أخفقوا في احتلال مصر فقرروا الاستيلاء على تونس! القصة المثيرة لفشل الحملة الصليبية الثامنة

مثلت هذه الحملة انتهاءً لعهد الحملات الصليبية على العالم الإسلامي.

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/03 الساعة 12:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/03 الساعة 12:39 بتوقيت غرينتش
الحملة الصليبية الثامنة / ويكيبيديا

عاشت منطقة الشرق الإسلامي قرنين كاملين من الحروب مع الحملات الصليبية التي جاءت من أوروبا، بدايةً من عام 1099 عندما احتلوا بيت المقدس وأنشأوا في العالم الإسلامي أربع ممالك مسيحية كبرى.

وبدأت حروب التحرير الإسلامية، وتكللت بنصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين، ومن بعده بدأت الانتصارات الإسلامية واحدةً تلو الأخرى، حتّى خرج الصليبيون تماماً من العالم الإسلامي عام 1291م على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون.

ومن ضمن هذه الحملات الصليبية، كانت الحملة الصليبية الثامنة التي جاءت إلى العالم الإسلامي عام 1270 تحت قيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي حكم فرنسا بين عامي 1226-1270.

لكن هذا الملك كانت له ذكرى مريرة مع الحملات الصليبية، فهو نفسه الملك الذي قاد الحملة الصليبية السابعة عام 1249. وهي الحملة التي انتهت نهاية مأساوية للصليبيين عندما أسر المماليك الملك الفرنسي لويس التاسع نفسه، ولم يطلقوا سراحه إلا بشروطٍ صعبة وبفديةٍ ماليةٍ ضخمة.

الحملة الصليبية الثامنة
تمثال لويس التاسع في فرنسا / IStock

وكالمعتاد، كانت الفكرة الرئيسية للحملات الصليبية -ما بعد صلاح الدين- هي مهاجمة المسلمين وهزيمتهم أولاً في مصر مقر السلطنة الأيوبية والمملوكية من بعدها، ثم إما إعادة الاحتلال أو التفاوض على السيطرة على المواقع المسيحية الرئيسية في بلاد الشام، وأولها القدس بالطبع.

وفي الحملة الصليبية التاسعة اختيرت تونس هدفاً أولياً يمكن للصليبيين مهاجمة مصر منه بعد احتلاله. ولكنّ الخطة تلقت ضربةً قاضية بوفاة لويس التاسع إثر مرضه في أغسطس/آب 1270، وأُلغيت الحملة حتى قبل أن تبدأ بشكل مناسب. وفقاً لما ذكره موقع Ancient History Encyclopedia البريطاني.

قصّة لويس التاسع ملك فرنسا وبلاد الشام

قاد لويس الحملة الصليبية السابعة التي ذكرناها سابقاً، التي انتهت بكارثة في معركة المنصورة في أبريل/نيسان 1250، وقد سُميت المنطقة بهذا الاسم لأن المسلمين انتصروا فيها على تلك الحملة الصليبية.

وقد وصل الأمر لأسر لويس التاسع، لكن أطلق سراحه لاحقاً بعد دفع فدية وتسليم مدينة دمياط الواقعة على نهر النيل، والتي كان قد احتلها في بداية الحملة. بعد أسره وافتداء نفسه أقام لويس التاسع في بلاد الشام أربع سنوات، أعاد خلالها تحصين بعض المعاقل الصليبية الأوروبية الرئيسية مثل مدينة عكا.

عاد لويس التاسع إلى بلاده فرنسا، ثمّ بعدها بنحو 16 عاماً، حوّل الملك الفرنسي انتباهه مرة أخرى إلى الشرق الأوسط، لتكون تجربته الثانية في الحملات الصليبية. ولكن لم تكن تلك الحملة بأحسن حظاً من سابقتها.

ظلّ لويس التاسع يرسل أموالاً سنوية إلى الإمارات الأوروبيّة الصليبية في بلاد الشام على مدى السنوات التي أعقبت الحملة الصليبية السابعة الفاشلة، ما يعني أنّ الملك الفرنسي -من بين كل ملوك أوروبا- قد تبنّى "القضيّة الصليبية" تماماً.

لكن الوضع العام لأوروبا لم يكن ليساعد لويس التاسع. فبقية أوروبا كانت مشغولة بشؤون أماكن أخرى. فقد اندلعت حرب أهلية في إنجلترا بين عامي 1258 و1265. كما كان الباباوات في معركةٍ مستمرة مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة للسيطرة على جزيرة صقلية وأجزاء من إيطاليا. وبدا أن لا أحد يهتم كثيراً بمصير "المواقع المقدسة" في المشرق الإسلامي.

وفي غضون ذلك، بدا وضع الممالك الصليبية في الشرق الإسلامي قاتماً تماماً. فقد كانت الإمبراطورية المغولية الناشئة، التي كانت على ما يبدو عازمة على غزو كل العالم بالكامل، تقترب أكثر فأكثر من سواحل البحر المتوسط.

ففي عام 1258 سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول. بينما سيطر الأيوبيون على  مدينة حلب عام 1260، ثم دمشق في نفس العام. وبدا وكأن الإمارات الصليبية في الشام قد تكون التالية، فقد شنّ المغول غاراتٍ على مدن عسقلان والقدس وعلى شمال مصر.

وعندما أُنشئت حامية مغولية في مدينة غزة، تبع ذلك هجومٌ سريع على مدينة صيدا الساحلية في أغسطس/آب 1260. ودون مجيء مساعدةٍ خارجية، اضطر بوهيموند السادس ملك أنطاكية وطرابلس (أحد الممالك الصليبية في الشام) إلى قبول التبعية الاسمية للمغول والسماح بتأسيس حاميةٍ مغوليةٍ دائمة في أنطاكية.

الظاهر بيبرس يضيّق الخناق على الصليبيين

في المقابل، قاتل المسلمون بضراوة ضد المغول الغزاة عندما انتصر المماليك في مصر عليهم بقيادة السلطان المظفّر قطز وقائده العسكري الموهوب بيبرس، في معركة عين جالوت الشهيرة في 3 سبتمبر/أيلول 1260.

وبعد المعركة، قتل بيبرس السلطان المملوكي قطز، واستولى على المنصب لنفسه حتى عام 1277. وفي سنين حكمه السبعة عشر واصل بيبرس ودولته الناشئة توسّعه، ليعيد المغول إلى العراق.

بيبرس
رسمة للسلطان المملوكي الظاهر بيبرس /snl.no

عانت المدن المسيحية أيضاً، حيث استولى بيبرس على مدن قيصرية وأرسوف، وكذلك معقل فرسان الاسبتارية الصليبيين في قلعة الحصن (المعروف بحصن الأكراد). بعد ذلك سقطت مملكة أنطاكية الصليبية في يد بيبرس عام 1268، وضمّ بيبرس غالبة قلاع سوريا خلال فترة حكمه. 

وبذلك، أصبح بيبرس الآن سلطان بلاد مصر الشام وأعلن نفسه وحامي الحرمين الشريفين (مكة والمدينة) والحرم الثالث (القدس).

وفي هذه السياسات الإقليمية المعقّدة التي تتسم دائماً بالتحالفات المتغيرة، كان مسيحيو أنطاكية قد اتحدوا بالفعل مع المغول للسيطرة على حلب. وفي المقابل، قرر مسيحيو عكا البقاء على الحياد وعدم الوقوف إلى جانب المسلمين أو المغول في حروبهم.

وأياً ما كانت السياسة الكلية، كان الواقع الجغرافي الأوسع بحلول منتصف ستينيات القرن الثالث عشر هو أن الممالك الصليبية في الشرق الإسلامي كان على وشك الانتهاء تماماً. ورغم ذلك الخليط السياسي والديني المعقد، كان لويس التاسع والحملة الصليبية الثامنة على وشك القفز في هذا البحر الغامض مغمض العينين.

الحملة الصليبية الثامنة.. الحشد والقيادة

بالعودة إلى أوروبا، فقد حمل لويس شعار الصليب مرة أخرى في مارس/آذار 1267، كان لويس التاسع معروفاً بتدينه الشديد، وهكذا حصل الملك الفرنسي الطموح على دعم البابا كليمنت الرابع وهو بابا الفاتيكان في الفترة  من 1265 إلى 1268.

وبدأ لويس التاسع بتوجيه دعوته للنبلاء والفرسان حول أوروبا ليهبُّوا مرة أخرى لـ"مساعدة المسيحيين" دعم الدول الصليبية في المشرق إسلامي. وكما في الحملات السابقة، تجوَّل الدعاة برسالة الحملة الصليبية، وجُمع قدرٌ ضخمٌ من الأموال من خلال أي وسيلة أمكن للدولة التفكير فيها، واستُؤجرت السفن من مرسيليا وجنوة.

وكما في السابق، جاء الصليبيون من دولٍ أخرى مثل إنجلترا وإسبانيا وفريزيا وبلجيكا وهولندا، لكنها كانت -مرة أخرى- حملة يهيمن عليها الفرنسيون. وتضمنت أسماء كبيرة من النبلاء الذين سجلوا أسماءهم: ألفونس بواتييه، شقيق لويس التاسع، والملك المستقبلي إدوارد الأول ملك إنجلترا، والملك جيمس الأول ملك أراغون، وتشارلز كونت أنجو وملك جزيرة صقلية، وهو الشقيق الآخر للويس التاسع.

وجُمع جيش يتراوح عدده بين 10 آلاف و15 ألف رجل.

في تلك الفترة، سادت فكرة أنه من أجل هزيمة المسلمين واستعادة احتلال "الأراضي المقدسة"، كان من الأفضل الهجوم من ناحية إفريقيا، وهكذا هجم الصليبيون في الحملة السابقة على مصر، وهذه المرة اختاروا تونس التي تقع غرباً في شمال الساحل الإفريقي.

وقد احتاج الصليبيون إلى نقطة تجمع بعد أن أبحرت الأساطيل المختلفة عبر البحر الأبيض المتوسط​​، وكان أمير تونس الحفصي المستنصر حليفاً لجيمس الأول ملك أراغون. وظنّ الصليبيون أنّه إذا أمكن السيطرة على المنطقة، فستوفِّر لهم قاعدة صلبة يمكن من خلالها مهاجمة النيل في عام 1271. هذه كانت الخطة على أية حال.

انطلق جيش الحملة الصليبية الثامنة إلى تونس في مجموعات، قاد الأولى جيمس الأول من أراغون في يونيو/حزيران 1269، وواجهت بعد ذلك عاصفة وكارثة. وانطلق شارل كونت أنجو في يوليو/تموز 1270، بينما كان إدوارد الأول متأخراً وأبحر في أغسطس/آب 1270. ووسط تردد الصليبيين، كان الوضع في الإمارات الصليبية في المشرق الإسلامي يزداد سوءاً. كما ذكرنا أعلاه، إذ كان بيبرس قد أخذ أنطاكية قبل عامين فقط، في مايو/أيار 1268 بعد حصارٍ خانق.

وخلال شهر يوليو/تموز 1270، نزل الجزء الأكبر من الأسطول الصليبي في تونس، وانتقل الجيش بعد ذلك إلى مدينة قرطاج لإنشاء معسكر شبه دائم وانتظار وصول المتأخرين.

ولكن، كالمعتاد في حروب العصور الوسطى، واجه أي جيش كبير خطرين كبيرين: 1- نقص المؤن 2- الأمراض التي تنتشر عادةً في الكثافة المرتفعة للبشر في ذروة الصيف. وأصاب كلا الخطرين المعسكر الصليبي، وكانت المشكلة بشكلٍ خاص هي نقص المياه النظيفة.

ضرب المرض والإعياء بشكل عشوائي حتى توفي جون تريستان، ابن لويس، بل وعانى الملك الفرنسي نفسه من نوبة زحار (الديزنطاريا) خطيرة مثلما حدث في حملته الصليبية الأولى. لكن على العكس من المرة الماضية، لم ينج الملك.

وبعد شهرٍ من العذاب، توفي لويس التاسع في 25 أغسطس/آب 1270. وتقول الأسطورة إن كلمات الملك الأخيرة كانت "بيت المقدس! بيت المقدس!". ولكن ليس هناك ما يثبت مثل هذا الأمر.

تولى تشارلز كونت أنجو، الذي كان قد وصل لتوّه، قيادة الحملة الصليبية بعد وفاة لويس. وتقرر الانسحاب بعد التفاوض على اتفاقية مع أمير تونس الحفصي تقضي بتسليم سجناء مسيحيين وضمان حرية العبادة في المدينة وبعض الشروط الأخرى.

الحملة الصليبية الثامنة
رسمة تجسد وفاة لويس التاسع أثناء الحملة الصليبية الثامنة / ويكيبيديا

وفي هذه المرحلة وصل إدوارد الأول ملك إنجلترا أخيراً إلى إفريقيا، لكن الحفلة كانت قد انتهت بالفعل. وأبحر الأسطول عائداً إلى جزيرة صقلية ليعيد تجميع صفوفه من جديد، لكن أي خطط لاستخدام القوة العسكرية لإنجاز أي شيء ذهبت أدراج الرياح مع العاصفة التي عصفت بمعظم السفن وألف رجل.

ولم يرد أحد سوى إدوارد الاستمرار إلى الأرض المقدسة، وتخلَّى الجميع عن الحملة الصليبية الثامنة الفاشلة قبل أن تبدأ، وهو الفشل الأكثر إحباطاً لسلسلة طويلة من الكوارث الصليبية.

ما بعد كارثة الحملة الصليبية الثامنة

رُغم الفشل الهائل الذي مُنيت به تلك الحملة، فإن البابوية لم تتخل عن فكرة الحملات الصليبية. ووصل إدوارد الأول وقوته الصغيرة المكوَّنة من ألف رجل، مدعومةً بحفنةٍ من الفرسان الفرنسيين، إلى مدينة عكا في سبتمبر/أيلول 1271 فيما يشار إليه أحياناً بالحملة الصليبية التاسعة، وهي حملةٌ أخرى متواضعة وفاشلة.

وليس من المستغرب بالطبع أنّ تلك الحملة لم تتمكن من فعل الكثير لوقف خطط بيبرس لاستعادة كل بلاد المسلمين من الصليبيين. وكانت الاستفادة الوحيدة من تلك الحملة للملك إدوارد، فقد أشاد به الشعراء وكتّاب الأغاني، باعتباره الملك الأوروبي الوحيد الذي وصل إلى الأراضي المقدسة من صليبيو الحملة الثامنة الضائعة.

ولكنّ لويس التاسع قد اكتسب صورةً أروع، ولكن بعد وفاته؛ فقد صار الملك قديساً في عام 1297 لـ"خدماته التي قدمها للصليب". أما في بلاد الشام، فقد استعاد المسلمون مدينة عكا – آخر حصون الصليبيين في المشرق الإسلامي – في عام 1291. 

وهكذا وصلت الممالك الصليبية التي أسسها الأوروبيون خلال الحملة الصليبية الأولى (1095-1102)، إلى نهايته فعلياً.

تحميل المزيد