بينما كان محمد علي باشا يخطو أولى خطواته في الحياة الصعبة لشاب فقير عام 1769 كان السلطان سليم الثالث يبلغ من العمر 8 سنوات، ويعيش في قصرٍ فخم كأميرٍ من أمراء العثمانيين. وُلد سليم عام 1761. وعلى الرغم من الاختلافات الشديدة بين الرجلين فإنّهما تشابها في شيء واحد كانت نتيجته مختلفة على كليهما: محاولة النهوض ومنافسة جيوش أوروبا.
وربما يعرف أغلبنا قصّة محمّد علي باشا، حاكم مصر الذي هدّد أغلب الدول العظمى في عهده بجيشه الحديث وخُططه العسكرية والتحديثية والصناعية الكبرى. لكنّ الكثيرين ربما لا يعرفون عن تجربة شبيه محمد علي في الدولة العثمانية، الذي دفع حياته ثمناً لمحاولته تحديث دولته وتطوير جيشها.
الدولة العثمانية.. الكثير من الخسائر والقليل من الانتصارات!
عانت الدولة العثمانية في منتصف القرن الثامن عشر من ضعفٍ وتدهور كامل في مؤسسات الدولة وفي جيشها وفي وجود السلطان نفسه، والذي لم تكن له سلطة كبيرة بتسيير شؤون دولته، وبرزت أدوارٌ أخرى لأشخاصٍ مثل الصدر الأعظم وأغا (قائد) جيش الانكشارية.
فعلى المستوى العسكري مُنيت الدولة العثمانية بالعديد من الهزائم العسكرية في عهد عمِّه السلطان السابق عبدالحميد الأوّل، الذي يقال إنّه توفي بنزيفٍ في المخ تسبب فيه تأثُّره بهزيمة الدولة أمام الإمبراطورية الروسية وضياع بلاد القرم منها.
في هذه الأجواء العصيبة تولّى الشاب سليم الثالث السلطنة، وكان عمره آنذاك 28 عاماً.
ولا بدّ أنّ السلطان الشاب تساءل مراراً وتكراراً عن أسباب ضعف دولته مترامية الأطراف. فالولاة العثمانيون قد بدأوا ينفصلون سياسياً عن مركز السلطنة في إسطنبول، بل وبدأوا يمتنعون عن إرسال الضرائب للخزانة العامة للدولة. والجيش العثماني ضعيف، ومليء بالهزائم والفضائح العسكريّة، والعديد من مناطق سيطرة الدولة في أوروبا قد ذهبت بسهولة، بل إنّ نابليون بونابرت قد تجرّأ عام 1798 واحتلّ مصر التابعة للسلطنة، وذات الأهمية الجغرافية والزراعية الضخمة.
كان الجواب الذي جال في ذهن السلطان الشاب أنّ الخطأ في تركيبة الدولة نفسها، فقد تغوّل الموظّفون والأعيان على حساب الدولة، وتحكّم الجيش الانكشاري – رغم هزائمه المتتالية – في السلطان تماماً، بل أصبحوا هم يعيِّنون السلطان أو يعزلونه ويقتلونه إذا لم يوافق هواهم.
وهنا قرّر السلطان أن يدشِّن عهداً جديداً أطلق عليه اسم: النظام الجديد.
السلطان سليم الثالث والجنود الانكشارية
كما أسلفنا، فقد أصبح الجنود الانكشاريون متحكّمين تماماً في قرار الدولة رغم هزائمهم المنكرة على كلّ الجبهات تقريباً. وقد بدأ السلطان حربه على الجيش الانكشاري، لكن يبدو أنّ السلطان لم يأخذ حذره جيداً من "الانقلاب" على الجيش.
كانت فكرة النظام الجديد الأساسية هي إدخال "التحديث الأوروبي" إلى الجيش العثماني، وكذلك بعض النظم الإدارية والسياسيّة. حاول السلطان أولاً أن يطوِّر الجيش الانكشاري نفسه، بتزويدهم بالتدريب والأسلحة الجديدة. وكانت استجابة الانكشارية لهذا التحديث مخادعة، فقد وافقوا على التحديث أمام السلطان لكنّهم أعاقوه عملياً عن تنفيذه.
وهنا قرّر السلطان وصدره الأعظم أن يبدآ عملية التحديث بمعزلٍ عن الجيش الانكشاري. كان الجيش الانكشاري سابقاً أحد أقوى جيوش العالم، وكان مجرّد اسمه كافياً لبثّ الذعر في الأعداء. بل كان أقوى جيوش أوروبا، وهو السبب الرئيسي في انتصارات العثمانيين الكبرى في القارة الأوروبية. إلا أنّه مع الزمن، دخل الترفيه رويداً رويداً إلى أعضائه، وكذلك تدخَّل قادته في السياسة (وهو ما كان محظوراً عليهم سابقاً) فأصبحت المكاسب السياسية أهم من المكاسب العسكرية.
عندما علم الجيش الانكشاري (ومقره العاصمة) بخطّة السلطان وصدره الأعظم، بإنشاء فرقةٍ عسكرية جديدة تحت مظلة "النظام الجديد" بدأوا يشعرون بالتهديد، لكنّ شعورهم هذا بالتهديد لم يجعلهم يحاولون تحسين أدائهم أو اعتناق أدوات التحديث والتدريب التي أرادها السلطان.. لا، فقد كان قرارهم واضحاً: محاربة السلطان نفسه ومنعه من تشكيل جيشٍ جديد!
هل كان السلطان سليم الثالث بحاجة إلى "مذبحة مماليك" في إسطنبول؟
يقارن بعض الكتاب والمؤرخين بين محمد علي والسلطان سليم الثالث، ويركزون على حادثةٍ بعينها: مذبحة القلعة، أو ما عُرف باسم مذبحة المماليك.
كان المماليك قوة عسكرية قديمة في مصر، اعتادت في فترةٍ ما أن تظلم الناس وتغتصب حقوقهم، بل وأن تصبح عالةً على الدولة. وهي تشبه الجيش الانكشاري. فقد كان جيش المماليك سابقاً أيضاً جيشاً مرعباً، ومع مرور الزمن ارتكن المماليك كما ارتكن الانكشاريون لسمعتهم القديمة القوية، متناسين أنّ أوروبا قد تطورت عسكرياً وتقدّمت وسبقتهم كثيراً.
عندما أراد محمد علي توطيد حكمه في مصر، وتحديث الجيش وتطويره، كان المماليك هم القوة القديمة التي لا تريد أن تدخل عصر التحديث العسكري، وفي نفس الوقت ستحارب من يدخله. وإضافةً إلى تفاصيل أخرى لها علاقة بالصراع على السلطة، قرر محمد علي التخطيط لإنهاء سيطرة المماليك على الدولة تماماً، فخطط ونفذ مذبحة المماليك.
في تلك المذبحة، جمع محمد علي كبار قادة المماليك في قصره، وبعدما أكلوا وشربوا قرر قتلهم جميعاً. ويقال إنّ أعداد القتلى كانت ألف قائد مملوكي. كان هذا عام 1811، ولكن ما بدأه محمد علي من تطوير للجيش وتحديث له جعل جيشه خلال عشرين عاماً قوة إقليمية، بل وعالمية لا يستهان بها.
ربّما كان ينقص السلطان سليم الأوّل حنكة وقدرة محمد علي في الإطاحة بالخصوم بدموّية. بدأت ثورة ضد السلطان في إسطنبول، قادها الانكشارية إضافةً إلى بعض العلماء الذين اعتبروا أنّ أخذ السلطان بأساليب التقدم الأوروبية انسلاخ عن الشريعة والدين الإسلامي. وبدا أنّ معارضة الانكشارية وصراعهم للسلطان الذي استمر 19 عاماً كاملةً قد آتت أكلها في النهاية.
تراجع السلطان مع هذا التمرُّد، وعيّن صدراً أعظم (الوزير الأكبر) مؤيداً للانشكارية وضد النظام الجديد، في محاولةٍ منه لامتصاص غضبهم، ولكنّهم عزلوه مباشرةً في اليوم التالي لتلك القرارات التي اتخذها السلطان.
فأين كانت الفرقة الجديدة التي أسسها السلطان من كلّ هذا؟ تحركت تلك الفرقة من بلغاريا وقائدها للوصول لإسطنبول عندما وصلها خبر عزل السلطان، لكنّهم حين وصلوا كان الانكشاريون قد قتلوا السلطان سليم الثالث، وقطعوا بذلك كل إمكانية لعودته للسلطنة ومحاولته للتحديث.
ماذا حدث بعد ذلك للسلطنة والانكشارية؟
عندما تمرَّد الانكشاريون على السلطان سليم الثالث كان يدعمهم ابن عمّه مصطفى الرابع (ابن السلطان السابق)، وقد تولَّى هو الحكم بعدما وضع ابن عمّه سليم الثالث في السجن. عندما وصل جنود النظام الجديد إلى إسطنبول، قرر مصطفى الرابع قتل السلطان سليم وعرض جثّته على جنود النظام الجديد.
استمرّت ثورة جنود النظام الجديد، واستطاعوا الإطاحة بالسلطان مصطفى الرابع بعد 13 شهراً فقط من حكمه، وعينوا السلطان محمود الثاني شقيق السلطان سليم الثالث الصغير. وقد قاد هذا السلطان الجديد حركة التحديث وأكملها.
كان محمد علي قد قضى على المماليك عام 1811، وكان محمود الثاني ينظر لتجربة محمد علي بإعجابٍ كبير، ويبدو أنّه أعجب بمذبحة القلعة.
فرض السلطان التحديث العسكري على الانكشاريين عام 1826، فرفضوا وبدأوا تمردهم في العاصمة وأحرقوا المباني والبيوت وعاثوا في العاصمة فساداً. وهنا أمر السلطان فرقة المدفعية أن تحيطهم من كل الجوانب. حصدتهم المدافع حصداً، وقتلت منهم 6 آلاف جندي، وبهذا انتهى قلق الجنود الانكشارية الذين كانوا يثقلون الدولة بمطالبهم المالية والسياسية مع هزائمهم المتكررة في الحروب مع أعداء الدولة.
وكانت تلك الخطوات التحديثية التي بدأها سليم الثالث ومن بعده أخوه محمود الثاني، قد أعادت للدولة العثمانية بعض الهيبة المفقودة، وأمدّت في عمرها قرناً آخر من الزمان.
قتل السلطان سليم الثالث عام 1808 وعمره آنذاك 46 عاماً، فاتحاً الباب أمام أخيه الصغير لإكمال مشروعه. لكنّ شبيهه على الضفة الأخرى من البحر المتوسّط، محمّد علي، كان قد بدأ للتوّ رحلته ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه. فقد تولّى محمد علي حكم مصر عام 1805 واستمرّت أسرته تحكمها حتى عام 1952.