لو أن بن جوريون بُعث من قبره من جديد فسيكون فخوراً بأحفاده.. ولو أن جمال عبدالناصر أو الحاج محمد أمين الحسيني بُعثا من قبريهما لبصقا علينا أجمعين.
هاتان الجملتان كافيتان لتلخيص غرض المقال ومحتواه، ولو كنت مشغولاً فلا تستكمل من القراءة إلا هذين السطرين.
كان البدء مع اتفاقية سلام هي الأغرب في التاريخ!
تطبيع وعلاقات تجارية واقتصادية وسياسية والمقابل "عدم الضم" وليس "منح المزيد من الأراضي".
وهو ثمن عجيب تدفعه لعدو سرق أرضك وأهلك وتاريخك، وتأتي أنتَ لتقرَّ تصالحاً لا يُعيد المنهوب لكن يعد بتجميد السرقة مؤقتاً.
ولنُجسِّد العجب الماثل أمامناً بمثالٍ، فلنتخيَّل أن السادات وقّع اتفاقية كامب ديفيد، مع تحفظاتنا الجمّة عليها، لا ليُعيد سيناء ولكن ليحصل على تعهدٍ من إسرائيل بعد غزو القاهرة مع احتفاظها بسيناء كما هي.
أعتقد أننا في هذا الوقت ندين باعتذارٍ جمّ لعرّابي كامب ديفيد من القيادة المصرية عليهم وكل الذين دعّموا السادات في خطواته المرفوضة شعبياً لإجراء صُلح مع إسرائيل مقابل عودة سيناء.. فقط!
لو علموا وقتها أن غيرهم سيُقيم صُلحاً مقابل لا شيء لاستنكروا صنوف اللعنات التي ظلّت تتوالى عليهم منذ 1978م وحتى اليوم.
ما الذي يعنيه اسم الطائرة "كريات جات"؟
ولتكتمل دائرة المفارقات، فإن الطائرة البوينغ التي انطلقت من الأراضي المحتلة إلى الإمارات حملت اسم "سلام" بثلاث لغات وتحتها كُتبت بحروف عربية دقيقة "كريات جات" وهي مستوطنة إسرائيلية أقيمت على أنقاض قرية "عراق المنشية"، التابعة لجيب الفالوجا العربية، والتي سُرقت من أهلها وقُتلوا فيها خلال حرب 1948م.
سمِّها ما شئت مفارقة صارخة أو حقيقة واضحة، لكن في النهاية عليك أن تُدرك أن رسالة الإسرائيليين لنا جميعاً واضحة؛ فالسلام معها لن يأتي أبداً إلا عبر لغة القوة التي أبادت القُرى وهجّرت المدنيين الأبرياء من بيوتهم.
لن نعرف أبداً ما إذا كانت هذه الرسالة مقصودة أم أنها مجرد صدفة، لكن في النهاية يُمكننا أن نعرف أن الحاضر مهما اجتهد لتمييع الحقائق فإن التاريخ لن يفعل أبداً ذلك، وها هي رسائله لنا تُتلى على رؤوسنا في واحدة من أخطر لحظاتنا وتُخرج لنا ألسنتنا فلا ندري أنضحك أم نبكي؟
إن كان غيركم، طبّع وباع حتى بدون ثمن، فلا تنسوا أبداً دماء هؤلاء الذين لم يُطبّعوا ولم يبيعوا وماتوا في الفالوجا/ كريات جات.
تحتل هذه البقاع جزءاً مهماً في التاريخ العبري، فهي استضافت جزءاً من معارك النبي داود، كما دمّرها نبوخذ نصر كأحد أجزاء مملكة يهوذا التي سوّاها بالأرض.
غرناطة فلسطين
أما في تاريخنا العربي، فلقد عُرفت هذه المنطقة قديماً بِاسم "زريق الخندق"، والذي يرمز للون الأزرق لبعض أنواع الزهور التي شاعت زراعتها في هذا المكان، لكن فيما بعد تغيّر الاسم إلى الفالوجا كرامةً للسيرة العطرة للقُطب المتصوف العراقي شهاب الدين الفالوجة الذي هاجر من الأنبار العراقية إلى فلسطين في القرن الـ14، وسكن هذه البقعة حتى مات ودُفن فيها.
أما عن "عراق المنشية"، وهي إحدى قرى الفالوجا، فتذكر لنا المرويات التاريخية أنها كانت "غرناطة فلسطين"، فهي آخر المدن التي استسلمت عقب هزيمة العرب المدوية في حرب 1948م، بفضل بسالة أهلها و4 جنود مصريين تمركزوا فيها من ضمنهم البكباشي جمال عبدالناصر.
يروي جمال عبدالناصر في مذكراته: بدأت أستشكف المنطقة من حولي لكي أعرف أين أنا. وبالتالي لكي أستعد إذا جاء العدو، كانت "عراق المنشية" قرية صغيرة تضيق فيمن فيها من سكان ومن لاجئين، وكان تعداد الجميع يتراوح بين 1800 و2000 شخص.
ويضيف: كانت عراق المنشية على الطريق الرئيسي الذي يفصل الشمال عن الجنوب، ويمتدُّ من المجدل حتى الخليل، وكانت مستعمرات العدو تُحيط بها من كل جانب، وعلى بعد كيلومترين فقط منها تقع مستعمرة "جات".
سيُغير هذا الحدث من تاريخ مصر، بعدما سيُقرر عبدالناصر تشكيل تنظيم الضباط الأحرار فور عودته إلى مصر، والذي سيعمل على الإطاحة بالملك بسبب القيادة العسكرية الخاطئة للجيش التي تسببت في الهزيمة في حرب فلسطين.
حاصرتهم العصابات العبرية لمدة 6 شهور وقطعت عنهم الإمدادات، فاضطروا إلى الاكتفاء بـ"البليلة" طعاماً يصنعونه من قمح القرية يُعينهم على الصمود.
مات منهم 100 جندي لكنهم لم يستسلموا وظلّوا في مواقعهم يدافعون عن المدينة العربية الأخيرة ضد هجمات الهاجاناه التي تتالت عليهم من مارس/آذار 1948م، وعندما اتصل بهم وزير الحربية وسألهم عمّا يحتاجونه فطلبوا أغنية لأم كلثوم!
غنّت فيها أم كلثوم لهم "غلبت أصالح في روحي"، ولم يتمكن اليهود من اقتحامها إلا مع عام 1949م، بعد تنفيذ بنود اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل.
ولمّا عاد اللواء المصري إلى القاهرة أقيم لهم احتفالٌ ضخم حضره الملك شخصياً ووزير الحربية ساده البهرجة والاحتفاء لدرجة أن بعض المواطنين اعتقدوا أننا انتصرنا في الحرب!
السيطرة على القرية
لم يلتزم اليهود ببنود الهدنة أكثر من مدة استدارة ظهر آخر جندي مصري لحظة خروجه من "عراق المنشية"، ففور أن دانت لهم السيطرة على القرية طردوا سكانها وهدموا بيوتهم، وأقيمت بدلاً منها خمس مستوطنات أشهرها كريات جات.
في البداية سكن هذه المستوطنات اليهود المغاربة، وتحديداً كانت 8 عائلات حطّت بهم السفينة في القرية العربية سابقاً وسكنوها عام 1961م، وسريعاً زادت أعدادهم حتى تجاوزوا الـ10 آلاف نسمة، ولاحقاً أُضيف لهم اليهود السوفيتيون الهاربون من جمهوريات الاتحاد السوفييتي.
يقول الموقع الرسمي للمدينة إن مدينة كريات جات، تأسست بشكلها الحالي عام 1956م، وأن اسمها مُشتق من مدينة "جات" التوراتية، وأن مساحتها تبلغ 17 ألف فدان، ويتجاوز عدد سكانها الـ56 ألف نسمة.
أنشئت هذه المدينة بناءً على أوامر بن جوريون، لتكون مدينة كبيرة تقع بين قطاع غزة وجبل الخليل، كجزء من سياسة تكثيف الاستيطان اليهودي في جبهة النقب، سريعاً تم وضع خُطط إقامة المدينة في قلب المنطقة الزراعية، وفي سبتمبر/أيلول 1955 تم وضع حجر الأساس للقرية التي بدأت معالمها تظهر إلى النور.
بالطبع لن يذكر الموقع أبداً أن أساس البناء القديم الموجود في منتصف القرية حتى الآن كان المسجد الرئيسي الذي نسفه الجنود الإسرائيليون خلال هجومهم عليها، ومن ضمنه مقام الشيخ الفالوجي الذي سُميت على اسمه، والذي تحكي المرويات الشعبية الفلسطينية أن روحه كانت تتجلّى في رداءٍ أبيض وتُشارك المصريين معاركهم الدفاعية.
ولن يأتي أبداً على سيرة الـ413 نسمة العرب الذين كانوا يقطنون على هذه البقعة منذ 72 عاماً وأُجبروا على مغادرتها خوفاً على حياتهم.
والآن ربما يُشاهد أحفادهم اسم قريتهم المُحرّف يُطلق على طائرة تُبشِّر بالسلام مع أحفاد القَتَلة.. فكيف يشعرون؟
برغم عمليات السلخ الحضاري لم تبتعد "كريات" عن الارتباط بِاسم فلسطين أبداً، فهي أحد الأهداف الثابتة لصواريخ المقاومة كلما اندلعت اشتباكات بينها وبين الأراضي المحتلة بسبب قُربها من قطاع غزة التي لا تبعد عنه أكثر من 32 كم.
وبالإضافة إلى ذلك أصبحت مركزاً لصناعات الغزل والنسيج وحديثاً للصناعات التكنولوجية الدقيقة بعد إعلان شركة "إنتل" إقامة مصنع ضخم في المدينة.
قديماً، اتهم ناشطون فلسطينيون بأن هذه الصناعات تتسبب في تلويث منطقتهم وإصابتهم بالأمراض القاتلة.
وكأنه كُتب علينا ألا تجتمع كلمات "فلسطين" و"إسرائيل" و"كريات جات" إلا وتكون النتيجة النهائية هي القتل والمرض.. فهل ستكون هذه نتيجة "سلام كريات جات"؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.