هناك مثلٌ شهير في المجر يستخدمونه للتدليل على الكوارث الكبرى، فيقولون "أسوأ من هزيمتنا في موهاكس". كما أنّ النشيد الوطني المجري الذي وضع في القرن 19 ذكرت فيه تركيا عدّة مرات، إذ إنّ ما حصل في معركة موهاكس كان كارثة تاريخيّة لبلاد المجر وجيشها القويّ الممتدّ عبر 637 عاماً من الحروب والانتصارات.
فما الذي حدث في معركة موهاكس التي جعلت المجر تحت سيطرة سليمان القانوني والسيطرة العثمانية طيلة حوالي 4 قرون.
قبل معركة موهاكس.. السلطان سليمان القانوني يتوجّه نحو الشمال
كان عمر السلطان سليمان القانوني عام 1520 عندما تولّى السلطنة 26 عاماً فقط، ويبدو أنّ عمره الصغير هذا جعل ملوك أوروبا يستخفُّون به، فكانت البداية مع ملك المجر الذي قتل سفير السلطان العثماني عندما جاءه يخبره بتوليه الحكم، ويجدد معه الاتفاق السابق، ويطالبه بدفع الجزية المفروضة عليه للدولة العثمانية.
ويبدو أنّ ملك المجر لويس كان يستخف بالسلطان الشاب، إضافةً إلى اعتماده على تحالفه القويّ مع إمبراطور إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة في ذلك الوقت شارلكان (كارلوس الخامس). لكنّ هذا لم يفده بشيء، فقد حاربه السلطان الشاب بنفسه وهزمه هزيمةً منكرة وفتح بلغراد وضمّها للدولة العثمانية.
كانت هذه أولى تحرُّكات السلطان الشاب نحو أوروبا، لكنّه تقهقر أو تريَّثَ قليلاً قبل أن يكمل رحلته في أوروبا التي ستصل به بعد عدّة سنوات إلى أسوار فيينا.
عاد السلطان سليمان القانوني إلى الخلف قليلاً، ووجّه أنظاره ناحية جزيرة رودس، وقد كانت مقرّاً للقرصنة المسيحية في البحر المتوسّط، إضافةً إلى كونها قريبة جداً من سواحل الأناضول، ما يجعل استغلالها سهلاً على أيّ قوى مسيحية غازية ضد الدولة العثمانية.
أرسل السلطان رسوله إلى رئيس فرسان القديس يوحنا، يدعوه لتسليم الجزيرة دون قيدٍ أو شرط، وإتاحة الفرصة لمن أراد الرحيل عنها دون ضرر، لكنّه رفض، وبهذا تحرّك جيش السلطان البريّ والبحريّ، ومع الحصار الشديد استسلمت حامية الجزيرة، وفتحها السلطان بعدما أمّن أهلها، وأصبح ظهره آمناً ليتحرّك كما يحبّ في الشمال والوسط الأوروبي.
أسوأ من هزيمة موهاكس
كانت أوروبا في تلك الفترة منقسمة بعض الشيء، لكنّها قويّة أيضاً. فمن ناحية كان الإمبراطور شارلكان بدولته المترامية الأطراف الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تشمل كلاً من: إسبانيا وإيطاليا وأجزاء من ألمانيا والنمسا وهولندا وبلجيكا وسويسرا ولوكسمبورغ وبعض مناطق فرنسا.
وكان المنافس الأوّل لشارلكان هو فرانسوا الأول ملك فرنسا، الذي فشل في الفوز بقيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعدما هزمه شارلكان في معركة بافيا وأخذه أسيراً لعدّة شهور. فبدأ فرانسوا هذا تحالفاً قوياً مع السلطان سليمان القانوني، ليضرب به منافسه الذي هزمه الإمبراطور شارلكان.
وإضافةً إلى المناطق التي يسيطر عليها شارلكان في أوروبا فقد زوّج أخته من ملك المجر لويس الثاني، كما زوّج أخاه فرديناند من أخت لويس أيضاً، ولم يكن للويس هذا أبناء يرثون الملك، فأراد شارلكان بهذا الزواج أن يعطي لأخيه فرديناند حكم المجر بعد وفاة لويس الثاني.
كانت هزيمة بلغراد للجيش المجري هزيمةً مؤقتة، وتأجّل الصراع الضخم الذي حصل في موهاكس 5 سنوات. فمنذ فتحت بلغراد عام 1521 وحتّى معركة موهاكس 1526 كانت الإمبراطوريتان تتجهّزان للقاء الحاسم.
وإضافةً إلى الجيش المجري القويّ المعروف بفرسانه الأشدّاء، فقد انضمّت إليه كذلك مملكة بوهيميا (التشيك) وكرواتيا وبولندا، وقوّات من الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، إلّا أنّ شارلكان لم يحضر بنفسه المعركة لمشاكل تتعلّق بالعرش في أوروبا.
سار الجيش العثماني من إسطنبول إلى المجر، وسيطر في طريقه على عدّة قلاع ومدن إلى أن وصل إلى وادي موهاكس في المجر. وكانت خطّة الجيش العثماني الذكية وصمود الجند الانكشاريّة هو الحلّ السحري الذي قضى على قوة الجيش المجري وفرسانه الأشدّاء في ساعةٍ ونصف الساعة فقط!
بدأ الاصطدام العسكريّ المباشر بين قوّات الانكشارية العثمانية (قوات النخبة) وبين قوّات الفرسان المدرّعين المجريين، صمد الانكشاريون طيلة ساعة، وفي اللحظة المناسبة، عندما وصلتهم الإشارة بدأوا الانسحاب التكتيكي، فظنّ المجريون أنّهم يحققون نصراً هائلاً على العثمانيين، انفتح الجيش العثماني كدفتي كتاب، وفي اللحظة المناسبة أصبحت القوات المجرية وجهاً لوجه مع المدافع العثمانية الثقيلة.
يقال إنّ العثمانيين دخلوا هذه المعركة بـ350 مدفعاً ضخماً، مقارنةً بـ65 مدفعاً مجرياً. وقد حصدت المدافع والرماة العثمانيون أرواح الفرسان المجريين الأشدّاء بسهولةٍ ويسر، ويقال إنّ الكثير من القادة حاولوا الاستسلام، لكنّ القرار السلطانيّ كان حاسماً: لا نريد أسرى، قاتلوا أو موتوا. ويقال إنّ الجنود العثمانيين كانوا يناولون مَن يريد الاستسلام من الأوروبيين سلاحه ليقاتل لأنّه لن يؤسر.
انتهت المعركة خلال ساعة ونصف الساعة تقريباً، بعدما قُتل ملك المجر لويس الثاني، ومعه مجموعة من قادته الكبار والأساقفة. وكانت معركة موهاكس مقدّمة لدخول السلطان سليمان القانوني العاصمة المجرية بودابست وإخضاعها له.
وقد عيّن السلطان زابوليا ملكاً على المجر بشرط تأدية الجزية، وعاد الجيش العثمانيّ إلى إسطنبول بعدما هزم المجريين وقضى على دولتهم وجيشهم، وأصبحوا دولةً تابعةً لسلطان المسلمين.
وخلال أربعة قرون تقاسم النمساويون من الغرب والعثمانيون من الشرق النفوذ على المجر. فبعد فترة انقلب فرديناند (أخو شارلكان) على زابوليا، واستطاع السيطرة على العرش، فطلب هذا دعم السلطان، فدعمه وهزم فرديناند، وأقر زابوليا على العرش بالتبعية الاسمية للدولة العثمانية.
وبقيت معركة موهاكس في الوجدان المجري هزيمةً نكراء تعيش معهم حتّى الآن.