لعبة سماسرة أم “مبالغة” صحفية؟ قصة الأسلحة الفاسدة التي قضت على الملك فاروق

في 10 أكتوبر/تشرين الأول عام 1950 فجّر الأديب والصحفي المصري إحسان عبدالقدوس قنبلة صحفية مدوية في مجلة روز اليوسف الشهيرة التي كان يترأس تحريرها وهي ما عُرفت بـ"قضية الأسلحة الفاسدة". فما هي تفاصيل تلك القصة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/27 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/27 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
حرب 1948 / ويكيميديا

في 10 أكتوبر/تشرين الأول عام 1950 فجّر الأديب والصحفي المصري إحسان عبدالقدوس قنبلة صحفية مدوية في مجلة روز اليوسف الشهيرة التي كان يترأس تحريرها وهي ما عُرفت بـ"قضية الأسلحة الفاسدة".

قال عبدالقدوس إن الجيش المصري تعرَّض للخيانة في حرب فلسطين عام 1948 واستخدم ذخائر وأسلحة فاسدة وإنَّ القنابل التى استخدمها الجنود والضباط ارتدَّت لصدورهم قبل انطلاقها إلى العدو وقتلتهم بدلاً من قتل العدو، فكاشن ذلك سبب الهزيمة، ووجه الاتهام إلى مسؤولين وسماسرة السلاح بأنهم كانوا سبب هزيمة الجيش المصرى، وتم الترويج على إثرها بأنَّ الهزيمة فى حرب فلسطين، التى كانت أولى معارك العرب مع إسرائيل، نتيجة صفقات السلاح.

وقد بقيت هذه القضية محل نقاش حتى عقودٍ طويلة، تحدَّث عنها الكثير من الصحفيين والسياسيين ومنهم من اعتبرها "أسطورة" ومنهم من اعتبرها "أكذوبة"، وهناك من اعتبر أنها كانت "لازمة" لتأجيج الرأي العام ضد النظام الملكي في مصر، ولتكون أحد أسباب قيام مجموعة الضباط الأحرار بتحرُّك يوليو/تموز 1952 على الملك فاروق الأول، آخر ملوك الأسرة العلوية في مصر.

قضية الأسلحة الفاسدة
الملك فاروق في المنفى / Flickr

وأياً كانت هذه المسميات والتصنيفات، فإنّ هذه القضية ساهمت بشكلٍ كبير في تشكيل تاريخ مصر الحديث بشكلٍ خاص، وفي مسيرة أحداث الصراع العربي-الإسرائيلي أيضاً، فما هي قصة قضية الأسلحة الفاسدة؟

بداية القصة.. سماسرة وتجّار يستفيدون من بيع السلاح لمصر

بدأت الحكاية عندما قرر ملك مصر فاروق الأول دخول حرب فلسطين عام 1948 قبل نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين بأسبوعين فقط. ثمّ أقر البرلمان المصري دخول الحرب قبلها بيومين فقط، على الرغم من عدم جاهزية الجيش المصري من الناحية العسكرية، وعدم رغبة رئيس الوزراء المصري محمود النقراشي، بحسب ما يخبرنا محمد حسنين هيكل في كتابه "سقوط نظام: لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة".

وقد دفع نقص التسليح وضيق الوقت القيادة المصرية لتشكيل لجنة "احتياجات الجيش"، وقد تكوّنت من حاشية وأصدقاء الملك في 13 مايو/أيار 1948، ومُنحت صلاحيات واسعة لشراء السلاح من كل الجهات، في أسرع وقت، دون قيدٍ أو رقابة، وكان ذلك بالتزامن مع حظر مجلس الأمن الدولي بيع الأسلحة للدول المتحاربة في فلسطين، لتحجيم قدرة الدول العربية على القتال.

وفي سبيل التحايل على القرار، لجأت الحكومة المصرية لعقد صفقات مع شركات السلاح تحت غطاء أسماء وسطاء مصريين وأجانب، ما فتح الباب على مصراعيه عند بعض الأشخاص والسماسرة للتلاعب لتحقيق مكاسب ضخمة وعمولات غير مشروعة، مقابل شراء أسلحة لم تكن مطابقة للمعايير المطلوبة على أقل تقدير، وهناك أشخاص اشتروا الأسلحة على وجه العجلة وهم على علم بانتهاء صلاحيتها، وبعضهم لم يكونوا على وعي بذلك.

وبحسب هيكل، فإن معظم هذا السلاح كان باقياً في مخازن أوروبا وإيطاليا بالذات منذ الحرب العالمية الثانية، حيث كانت إيطاليا سوقاً مفتوحة لبيع هذه الأسلحة.

دخلت مصر الحرب التي بدأت في 15 مايو/أيار 1948 وانتهت في 24 فبراير/شباط 1949 بتوقيع اتفاق الهدنة بين مصر وإسرائيل، وبذلك انتهت حرب فلسطين فعلياً بهزيمة مصر والدول العربية المشاركة واستيلاء العصابات العسكرية الإسرائيلية على أراضي فلسطين ما عدا قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وعرفت هذه الأحداث باسم "النكبة".

وقد ورد في كتاب "بقلم جمال عبدالناصر: رؤية تحليلية" الذي كتبه خالد عزب وصفاء خليفة: "وإنك لتسأل عن سبب قبول الهدنة الأولى، أو النكبة الأولى، فتجد السبب في أن الأسلحة والذخائر المصرية لم تكن تسعف ضباطنا وجنودنا في القيام بمهمتهم، فكثيرٌ منها فاسد ومغشوش، وكثير منها قديمٌ وغير صالح للعمل، وقد كشفت قضية الأسلحة الفاسدة عن المآسي التي حدثت، عندما احتاط السماسرة وعملاء اليهود بفاروق، وأخذوا يغترفون الأموال بحجة توريد سلاح وذخائر مقابل عمولات ضخمة تودع باسم آخر الملوك في بنوك سويسرا".

قضية الأسلحة الفاسدة تهز مصر

بعد مرور عام على الهزيمة العربية، بدأ الحديث عن القضية في أوائل عام 1950 بسبب تقرير ديوان المحاسبة "الجهاز المركزي للمحاسبات حالياً" الذي ورد فيه مخالفات مالية جسيمة شابت صفقات أسلحة للجيش تمت في عامي 1948 و1949.

قضية الأسلحة الفاسدة
قوات الهاغاناة الإسرائيلية أثناء حرب 1948 / Flickr

وقد حاولت الحكومة المصرية التي يترأسها مصطفى النحاس (عيِّنت حكومته عام 1950) الضغط على رئيس الديوان لحذف ما يتعلَّق بهذه المخالفات من التقرير فرفض رئيس الديوان هذا الطلب وقرر الاثنان تقديم استقالتيهما، فما كان من النائب البرلماني المعارض مصطفى مرعي إلا أن يقوم باستجواب الحكومة لمعرفة أسباب الاستقالة في جلسة مجلس الشعب يوم 29 مايو 1950 لمعرفة تفاصيل المخالفات الجسيمة التي شابت صفقات الأسلحة.

بقيت هذه القضية بعيدة عن الرأي العام المصري، إلى أن قام إحسان عبدالقدوس ومجلته روزاليوسف بنشر قصة هذه الصفقات المشبوهة إلى الرأي العام الذي تحدث عن حجم الفساد الذي استشرى في كل شيء حتى وصل إلى المتاجرة بدماء جنود مصر في أرض المعركة، وقد نجحت مجلة روزاليوسف في شن حملة إعلامية شرسة على النظام الملكي وتكوين ضغط شعبي كبير.

وفي هذه الأجواء اضطر وزير الحربية مصطفى نصرت لأن يقدم بلاغاً للنائب العام لفتح تحقيق فيما نشر بصحيفة روزاليوسف، وانقسمت القضية إلى شقين: قضية اتهام أفراد الحاشية الملكية، وقضية اتهام أفراد من الجيش والمدنيين.

خدمت تلك القضية بالطبع حركة الضباط الأحرار في الجيش بزعامة جمال عبدالناصر الذين أطاحوا الملك فاروق بعدها بسنتين في 23 يوليو/تموز 1952. فقد كانت قضية الأسلحة الفاسدة واحدة من بين أسباب تقبُّل المواطنين لحركة الجيش وإعراضهم عن الملك فاروق وحاشيته، وجاء أول بيان للثورة يقول: "إن الفاسدين والمرتشين تسببوا فى هزيمتنا فى حرب فلسطين".

على أي حال قرر النائب العام في 27 مارس/آذار 1951 حفظ التحقيقات في الشق الأول من القضية المتهم فيها الحاشية الملكية، أما الشق الثاني من القضية المتهم فيها أفراد من رجال الجيش والمدنيين فقد تم التحقيق فيه، واستمرت جلسات القضية حتى تحدد يوم 10 يونيو/حزيران 1953، أي بعد الثورة بعام، للنطق بالحكم ببراءة كل المتهمين من كل التهم المنسوبة إليهم، ما عدا متهمين فقط حُكم عليهما غرامة 100 جنيه، وهما القائم قمام عبدالغفار عثمان والبكباشي حسين مصطفى منصور.

وشكَّل هذا الحكم حالة من الصدمة للرأي العام في داخل مصر وخارجها، وخاصة بعد قيام الثورة، حيث اعتبر هذا الحكم بمثابة تستُّر على المتورطين، خصوصاً أنه لم يتم الكشف عن أي سبب من أسباب في البراءة، هل هي عدم كفاية الأدلة أم لأن حيثيات حكم المحكمة اختفت من سجلات القضاء؟

هل كانت الأسلحة الفاسدة هي السبب في خسارة الحرب؟

شكلت هذه القضية نقطة محورية في تاريخ الشعب المصري، فهي بمثابة انتهاء حقبة وبداية أخرى جديدة، ولكنها بقيت محلاً للنقاش لعقودٍ طويلة، ليتضح من حديث وشهادة بعض الشخصيات المصرية المهمة أنها لم تكن السبب في خسارة الحرب، على الرغم من أن هناك فساداً في عمليات صفقاتها، ولكنها كانت ضربة إعلامية هوَّل فيها إحسان عبدالقدوس لتحريك مشاعر الجمهور المصري وتقليبها.

ويقول محمد حسنين هيكل الذي كان معاصراً لهذه الأحداث إن موضوع الأسلحة الفاسدة كان واحداً من ذرائع ثورة يوليو. وقد جرت تحقيقات في قضية الأسلحة الفاسدة وظهرت في التحقيق مسألتان: الأولى أنه كانت هناك بالفعل أسلحة فاسدة، لكنّ نسبة هذه الأسلحة كانت في الحدود المعقولة وعلى ضوء الظروف التي تمّ فيها شراؤها، مع وجود مبالغات في الأسعار استفاد منها بعضهم، والثانية هي تبرئة النظام الملكي من القضية.

حارب جمال عبدالناصر في حرب 1948 هو وعدد من الضباط الأحرار الذين أطاحوا الملك فاروق لاحقاً / Flickr

وفي تصريحات سابقة له في أوائل الألفية، يقول اللواء أركان حرب متقاعد مصطفى ماهر الرئيس السابق للجنة العسكرية لتسجيل تاريخ ثورة 23 يوليو:

"أصدر القضاء المصري حكماً بالبراءة، وقال لم تكن هناك أسلحة فاسدة.. وحين أثار إحسان عبدالقدوس قضية الأسلحة الفاسدة في مجلة روزاليوسف ذهبت أقابله في مكتبه بالأهرام، وكان معي زميل من اللجنة العسكرية. وقلت له أستاذ إحسان لقد انتهت قصة الأسلحة الفاسدة فاحكِ لنا الحقيقة بالضبط في هذه القضية فقال لي بصوته: أنا افتعلت هذه القصة وروّجت لها ونفخت فيها بهدف توضيح عجز الأحزاب في ذلك الوقت على إحداث تغيير.. وأن القوى الوحيدة التي تستطيع التغيير هي القوات المسلحة، فأردت أن أستفزّ وأثير حماس ضباط القوات المسلحة".

فيما يقول محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر بعد إنهاء الملكية، في كتابه "كلمتي للتاريخ": "أنا لا أريد أن أنزلق مثل الكثيرين إلى تعليق عدم انتصارنا في حرب فلسطين على مشجب الأسلحة الفاسدة، وهي القضية التي استخدمت للدعاية ضد النظام القائم حينذاك، ولكنها انتهت بالبراءة في عهد الثورة".

ويشير وزير الثقافة المصري الأسبق ثروت عكاشة، الذي عمل ضابطاً للمخابرات الحربية في القطاع الجنوبي أثناء حرب فلسطين، في كتابه "مذكراتي في السياسة والثقافة":

"ما من شك في أني بحكم موقعي كنت على علم بما يدور حولي من شؤون حربية، ومنها تلك الأسلحة.. وكل ما حدث هو انفجار أربعة مدافع 25 رطلاً عن خطأ في تعبئة ذخيرتها الإنجليزية، وكان مثل هذا الحادث قد وقع بالجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وأثبتوا هذا في مراجعهم، التي وصلتنا في مصر بعد انتهاء حرب فلسطين، واستدراكاً لما وقع قامت المصانع البريطانية بإصلاح هذا الخطأ في ذخيرتنا بعد إيقاف القتال. لكنّ ما قيل من أن سبب هزيمة الجيش المصري في فلسطين عام 1948 الأوحد هو فساد الأسلحة والذخائر، التي كانت في أيدي الجيش، فهذا حديث أراه متجاوزاً الحقيقة".

كما قال الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري خلال حرب 6 أكتوبر 1973، لبرنامج شاهد على العصر على قناة الجزيرة عام 2009: "إن هناك الكثير من المبالغات في مسألة الأسلحة الفاسدة، ولا يصح وليس من المنطق إرجاع الهزيمة لهذا الأمر".

وخلاصة ذلك أن هذه الأسلحة لم يكن فيها فساد في نوعياتها، وإنما في الطريقة التي اشتريت بها، وفي المبالغ الضخمة التي دفعت فيها واستفاد منها المشترون الذين كانوا من حاشية وأصدقاء الملك فاروق، إلا أن إحسان عبدالقدوس روَّج لقضية "الأسلحة الفاسدة" للمساعدة في إنهاء النظام الإقطاعي وحكم الملكية في مصر الذي دام 148 عاماً منذ حكم محمد علي باشا.

تحميل المزيد