ظلّ القائد متفرجاً على جنوده دون نجدتهم، معركة سبيون كوب إحدى أبرز هزائم بريطانيا في إفريقيا

لو تحرّك القائد العام سريعاً لكانت نتيجة المعركة مختلفة

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/28 الساعة 14:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/28 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
جنود بريطانيون أثناء حرب البوير/wikimedia.commons

كان القرن الخامس عشر تدشيناً لعصرٍ جديد في العالم كله. ذلك العصر هو عصر الاستعمار الأوروبي، لأغلب العالم. انطلقت أساطيل المنافسة بين القوى الأوروبية إلى الهند موطن تجارة التوابل وآسيا بما فيها من موارد طبيعية وبشرية. وفي الطريق إلى الهند وآسيا وصل المستعمرون الأوروبيون إلى إفريقيا.

كان البرتغاليون أوّل من وصلوا لإفريقيا من خلال الدوران حول القارة عبر رأس الرجاء الصالح، الذي تعتبر جنوب إفريقيا منتصف الطريق فيه، ومن ثم تتحرّك السُّفن إلى الهند.

استوطن المستعمرون الأوروبيون في جنوب إفريقيا في القرن السادس عشر تقريباً، وأنشأوا لأنفسهم محطات وموانئ ومستوطنات. لكنّ هذا التواجد الأوروبي لدول مثل هولندا والبرتغال وبلجيكا، سرعان ما تصادم مع المصالح البريطانية.

حرب البوير
صورة لأسرى من البوير يحرسهم جنود بريطانيون/IStock

كانت الإمبراطورية البريطانية هي القوة الأوروبية الأقوى، فقد كانت تسيطر على البحار من ناحية، كما كان احتلالها للهند موطن قوة رئيسياً لها، فمن ناحية سيطرت على تجارة التوابل، كما أمدّها الخزان البشري الهندي بجنود تحارب بهم أعداءها في كلّ الجهات بلا استثناء. وهكذا بدأت التحرشات بين بريطانيا والمستعمرين الهولنديين السابقين عليها في جنوب إفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر.

حرب البوير.. المواجهة بين بريطانيا العظمى و"مجموعة فلاحين"

سيطرت بريطانيا على ساحل جنوب إفريقيا، بينما اندفعت طبقة أبناء الهولنديين أو الذين تمّت تسميتهم "البوير" إلى الشمال، حيث أسسوا جمهوريتين هما جمهورية "الترانسفال" وجمهورية "الأورانج الحرة". وكانت العلاقة بين القوات البريطانية وبين هذه القوات دائماً أساسها الصراع.

فمع القرار البريطاني الذي منع الرقّ تزايد غضب البوير، فقد كانت هذه الطبقة تعتمد على الرق بشكل أساسي في عملياتها الزراعية.

استتبّ السلام بين الجمهوريتين والقوات البريطانية، لكنّه كان سلاماً هشّاً سرعان ما تحوّل لصراع وجودي لكل من الجمهوريتين من ناحية والقوات البريطانية من ناحيةٍ أخرى.

أسّس رجل الاستعمار البريطاني "سيسيل رودس" جمهورية "روديسيا" على اسمه، وهي اليوم دولة زيمبابوي، وقد قرّر رودس إرسال بريطانيين يعملون في الجمهوريتين ليصبحوا مثل حصان طروادة داخل الجمهوريتين، يعملون لصالحه.

أمّا العامل الثاني فقد كان اكتشاف الماس والذهب في أراضي الجمهوريتين، وهنا بالطبع التمع في عين المستعمرين البريطانيين أنّهم يجب أن يأخذوا هذا الذهب والماس.

وبين عامي 1880 و1881 اشتعلت حرب البوير الأولى بين الجمهوريتين والقوات البريطانية، وبعد سلسلة معارك دموية فازت الجمهوريتان في النهاية. ولكن مع اكتشاف الذهب والألماس بدأت التحرشات البريطانية من جديد، ما أسفر في النهاية عن اشتعال حرب البوير الثانية بين عامي 1899 و1902. كانت نهاية حرب البوير هذه لصالح بريطانيا، القوى الأوروبية الأعظم، بينما هزم الهولنديون-الأفارقة، الذين يطلق عليهم "البوير".

لكنّ هذه الحرب الثانية التي هزم فيها البوير، كانت شاهدةً على عدّة معارك، لعب فيها "الغباء" العسكري، وقلّة الحيلة دوراً أساسياً، وقد انتصر البوير في ثلاث معارك متتالية، كانت خاتمتهم معركة سبيون كوب عام 1900، في أحداثٍ سميت بـ"الأسبوع الأسود".

كانت بريطانيا تتعامل مع البوير باعتبارهم "حفنة من الفلاحين" الذين يستطيعون الصمود أمام "بريطانيا العظمى"، ورغم أنّ الصراع في حقيقته كان أوروبياً-أوروبياً، إلا أنّه حمل درساً قاسياً للغرور الاستعماري.

ما قبل معركة سبيون كوب.. خسائر متتالية بطريقة هزلية!

كان التجهيز البريطاني للحرب بالطبع متفوقاً على تجهيزات البوير، لكنّ البوير امتلكوا رصيداً من التمرد على القوات البريطانية. كما كان في صالحهم وجود الذهب والماس، اللذين قايضوا بهما بنادق الموزر ومدافع كروب الألمانية.

كانت هذه المدافع أفضل من كل المدافع الأخرى، فقد كان البارود المستخدم فيها لا يترك وراءه دخاناً، وهو ميزة استراتيجية؛ إذ لن يكون من السهل على العدو تحديد مكان سلاح المدفعية للتركيز عليه. وهو ما قلب لاحقاً ميزان المعركة، وفق ما يذكر لنا إريك دورتشميد في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ".

معركة سبيون كوب
جنود من البوير يتفقدون المصابين بعد معركة سبيون كوب/IStock

كما قدّم الألمان لهم مدرباً، هو الميجور ألبريخت، الذي شكّل قوة نخبة من المدفعية.

كانت أولى الهزائم البريطانية فيما أطلق عليه "الأسبوع الأسود" قد وقعت في جمهورية الأورانج، عندما نصب البوير كميناً محكماً لأحد الجنرالات البريطانيين، وبلغت خسائر البريطانيين في هذه الهزيمة 24 ضابطاً و461 جندياً.

لكنّ هذه لم تكن الخسائر الأكبر حتىّ الآن، فبعد أسبوعين فقط اصطدم القائدان نفسهما في معركةٍ أخرى، وبسبب الغرور البريطاني فقد ظلّ الجيش البريطاني يقف في تلّة ظنّ القائد البريطاني أنّ البوير متمركزون عليها، لكنّ الأمر لم يكن كذلك أبداً. بعد القصف أمر القائد البريطاني 3500 جندي من جنوده أن يتسلقوا قمة الجبل. بدأ التسلٌّق في المساء، ولكنّ قائد البوير أمطر الجنود البريطانيين بالقذائف، وقد كلّفت هذه المغامرة غير المحسوبة البريطانيين 86 ضابطاً و 1011 جندياً، ما بين قتيلٍ وجريح. بينما تكبد البوير 200 إصابة فقط.

الكارثة الثالثة التي وقعت في الجيش البريطاني، كانت بعد شهرين تقريباً على الكارثة السابقة، فقد سار جزء من الجيش البريطاني (3 آلاف جندي) في الاتجاه الخطأ، وعند الصباح وجد الجيش البريطاني نفسه على سفح جبل تعتليه قوات البوير.

انسحب الجنود البريطانيون هرباً، ولم تكن خسائرهم تتجاوز 89 رجلاً، لكنّ الجنرال نسي أن يخبر مجموعةً من جيشه بقرار الانسحاب السريع، فوقعوا جميعاً في أسر البوير. كان عددهم 633 رجلاً.

معركة سبيون كوب.. الغباء والتأخّر في اتخاذ القرارات تسببا في مأساة

كان سبيون كوب جبلاً استراتيجياً حيوياً  يؤمن دربين لعربات الثيران،  يفضيان إلى مكان استراتيجي آخر تريد القوات البريطانية السيطرة عليه، وهكذا كان يجب السيطرة على سبيون كوب. لكنّ المعركة لم تتحرّك كما خطّط لها القادة البريطانيون المخضرمون، في مواجهة قائد البوير الشاب ذي الـ37 عاماً.

وفي مساء يوم 23 يناير/كانون الثاني عام 1900 بدأت إحدى فرق القوات البريطانية المكوّنة من 1800 جندي هجومها بالصعود إلى الجبل. 

كان على كل جندي بريطاني أن يحمل معه كيساً مليئاً بالرمل، ذلك أنّ المنحدر كان قاحلاً وكان يجب عليهم أن يحصنوا حافّة المنحدر بالرمل، ومن إجمالي حوالي ألفي جندي لم يكن معهم سوى 20 معولاً فقط ليعبئوا الرمال في الأكياس.

كانت التقاليد العسكرية تقتضي بالسيطرة على كل التلال والمرتفعات التي يمكن أن يهاجم منها البوير بالمدفعيّة، وعندما صعدت فرقة الجيش البريطاني تلك إلى تلة سبيون كوب، شعر بعض البوير بالقلق، إلا أنّ قائدهم الشاب أمرهم بالسيطرة على كلّ المرتفعات التي لا يسيطر عليها البريطانيون، أو أن يحاولوا تجريد البريطانيين من المرتفعات التي سيطروا عليها.

كان قائد البوير يتصرّف من خلال التقليد العسكري الذي يقضي بأنّ يسيطر الجيش على المرتفعات. توقّع البوير أن يكون البريطانيون قد سيطروا على المرتفعات، لكنّ المفاجأة أنهم لم يسيطروا عليها.

وهكذا انقلبت الآية، أصبح البريطانيون في مرمى مدافع البوير الألمانية الصنع. بدأ البوير في بناء المتاريس ليلاً، ورغم أنّ صوت بناء المتاريس قد وصل للبريطانيين إلا أنّهم لم يحركوا ساكناً، وفي الصباح كان أغلب الجنود البريطانيين في مرمى فوهات مدفعية البوير.

وبينما وزّع البوير مدافعهم في أماكن متفرقة وخفيّة حتّى يصعب على البريطانيين رؤيتها، كان الجيش البريطاني مكشوفاً تماماً.

وفي الصباح حصدت مدفعية البوير أرواح الجنود البريطانيين، وبالتوازي مع المدافع كانت رصاصات بنادق الموزر الألمانية تحصد الأرواح. وهكذا كانت المجزرة الحادثة في القوة البريطانية على سبيون كوب.

كان القائد العام للجيش البريطاني بعيداً عن ميدان المعركة، يراقبها عن بُعد. ورغم أنّ الكثير من التحليلات العسكرية تقول إنّه كان بإمكانه التحرك لإنقاذ جنوده، إلا أنّه وقف بلا أيّ قدرة على التحرُّك، وعندما حاول قائد المدفعية أن يضرب قوات البوير ضرب في أماكن متفرقة، فهو لا يعرف أماكن تمركزهم، كما أنّ المدافع الألمانية المتقدمة لم تتح للبريطانيين فرصة اكتشاف أماكن البوير.

انسحب الجنود البريطانيون الباقون من المعركة، وحسب إحصاءات البوير فقد كانت إصاباتهم 225 إصابة، أمّا خسائر البريطانيين فقد بلغت 87 ضابطاً، و1647 جندياً.

انتهت حرب البوير الثانية بعد معركة سبيون كوب بعامين تقريباً بهزيمة البوير، في 31 مايو/أيّار عام 1902، لتتربّع بذلك بريطانيا على عرش القوى الاستعمارية في جنوب إفريقيا، وليبدأ عصرٌ جديد من النضال الإفريقي ضدّ المستعمر.

تحميل المزيد