امتدت الدولة الإسلامية الأولى إلى مساحاتٍ شاسعة في غضون سنواتٍ قليلة، خاصة في عهد الفتوحات الكبرى زمن عمر بن الخطاب؛ لتدخل بذلك الدولة الوليدة في صراعٍ مع قطبي العالم في ذلك الوقت: الفرس والروم.
كانت العديد من المناطق العربية في ذلك الوقت تابعةً لنفوذ الدولتين، وفي ذلك السياق عمل الفرس على التحالف مع عرب الشمال في العراق والسيطرة على عرب الجنوب في اليمن. ولكن في عام 630 عقب هزيمة الفرس على يد الروم في الشام ومصر، اُغتيل كسرى الثاني وأخذ الضعف يدبّ في جسد الدولة الفارسية العجوزة، إذ تولى السلطة مجموعةٌ من القادة الذين دب بينهم التنازع وتصارعوا على السلطة.
في ذلك الوقت بعد انتهاء حروب الردة التي قادها أبوبكر، عمِل القائد المثنى بن حارثة على مهاجمة العراق حيث نفوذ الفرس، ومن أجل دعمه؛ أرسل أبوبكر مدداً بقيادة خالد بن الوليد، فدخل المسلمون في عدة معارك مع الفرس كان أهمها معركة ذات السلاسل وفتح دومة الجندل التي انتصر المسلمون فيها كلها.
بداية عصر عمر بن الخطاب ومعركة الجسر
يروي لنا الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" أنّه وفي ليلة وفاة أبي بكر وقبل مبايعة الناس لعمر، ندب "عمر" المثنى بن حارثة لملاقاة الفرس، إلا أنّ المسلمين في ذلك الوقت تهيَّبوا الذهاب لملاقاة الفرس لسلطانهم القوي وقوة جيوشهم.
لكنّ الوضع كان مضطرباً بالفعل في بلاد فارس، فقد كان هناك صراعٌ على العرش بعد اغتيال كسرى الثاني على إثر هزيمة قوات الفرس أمام هرقل.
على أثر هذه الاضطرابات، انقلب أحد القادة واسمه شهربراز وقتل أردشير الأول وكان سنة 8 أعوام فقط. لكنّ بعض القادة ثاروا على شهربراز وقلدوا بوراندخت بنت كسرى – والمعروفة ببوران – العرش. كان أبرز من ساعدها القائد البارز رستم فرخزاد، ما جعلها تعينه قائداً للجيش وأطلقت يده في شؤون البلاد، ما جعله الحاكم الحقيقي لها.
شجعت تلك الأجواء التي تشهدها بلاد فارس عمر لفتح العراق، رغم تهيب المسلمين من الجيوش الفارسية التي تسبقها سمعتها.
في ذلك الوقت سعى رستم لاستعادة الأراضي التي أخذها المسلمون زمن أبوبكر، فأشعل الثورة ضد المسلمين في هذه المناطق، وسيَّر جيشاً كبيراً إلى الحيرة، فانسحب المثنّى إلى خفَّان قرب الكوفة، والتقى بأبي عبيد الثقفي وزحف الجيش الإسلامي نحو النمارق حيث تواجه الجيشان، وذلك في عام 634.
انتهت معركة النمارق بانتصار المسلمين وفرار القائد الفارسي إلى عاصمته المدائن.
أراد رستم أن يعيد الاعتبار لفارس التي اهتزت صورتها بسبب انتصارات المسلمين المتكررة، فسيّر جيشاً كبيراً إلى الحيرة تحت قيادة ذي الحاجب بهمن جاذويه. كان قائد جيش المسلمين أبو عبيد الثقفي ومن بعده المثنى، خرجوا لملاقاة الجيش الفارسي خارج الحيرة فتواجه الجيشان إلى "قُس الناطف" عند شاطئ الفرات الشرقي.
يصف لنا الطبري في كتابه وقائع المعركة فيقول إنّ بهمن قائد الفرس أرسل إلى أبي عبيد أن "اعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم". نهى المثنى أبا عبيد عن العبور إلا أن أبا عبيد قال: لا يكونون أجرأ على الموت منا، بل نعبر إليهم.
فعبر جيش المسلمين في سهلٍ ضيق لم يسمح لهم بحرية الحركة أو الكر والفر. وهناك دارت رحى معركة الجسر بعد أن عبر الجيش الإسلامي النهر، ولعبت الفيلة دوراً كبيراً في هذه المعركة، فسعى أبو عبيد للقضاء على جميع الفيلة وما كاد أن يقتل أغلبها حتّى اصطدم به أحد الفيلة وقُتل بذلك أبو عبيد.
بمقتل أبي عبيد انتقلت القيادة إلى المثنى الذي أدرك حرج الموقف وأن المعركة خاسرة، فأعلن الانسحاب، وفي تلك الأثناء أصيب المثنى بجروحٍ بليغة.
في ذلك الوقت؛ قامت ثورة ضد رستم في المدائن، فعاد الجيش بقيادة بهمن ليكون بالقرب من رستم، وترك خلفه القائد جابان الذي تخلّف بكتيبةٍ من الجيش الفارسي ليتعقب المثنى، والذي كان قد احتمى بمدينة أليس، فخرج المثنى في رجاله ومعه أهل مدينة أليس فأسروا جابان ومن معه من الجند وضرب أعناقهم جميعاً.
معركة البويب ورد الكرة
وفي كتابه "الفاروق عمر" ينقل لنا محمد حسنين هيكل أحداث ما بعد المعركة، إذ تلقَّى عمر خبر خسارة المسلمين بدون جزع ودفع عن الفارين من المعركة سخط الناس.
أدرك عمر أنّ المثنّى بحاجة إلى مددٍ سريع؛ وهو ما جعله ينادي في الأقطار لتلبية نداء الجهاد، إلا أن الناس قد تثاقلوا عن الذهاب للعراق، وفي حوارٍ بين عمر وبني بجيلة – وكانت قبائل متفرقة قد جمعها عمر ومن قبله أبو بكر في مكانٍ واحد – حاول عمر إقناع جرير وهو سيد قبيلة بني بجيلة بالذهاب للمثنى في العراق، لكنّ جرير أراد الذهاب للشام؛ إذ إنها موطن أسلافه، لكن عمر رد عليه بأن الشام لا يوجد ما يهددها من مخاطر كما هي الحال في العراق.
بعد حوارهما؛ عرض عمر على جرير أن يجعل لبني بجيلة الربع في خُمس الغنائم – وهو ما أخذه المسلمون من الكفار الحربيين من غير قتال – يُضاف إلى نصيبهم من الغنائم، ورضي جرير بالذهاب إلى العراق ومعه قبيلته، وحذا حذوهم الكثير من القبائل الأخرى مثل بني الأزد وبني كنانة؛ إذ ساروا يريدون العراق، ينضمون إلى جنده تحت لواء المثنى.
أمّا الفرس فقد وصلت لهم أخبار توافد كتائب المسلمين التي تزحف تباعاً إلى العراق، وأدركوا الخطر المحدق بهم؛ فجمع رستم جيشاً كبيراً تحت قيادة مهران الهمذاني، وأمره أن يُسرع السير للقاء المسلمين.
بدأ المثنى السير بقواته حتى انتهى إلى البويب على شاطئ الفرات؛ حيث اجتمع جند المسلمين جميعاً، وسار مهران الهمذاني كذلك بقواته حتى كان قبالة المسلمين لا يفصل بينهما إلا النهر.
بعث مهران إلى المثنّى يقول: "إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم" محاولاً أن يوقعه في نفس الموقف الماضي. لكنّ المثنى لم يكن قد نسي ما أصابهم في معركة الجسر عندما عبروا النهر، وكان عمر قد أمره بعد غزوة الجسر ألا يعبر نهراً قبل أن يتم له النصر؛ لذلك ردّ على مهران أن اعبروا أنتم، وعبر الفرس إلى البويب مع الفيلة.
أما المثنى فطاف في صفوفه يحضهم على القتال إذ كانوا في رمضان وكان ذلك في 634م؛ فنادى في المسلمين: "أيها الناس إنكم صُوّام والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تُفطروا فتَقْوَوْا بالطعام على عدوكم".
اشتبك الفريقان ورأى المثنى أن المعركة حامية الوطيس، وأنها ستكون طويلة؛ ففكر في وسيلةٍ يكفل بها النصر لجيشه، وذلك بأن يقتلع قائد الجيش الفارسي فيزيله عن مكانه أو يقتله.
المثنى الشيباني.. حنكة عسكرية وبسالة قتالية نادرة
لينفذ ما أراد دعا المثنى اثنين من أمهر المقاتلين وأشجعهم؛ أنس بن هلال النمري وابن مِرْدى الفهر التغلبي، وشق معهما الصفوف بنفسه متجهاً نحو مهران في قلب الجيش عابراً إليه من ميمنة الجيش الفارسي، فلما وصل إليه أزاله من مكانه وأخذ يُقَتِّل في قلب الجيش الفارسي، ورأى الفرس ما حدث، فاندفعوا يحمون قائدهم، فاختلط قلبا الجيشين، وحمي القتال وأصبح لا يُعرف لأي الفريقين ستكون الغلبة.
في هذا المشهد، يصف لنا الطبري أنه بعد تطاحن الفريقين، ولما رأى المثنى اقتراب فناء قلب الجيش الفارسي، ولم يستطِع باقي الجيش الفارسي أن يثبت في المعركة بعد ما حدث لقلب الجيش؛ فأخذوا يهربون من ميدان المعركة، يريدون أن يعبروا الجسر ليفوتوا على جيش المسلمين هجومهم.
لمّا رأى المثنى ذلك وقد بدأ الفرس في الهرب، سبقهم إلى الجسر وحاصرهم فرسان المسلمين، وظلوا يتعقَّبون الفرس يقتلونهم حتى الليل، وهو ما أفنى عدداً كبيراً من جنود الفرس وحقق انتصار المسلمين على الفرس.
يذكر هيكل في كتابه سابق الذكر أنّ انتصار المسلمين في معركة البويب كان سبباً في محبة الناس للمثنى، إذ اعتبروه أهم الأسباب وأعظمها التي جلبت النصر، فلقد رأوه يخوض غمار المعركة بنفسه باستبسال، وهو ما دفعهم للمعركة بحماسة واستبسال مثله.
وكان الذين فروا يوم معركة الجسر يقاتلون لا يبالون الموت يريدون أن "يتطهروا من عار هزيمتهم"، وهجم غلامٌ من قبيلة تغلب على القائد الفارسي مهران الهمذانيّ فقتله واستولى على فرسه ثم أنشد بقوله: "أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان".
انتهت المعركة بانتصار المسلمين، لكن الأهم أنها مهدت الطريق نحو معركة القادسية إحدى أهم المعارك بين المسلمين والفرس، والتي ستقوم أحداثها بعد عامين فقط من معركة البويب في عام 636م والتي سيُقتل على إثرها رستم الذي قاد الجيش بنفسه.وللقراءة أكثر حول تاريخ الإمبراطورية الفارسية وسقوطها بالتفصيل، يمكنك قراءة هذه المادة.