مثّلت معركة واترلو، التي وقعت في بلجيكا يوم 18 يونيو/حزيران عام 1815، الهزيمة الأخيرة لنابليون بونابرت الذي احتلّ غالبية أراضي أوروبا في القرن الـ19. وفي بريطانيا يطلقون على الشخص الذي يواجه حظاً سيئاً أنّه يواجه "واترلو"، فقد أصبح ما حدث في المعركة مضرباً للأمثال.
وتعتبر هذه المعركة إحدى أبرز المعارك في التاريخ التي لعب فيها الغباء دوراً محورياً في نتيجة المعركة، وفقاً لما ذكره المؤلِّف إريك دورشميت في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ".
ارتقى نابليون في مناصب الجيش الفرنسي إبان الثورة الفرنسية، ليفرض سيطرته على الحكومة الفرنسية عام 1799، ويصير لاحقاً إمبراطوراً للبلاد عام 1804. وخلال سلسلةٍ من الحروب وسّع إمبراطوريته بطول أوروبا الغربية والوسطى.
كانت معركة واترلو، التي خسرت فيها قوات نابليون على يد البريطانيين والبروسيين بمثابة نهاية عهده، ونهاية الهيمنة الفرنسية على أوروبا، فتعالوا نقصّ عليكم الحكاية من بدايتها.
القصة تبدأ مع صعود نابليون بونابرت إلى السلطة
ستفاجأ عندما تعرف أن نابليون بونابرت ليس فرنسياً، فأصوله من جنوه الإيطالية. وقد ولد عام 1769 في جزيرة كورسيكا بالبحر المتوسط، والتي لا تعتبر فرنسية "بالكامل". ارتقى نابليون سريعاً في صفوف الجيش الفرنسي، وأثبت أنّه قائدٌ موهوب وشجاع.
التحق نابليون بالأكاديمية العسكرية عام 1779 عندما كان سِنُّه 19 عاماً، ثمّ انتقل لاحقاً للمدرسة العسكرية في باريس بعدها بسنوات، وتخرج ملازماً أول في سلاح المدفعية. كانت أولى المحطات التي يثبت فيها نابليون قيادته، عندما انتصر في معركة تولون على المتمردين المدعومين من بريطانيا الذين يحاولون القضاء على الثورة الفرنسية الناشئة.
وهكذا ترقّى نابليون وصعد نجمه ليصبح في فترةٍ قصيرة أحد قادة فرنسا الثلاث، وبعد اتهامٍ قصيرٍ بالخيانة بعد تغيُّر الحكومة خرج منه بريئاً، وصعد في سلّم القيادة العسكرية، إلى أن سيطر على السلطة السياسية في فرنسا خلال انقلاب عام 1799، وحصل على لقب القنصل الأول وصار الشخصية السياسية الأبرز في فرنسا.
بعدها بعدّة سنوات قليلة نصّب نفسه إمبراطوراً لفرنسا في حفلٍ فخم عام 1804، وتحت قيادة نابليون دخلت فرنسا سلسلةً من المعارك الناجحة ضد مختلف تحالفات الدول الأوروبية، وتوسّعت الإمبراطورية الفرنسية في غالبية أنحاء أوروبا الغربية والوسطى.
أنشأ نابليون ولاياتٍ جديدة في المناطق الأوروبية الجديدة التي سيطر عليها، فأنشأ مثلاً الاتحاد الألماني الذي بُني على أنقاض الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ومنح أعضاء عائلته مناصب ذات نفوذ عالٍ في "الإمبراطورية الجديدة" التي أسسها بعد أقل من عقدين من إطاحة الثورة الفرنسية بالملك الفرنسي!
بداية السقوط إلى الهاوية.. معركة لايبزغ في روسيا
قد نكون أثقلنا عليك للوصول إلى هذا الجزء من القصة، ولكنّه ضروري لفهم بقية القصة، ولوضع القصة نفسها في إطارها التاريخي. ففي عام 1812 قاد الإمبراطور نابليون بونابرت غزواً كارثياً لروسيا.
من المعروف أنّ روسيا ذات مساحة هائلة، تجعل أيّ قائد عسكري يفكر ألف مرة قبل أن يغزوها، ولكن يبدو أنّ انفعالات نابليون وشعوره بالعظمة والدهاء العسكري أوقعه في الفخ، فقرر غزو روسيا.
وفي روسيا، أُجبرت قواته على الانسحاب وعانت خسائر فادحة. وفي الوقت ذاته تحالفت إسبانيا والبرتغال بمساعدةٍ بريطانية لإخراج قوات نابليون من شبه جزيرة أيبيريا تماماً في حرب شبه الجزيرة الأيبيرية (1808-1814).
وهكذا أصبح نابليون محاصراً، فمن ناحية ثارت عليه دول غرب أوروبا، وهو معلّق في الشرق مع الجليد الروسي الكثيف الذي أفنى أرقاماً ضخمة من الجيش الفرنسي.
انتهت معركة لايبزغ في روسيا عام 1813، وهي معروفة أيضاً باسم حرب الأمم.
هُزِمَ جيش نابليون على يد تحالفٍ قويّ ضمّ القوات النمساوية والبروسية والروسية والسويدية معاً. وبعدها تراجع نابليون عائداً إلى فرنسا، حيث استولت قوات التحالف على عاصمتها باريس في مارس/آذار عام 1814.
وفي 6 أبريل/نيسان عام 1814، أُجبِرَ نابليون وهو في منتصف الأربعينيات من عمره على التنازل عن العرش. وبموجب معاهدة فونتينبلو، نُفِيَ نابليون إلى جزيرة إلبا في البحر المتوسط قبالة شواطئ إيطاليا.
وبعد أقل من عامٍ واحدٍ فرَّ نابليون من جزيرة إلبا، وأبحر إلى البر الرئيسي في فرنسا، مع مجموعةٍ تزيد على الألف شخص من أنصاره. وفي 20 مارس/آذار، عاد إلى باريس، حيث رحّبت به الحشود المبتهجة.
هرب الملك الجديد لويس الثامن عشر، الذي نصّبته الجيوش الأوروبية الغازية، ثم انطلق نابليون فيما بات يُعرف لاحقاً بحملة المئة يوم، لاستعادة ما أُخذ منه. ولكنّه في الحقيقة كان يتّجه إلى الهاوية أكثر، فقد كانت في انتظاره معركة واترلو.
زحف نابليون إلى بلجيكا ومعركة واترلو الحاسمة
بعد عودته إلى فرنسا بدأ ائتلافٌ من الحلفاء النمساويين والبريطانيين والبروسيين والروس في الاستعداد للحرب للقضاء على نابليون مرةً أخرى.
شكّل نابليون جيشاً جديداً وخطّط للضرب استباقياً، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم ليهزم القوات المتحالفة واحدةً تلو الأخرى، قبل أن تشُن هي عليه هجوماً جماعياً ضده.
وفي يونيو/حزيران عام 1815، زحفت قوات نابليون إلى بلجيكا، حيث عسكرت جيوشٌ منفصلة من القوات البريطانية والبروسية.
وفي معركة ليني يوم 16 يونيو/حزيران، هزم نابليون البروسيين بقيادة جيبهارد ليبرخت فون بلوخر، لكنّ الفرنسيين عجزوا عن تدمير الجيش البروسي بالكامل، كما كان يأمل.
بعد يومين، في الـ18 من يونيو/حزيران، قاد نابليون جيشه المقدّر بنحو 72 ألف جندي لمواجهة الجيش البريطاني المُقدّر بـ68 ألف جندي، والذي اتّخذ مواقعه جنوب بروكسل بالقرب من قرية واترلو.
كان الجيش البريطاني، الذي ضم جنوداً بلجيكيين وهولنديين وألمانيين أيضاً، تحت قيادة دوق ولنغتون آرثر ويلزلي، الذي اكتسب شهرته أثناء القتال ضد الفرنسيين في حرب شبه الجزيرة الأيبيرية، حين أخرجوا نابليون منها قبل حوالي سنة.
ارتكب نابليون خطأً فادحاً حين انتظر حتى منتصف اليوم، ليُعطي الأمر بالهجوم من أجل السماح للأرض المشبّعة بالمياه أن تجفّ بعد العاصفة المطيرة في الليلة السابقة. إذ منح هذا التأخير من تبقَّى من جنود الجيش البروسي -الذي هزمه نابليون منذ قليل- الوقت ليصل وفقاً لبعض التقديرات أكثر من 30 ألف جندي إلى منطقة واترلو، وينضموا إلى المعركة في وقتٍ لاحق من اليوم.
ورغم أنّ قوات نابليون شنّت هجوماً قوياً ضد الجيش البريطاني، فإن وصول البروسيين قلب الطاولة على الفرنسيين تماماً، فتراجع جيش الإمبراطور الفرنسي في حالةٍ من الفوضى بعد أن فاقه العدو عدداً.
ووفقاً لبعض التقديرات، تجاوزت خسائر الفرنسيين 33 ألف شخص (بين قتلى وجرحى وأسرى)، في حين تجاوزت خسائر البريطانيين والبروسيين 22 ألف شخص فقط.
فهمنا الآن أنّ انضمام الجيش البروسي للجيش البريطاني قلب المعادلة رأساً على عقب، فلماذا وصل الجيش البروسي في المقام الأول؟ نعم لقد تأخر نابليون في التحرك بسبب المطر، لكنّ هذا ليس السبب الوحيد، فالسبب الأساسي يندرج تحت مسمّى "الغباء"!
بعدما هزم نابليون الجيش البروسي أرسل وراءه قائده غروتشي بجيشٍ قوامه 34 ألف جندي و108 مدافع، ليطارد الجيش البروسي، وليتأكد من عدم انضمامه للجيش البريطاني. كان قائد الجيش البروسي بلوتشر في سن السبعين قائداً محنكاً، فقسم فلول جيشه قسمين، تحرك كلاهما في طريقين منفصلين، وهنا وقع القائد الفرنسي في الفخ، وطارد أحد الطرفين وترك الطرف الثاني، أما الطرف الثاني فهو الذي انضم للجيش البريطاني وقلب المعادلة تماماً.
المثير في الأمر أنّ غروتشي علّل موقفه هذا لاحقاً بأنّ القائد العام فقط هو من يأتيه الإلهام، وما على بقيّة الضباط سوى تنفيذ الأوامر فقط. فهل لم يفهم غروتشي الأمر فعلاً أم حاول فقط تبرير هزيمته.
لكنّ هذا لم يكن الخطأ أو "الغباء" الوحيد في المعركة!
أثناء معركة واترلو التي أنهت مسيرة نابليون، ارتكب المارشال لي خطأً عسكرياً ضخماً. من الأسس العسكرية في تلك الحقبة التاريخية أنّ سلاح المشاة يحتاج سلاح الفرسان ليغطِّي عليه، كما أنّ سلاح الفرسان أيضاً يحتاج سلاح المشاة.
قفز المارشال لي على هذه الحقيقة وقرر توجيه سلاح الفرسان المكوّن من 5 آلاف فارس بدون غطاءٍ من كتائب المشاة. وبالفعل استطاع الفرسان الفرنسيون أن يسيطروا على منطقة المدافع البريطانية، لكنّهم لم يستطيعوا أن يوجهوا المدافع لأعدائهم، ولم يستطيعوا أيضاً أن يوقفوا المدافع مؤقتاً.
هنا هجم سلاح الفرسان البريطاني، واستطاع هزيمة سلاح الفرسان الفرنسي وسحقهم لاحقاً بالمدفعية البريطانية.
في التقييم العام للمعركة، يبدو أنّه نظراً لإرهاق نابليون وسوء حالته الصحية خلال حملة بلجيكا، فقد ارتكب نابليون أخطاءً تكتيكية وتصرّف بشكلٍ غير حاسم. كما أنّه عيّن أيضاً قادةً غير أكفاء.
كانت معركة واترلو مشهد الختام في المسيرة العسكرية الأسطورية لنابليون. إذ ترك أرض المعركة وهو يبكي وفقاً لبعض الروايات، فقد كانت تلك فرصته الأخيرة والوحيدة ليعود إمبراطوراً من جديد.
لكنْ هناك خطآن آخران ارتُكبا أثناء المعركة كانا سبباً في القضاء على نابليون.
سنوات نابليون الأخيرة بعد هزيمة واترلو
في 22 يونيو/حزيران عام 1815، تنازل نابليون عن العرش مرةً أخرى. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه نُفِيَ إلى جزيرة سانت هيلانة النائية، الواقعة تحت الحكم البريطاني، في جنوب المحيط الأطلسي. ومات هناك في الخامس من مايو/أيار عام 1821 وهو في الـ51 من عمره، بعد إصابته بسرطان المعدة على الأرجح.
ودُفِنَ نابليون في الجزيرة، لكن رفاته أُعيد إلى فرنسا عام 1840 ودُفِنَ في سرداب داخل ليزانفاليد، إلى جوار غيره من القادة العسكريين الفرنسيين.