بينما صلّى الرئيس التركي أردوغان صلاة الجمعة 21 أغسطس/آب 2020 في مسجد أبوأيوب الأنصاري، ليذهب بعدها إلى قصر دولمة بهجة ويعلن اكتشاف تركيا حقل غاز ضخم في البحر الأسود، كان مرسوماً رئاسياً قد صدر في صباح نفس اليوم بإعادة متحف كورا (أو شورا) في إسطنبول إلى جامع كاريا.
لكن هذا المرسوم الرئاسي جاء بعدما أصدر مجلس الدولة التركي قراراً في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 يقضي بأن تحويل مسجد كاريا إلى متحف في عام 1945 كان غير قانوني، وبالتالي يحق للحكومة التركية إعادته إلى جامع. فما قصّة جامع كاريا؟
كنيسة شورا أم جامع كاريا؟
إنها قصة من التاريخ، لها علاقة بالرموز الدينية التي تغيَّرت مع الزمن، فمثلما حوّل العثمانيون كنيسة آيا صوفيا إلى جامع وأصبحت وقفاً من السلطان محمد الفاتح، فقد تحوّلت معها وفي أوقاتٍ مختلفة العديد من الكنائس.
كانت العادة في ذلك الوقت إذا فُتحت المدينة عنوةً فيحقّ للسلطان تحويل بعض كنائسها لمساجد ليصلي فيها جنوده، أما اذا استسلمت المدينة فلا يحقُّ له ذلك. وهذا العرف لم يكن معمولاً به فقط في فتح القسطنطينية، وإنما حدث في أماكن أخرى كما فعل السلطان سليمان القانوني بعد فتح بلغراد عندما حوّل كنيستها لجامع ليصلي فيه وقادته وجنوده.
وعندما دخل العثمانيون إلى القسطنطينية بعد فتحها تحولت كنيسة آيا صوفيا لجامع، وبقيت رسومها كما هي حتى الآن، لكنّ كنيسة شورا التي تقلّ عن آيا صوفيا في المكانة والرمزية الدينية إلا أنها توازيها من الناحية الفنية والثقافية، قد تحوّلت إلى جامع بعد حوالي 50 عاماً من فتح القسطنطينية.
قصة تحويلها إلى جامع كاريا
لكن قصّة تحويل كنيسة شورا إلى جامع كاريا ليست متاحة التفاصيل كقصة تحويل آيا صوفيا إلى جامع، إذ إن كل ما يذكر عنها -وفق المصادر المتاحة- أن عتيق علي باشا، الصدر الأعظم في عهد السلطان بايزيد الثاني، ابن محمد الفاتح، قد أمر بتحويل الكنيسة إلى مسجد عام 1511 وأصبحت بذلك وقفاً سلطانياً.
وقد غطيت الفسيفساء البيزنطية المسيحيّة بالجبس على عادة العثمانيين في التعامل مع الآثار والرموز الدينية الأخرى، فتحويلها إلى جامع لا يعني تخريب آثارها الفنية والثقافيّة، فحوِّلت إلى جامع دون طمس الفسيفساء الجدارية التي تغطي جدران وأسقف الكنيسة جميعها.
وحين تدخل هذه الكنيسة-المسجد-المتحف- ثمّ المسجد مرةً أخرى، فستتعجّب من جمال فسيفساءات الجدران المسيحيّة، وحين تسير في صحن الكنيسة سيفاجئك المحراب العثماني الذي يؤم فيه الإمام المصلِّين.
هذا المزيج المختلف والذي ربما لن تجده في دولٍ كثيرة من العالم، جعل البعض يعتبرها نقطةً سلبية في تاريخ العثمانيين المسلمين. خصوصاً أن اليونان – العدو اللدود لتركيا – قد أدانت القرار الرئاسي، كما أدانت منذ شهر تحويل آيا صوفيا لجامع وقرعت أجراس كنائسها في الوقت الذي كان يصلي فيه المسلمون أول صلاة جمعة في آيا صوفيا بعد إعادته لمسجد.
بينما يعتبر الخطاب الرسمي التركي هذه المواقف دليلاً على تنوُّع الثقافات داخل تركيا وتقبُّل تركيا للاختلاف والتنوُّع، فلديها العديد من الكنائس والمعابد اليهودية والآثار الأخرى القديمة التي لم تحولها أو تغير فيها شيء، والمتاحف التي تعيدها لمساجد مرة أخرى تحافظ على كل محتوياتها وآثارها الفنية والثقافية.
وقد أكد المتحدث باسم الخارجية التركية أن "تغيير وضع موقع تراثي عالمي، لا يشكل انتهاكاً لاتفاقية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، المتعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي".
وكان هذا المسجد قد حوِّل لمتحف ومستودع عام 1945 وفتح متحفاً أمام الجمهور منذ عام 1958، ضمن مجموعة تحويلات مساجد إلى متاحف، مثلما تمّ تحويل آيا صوفيا لمتحف عام 1934، ويعتبر الكثيرون أنّ هذه الخطوات السابقة التي حوّلت المساجد كانت محاولة للقطيعة مع التاريخ العثماني، بينما تعود تركيا الآن للتصالح مع تاريخها.
الجدير بالذكر أنّ هذا ليس المتحف الثاني الذي يتحوّل إلى مسجد بعد إغلاقه في وقتٍ سابق، فقد أعيد فتح العديد من المساجد التي تحولت إلى متاحف سابقاً مثل مباني آيا صوفيا في إزنيق ونيقيا وطرابزون، وغيرها من المساجد. وغير معلوم متى سيفتح للصلاة مرة أخرى، إلا أنّ القرار الرئاسي حوله من وزارة الثقافة إلى هيئة الشؤون الدينية للتعامل مع القرار وتحويله لمسجد في الوقت المناسب.