هذه المعركة إحدى المعارك التي رسمت وحدّدت الوجود الإسلامي والعثماني في أوروبا، وكان بطلها آنذاك السلطان العثماني الشاب بايزيد الأول، الملقّب بـ"يلدريم" أي "الصاعقة". وقعت تلك المعركة عام 1396، أي قبل فتح القسطنطينية بأكثر من نصف قرن، وقد تتفاجأ حين تعلم أنّ الدولة العثمانية توسّعت في أوروبا قبل أن تفتح القسطنطينية.
كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت إمارةً صغيرة في الأناضول، يراودها حلم فتح القسطنطينيّة والتوسُّع نحو أوروبا. كانت الإمبراطورية البيزنطية حينها في طور التفكُّك والضعف، وهكذا، التفّ العثمانيون حول أسوار القسطنطينية المنيعة، مسيطرين على أجزاءٍ أوروبية أخرى محيطة بالقسطنطينية، بل إنّ عاصمتهم صارت في أدرنة وهي مدينة تقع في الجزء الأوروبي من إسطنبول الحالية.
وهكذا أصبحت الدولة البيزنطية عبارة عن أشلاء، فهي تحكم فقط العاصمة وبعض الأماكن الأخرى الصغيرة حولها، والعثمانيون سيطروا على أغلب مناطقها في الأناضول. وبالطبع معلوم أين سيذهب العثمانيون بعدما دخلوا أوروبا: الاستمرار بالسيطرة على مساحاتٍ أكثر وأوسع في أوروبا.
ما قبل معركة نيكوبوليس
كان التقدُّم العثماني ثابتاً لا يحيد، ولم تكن معركة نيكوبوليس هي المعركة الوحيدة في أوروبا، وإن كانت من أوائل تلك المعارك. ففي عام 1389 احتشدت القوات الصربية تحت قيادة لازار ملك الصرب، لمواجهة السيطرة العثمانية التي بدأت في شرق أوروبا.
فكانت معركة كوسوفو أو "قوصوة" التي قادها سلطان العثمانيين مراد الأوّل وانتصر فيها وقُتل لازار ملك الصرب. وبينما كان السلطان يتفقّد أرض المعركة بعد انتصاره الضخم، إذا بأحد الجرحى الصرب يطلب مخاطبته، وحينما اقترب منه طعنه بخنجر فمات من فوره.
تربّع ابنه الشاب بايزيد الأوّل على العرش، وكان في سن الثامنة والعشرين. اشتهر عن بايزيد حبّه للفروسية، وخطط الحرب، وقد برع فيها بالفعل. فقد استحقّ عن جدارة لقب "بايزيد الصاعقة"، لما اشتهر عنه من سرعةٍ في التحرّك بالجيوش والظهور فجأةً أمام أو خلف العدو ليقضي عليه.
وهكذا، عيّن بايزيد ستيفن بن لازار الملك الصربي المقتول في معركة كوسوفو ملكاً على صربيا شريطة إعلان الولاء له، بل وتزوّج من أخته ليربط هذا التحالف العسكري برباط القربى. ليعود بسرعة ليخمد بعض التمردات في غرب دولته، والتي بدأت عندما علمت بمقتل السلطان مراد الأول.
السلطان العثماني يعود من جديد إلى أوروبا
لم يمضِ الكثير من الوقت حتّى عاد بايزيد الصاعقة بقوّاته إلى شرق أوروبا، فقد عاود الحرب مع بعض مناطق بلغاريا ورومانيا الحاليتين عام 1394، وهكذا بدأ سيجسموند إمبراطور المجر يستشعر الخطر العثمانيّ من جديد.
كان سيجسموند يعلم أنّه لن يستطيع القضاء على العثمانيين وحده، وهم المنتصرون في عدّة معارك سابقة في منطقة شرق أوروبا.
وهكذا قرّر الاستعانة بممالك وإمارات أوروبا، فأرسل إلى كافة ممالك أوروبا وإلى البابا في روما يطلب العون لمحاربة التقدّم العثماني وإيقافه، بل والقضاء عليه. وهكذا انضمّ للجيش المجري فرسان وجيوش من أنحاء أوروبا: من فرنسا وبورغندي وفرسان القديس يوحنا ومملكة أراغون في شمال إسبانيا وجنوة والبندقية.
وتحرّكت الجيوش الأوروبية عام 1396 للقضاء على الوجود العثماني في شرق أوروبا. كان الجيش العثماني حينها وقائده بايزيد الصاعقة محاصراً للقسطنطينية، لكنّ هذا اللقب قد استحقّه لأنّه عرف عنه عادةً أنه غالباً ما تنشقّ عنه الأرض فجأةً فيظهر في الفضاء البعيد بجيشه الضخم، مهاجماً على حين غرّة.
وفي طريقهم، استولت الجيوش الأوروبية على ما صادفهم من أراضٍ وقلاعٍ وحصونٍ عثمانية، حتّى وصل الجيش الضخم إلى حصن نيكوبوليس القائم على نهر الدانوب شمال بلغاريا الحالية.
ظلّت الحامية العثمانية تدافع عن الحصن المنيع طيلة أسابيع، كما كانت قيادة القوات الأوروبية عشوائية ومتخبِّطة بعض الشيء، فقد كانت القيادة الظاهرية في يد سيجسموند، ولكن كلّ جيش أراد أن تكون له كلمته، وهكذا اختلف القادة مراراً.
كان السلطان بايزيد الأول في تلك الفترة يضرب حصاره حول أسوار القسطنطينية المنيعة، وما إن علم بتحرُّك الجيوش الأوروبية، حتّى حلّ حصاره مباشرةً وانطلق نحو الجيش الأوروبي الضخم.
وأمام حالة التخبُّط والعشوائية التي يعانيها الجيش الأوروبي، فوجئ بظهور أوّل كتائب جيش بايزيد الصاعقة. وهكذا أصبح الجيش محصوراً بين حصن نيكوبوليس، وبين جيش بايزيد جيّد التدريب.
تختلف المصادر حول أعداد كلا الجيشين في معركة نيكوبوليس، ولكنّ بعضها يقول إنّ الأعداد كانت 100 ألف جندي عثماني في مواجهة 120 ألف جندي أوروبي.
وقعت المعركة يوم 25 سبتمبر/أيلول عام 1396، حاول الفرسان الفرنسيون أن يربكوا صفوف الجيش العثماني بهجومٍ مكثّف، وقد كلّف هذا الهجوم الفرنسي الجيش العثماني خسائر ضخمة، ولكن رغم ذلك استطاع بايزيد ببعض المناورات أن يحافظ على جيشه ويقضي على هذا الهجوم.
حاول سيجسموند تقديم الدعم لفرقة الفرسان الفرنسية لما رأى من تأثيرها في صفوف الجيش العثماني، ومحاولة بايزيد الالتفاف عليها، لكنّ بايزيد لمح الأمر سريعاً وأمر بعض فرق جيشه الخفيفة بالالتفاف على قوات سيجسموند القادمة، وهكذا عزلت قوات سيجسموند كما حوِّط الفرسان الفرنسيون.
وهكذا، تحوّلت المعركة التي بدأت حصاراً لحصن نيكوبوليس إلى معركة نيكوبوليس الملحمية التي هزمت فيها الجيوش الأوروبية، وهرب سيجسموند وبعض قادته من أرض المعركة بصعوبة، كما أُسر كونت دي نيفر البرغندي.
أمر السلطان العثماني بقتل الأسرى جميعهم، ويقدرهم البعض بعدد 3 آلاف أسير، وكان هذا القرار انتقاماً من موقفٍ سابق عندما قتلت قوات أوروبية أسرى مسلمين.
وهكذا، ظلّت هذه المعركة معركةً أسطورية في تاريخ الدولة العثمانية، وكذلك في تاريخ شرق أوروبا.