مِمَّا كان مُتوقَّعاً. فشل الحلفاء في عبور نهر الراين بقوةٍ كافية، ونتيجةً لذلك تكبَّدوا أكثر من 17 ألف ضحية، وقُدِّرَت الخسائر الألمانية بنحو 9 آلاف جندي.