كانت سلطنة عُمان تمتلك في وقت من الأوقات واحداً من أقوى الأساطيل البحرية المهيمنة في منطقة الخليج العربي وسواحل شرق إفريقيا، والمثير في الأمر أن سلطنة عمان قد استمدت قوتها بعد أن استطاعت هزيمة وطرد المحتل البرتغالي عن بلادها.
فقد خاض العمانيون سلسلة معارك مع البرتغاليين بدأت من مسقط عام 1649 إلى أن استطاعوا الانتصار والتحرر عام 1650، بعد احتلال دام طويلاً، ومنذ ذلك الوقت دخلت عُمان في عصرٍ جديد من القوة والازدهار والصراع على النفوذ مع البرتغاليين، بل إنّ بعض المناطق في سواحل شرق إفريقيا لا زالت تحتفظ بمعمار عماني.
دخول الإسلام شرق إفريقيا بدأ من سلطنة عمان
بدأ التواجد العُماني العربي في شرق إفريقيا وتحديداً في جزر زنجبار وممباسا بعدما هاجرت مجموعة كبيرة من العُمانيين بقيادة الأخوان سليمان وسعيد آل الجلندى الذين كانوا يحكمون عُمان في ذلك الوقت.
وقد سافروا إلى الساحل الإفريقي في عهد الدولة الأموية في بداية القرن الثامن الميلادي، خوفاً من اشتباكهم مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أرسله الخليفة عبد الملك بن مروان لضم سلطنة عُمان إلى الدولة الأموية، وذلك وفقاً لكتاب " الموجز في تاريخ سلطنة عمان القديم والحديث" للمؤلفة شيرين إسماعيل.
وبتلك الهجرة دخل الإسلام إلى زنجبار، وهي مجموعة جزر واقعة بالمحيط الهندي تابعة لتنزانيا حالياً، وتقع ممباسا في كينيا اليوم وتطل على المحيط الهندي.
وقد تَلَت تلك الهجرة عدة هجرات عربية إلى شرق إفريقيا، وأصبحت العلاقات وثيقة بين العُمانيين العرب وبين السكان الأصليين لتلك المناطق، الذين عملوا على تنشيط الحركة التجارية البحرية في موانئ زنجبار وممباسا.
أصبحت ممباسا في ذلك الوقت، بسبب الترابط العربي الإفريقي، أحد أهم المدن في الساحل الشرقي لإفريقيا، ومركزاً مهماً لتجارة التوابل والفواكه والذهب والعاج، وكانت التجارة ترتبط مع الهند والصين. وقد زارها الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة عام 1331، وقال عنها:
"وصلنا جزيرة منبسي "مومباسا، وهي جزيرة كبيرة بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر، ولا بر لها، وأشجارها الموز والليمون والأترج. وأكثر طعامهم الموز والسمك. وهم شافعية المذهب، وأهل دين وعفاف وصلاح. ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان".
البرتغال تحتل عُمان وشرق إفريقيا
بدأ التواجد البرتغالي في إفريقيا بشكل عام في القرن الخامس عشر ميلادياً، أما في منطقة شرق إفريقيا وعمان تحديداً فحدث في نهاية ذلك القرن، وذلك في عهد حركة الاستكشافات البرتغالية عن الطرق البحرية في العالم، فقد اكتشف البرتغالي بارثولوميو دياز طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا عام 1488، ولحقه البرتغالي فاسكو دي غاما، الذي اكتشف سواحل شرق إفريقيا وزنجبار ومدينة ممباسا عام 1498.
وبطبيعة الحال لم تكن هذه الزيارة البرتغالية بغرض الاستكشاف وحسب، وإنما كانت تحمل وراءها مطامع استعمارية للسيطرة على الطريق التجاري في هذه المنطقة، والاستيلاء على خيرات أراضيها، فقد كان وصول البرتغاليين إلى المنطقة، نقطة تحوّل في تاريخ المحيط الهندي وكذلك الخليج العربي، حيث وقعت بعض دول تلك المنطقة في الاحتلال البرتغالي العنيف، ومنها عُمان، لفترة طويلة من الزمن.
ففي عام 1505، نجح الأسطول البحري البرتغالي بقيادة فرانسيسكو دي ألميدا، الذي تم تعيينه حاكماً ونائباً للملك في دولة الهند البرتغالية، بعملية الإنزال في سواحل زنجبار وممباسا، فنهبوها وأحرقوا منازل السكان فيها، وقاموا بتدمير السفن الراسية في مرافئها، بحسب كتاب "البرتغال فى إفريقية" لجيمس دفى.
وبعد أن بسط البرتغاليون سيطرتهم على ساحل شرق إفريقيا، صوّبوا أعينَهم تجاه عُمان، الذين كانوا يعتبرونها المنافس التجاري لهم في الشق الآسيوي من المحيط الهندي، فأرسل ملك البرتغال حملةً بحرية بقيادة ألفونسو دي ألبوكيرك عام 1507 إلى جزيرة سقطرى اليمنية في المحيط، ثم نفذت البرتغال هجوماً مباغتاً على السفن العُمانية عام 1508، واحتلوا قلعة قلهات وقريات، ومسقط، وخورفكان، وصحار.
ثم احتل ألبوكيرك مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يفصل بين مياه الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب والمحيط الهندي، وأسّس فيها أول قلعة برتغالية في الخليج، واستمرت السيطرة البرتغالية على السواحل العمانية وسواحل شرق إفريقيا لأكثر من 100 عام، حاول خلالها العثمانيون طرد البرتغاليين من هذه المنطقة، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك أيضاً.
فقد طلب أهالي عُمان وممباسا النجدة من والي الدولة العثمانية في اليمن سنان باشا، في زمن السلطان مراد الثالث، فأرسل الوالي حملة بحرية بقيادة الباي أمير علي بك عام 1585، فحاصر مسقط ودخلها، ثم سار فهاجم المراكز البرتغالية في شرق إفريقيا وأبرزها ممباسا.
إلا أن حملته فشلت بسبب عدة عوامل، أولها خيانة أحد القبائل الإفريقية له (المعروفة باسم بازمبا)، وثانيها وصول الدعم للبرتغاليين عبر مضيق هرمز، ويُخبرنا محمود شاكر في كتابه "التاريخ الإسلامي-العهد العثماني"، أنه تم أسر علي بك واقتيد إلى لشبونة حيث قُتل عام 1586.
بعدما كاد العثمانيون أن يحرروا الساحل الإفريقي من البرتغاليين، فكَّر البرتغاليون بضرورة تقوية وجودهم العسكري في تلك المنطقة، وإنشاء حامية عسكرية لهم في ذلك المكان، فأنشأوا حصناً لهم أسموه ( قلعة المسيح)، فقد بُني على شكل صليب، وكان الهدف منه هو السيطرة على التجارة والملاحة في المحيط الهندي وهو الذي عُرف فيما بعد بقلعة ممباسا، عام 1593.
صراع التحرُّر والنفوذ.. سلطنة عمان تهزم البرتغال
بدأ الصراع الحقيقي على النفوذ في المنطقة بين البرتغال وعُمان، بعدما بدأ العُمانيون خطواتهم نحو التحرر عام 1649 تحت قيادة الإمام العُماني ناصر بن مرشد اليعربي، مؤسس دولة اليعاربة، الذي بدأ يكون جيشه و أسطوله البحري، مستغلاً انشغالات البرتغال في حروبها البحرية مع هولندا وإنجلترا وفرنسا.
كانت خطة الإمام في تنفيذ هجماته المباغتة على المواقع الساحلية، مثل صحار، وصور، لتحريرها، إلا أنه مات قبل مرحلة التنفيذ، ولكن تبعه الإمام السلطان الأول بن سيف، ثاني أئمة دولة اليعاربة، الذي استكمل الخطة العسكرية.
مع نهاية عام 1649، تمكن الجيش العماني من اقتحام الأبواب والدخول إلى المدينة، وفرض حصار مشدد على الحامية البرتغالية، وانتصر في النهاية على البرتغاليين وطردهم من مسقط، ومدن عُمانية أخرى بعد سلسلة معارك حقق فيها نجاحات عسكرية باهرة، حتى استطاع تحرير عُمان عام 1650.
حاول البرتغاليون استعادة مسقط مرة أخرى عام 1650، فقام نائب الملك البرتغالي، دوم فيليب بإرسال سبع سفن برتغالية لاستعادة مسقط، لكنّ الأسطول العماني قصفهم بالقرب من القطيف في السعودية حالياً، وانهزم البرتغاليون في هذه المعركة مرة أخرى.
وفي عام 1652م، شنّ الأسطول البرتغالي هجوماً آخر على مسقط بقيادة القائد العسكري أنطونيو سوسا كوتنهو، واستطاعوا الاستيلاء على ولاية خصب العُمانية، لكنّ العمانيين استطاعوا مهاجمتهم وإخراجهم منها، وطردهم نهائياً من عُمان.
ولم يكتفِ السلطان العُماني بطرد البرتغاليين من البلاد فقط، بل ظلّ يطاردهم وأرسل أساطيل هاجمت القواعد البرتغالية في سواحل الهند وإفريقيا، ومنذ عام التحرير حتى نهاية القرن السابع عشر، بدأت سلطنة عمان بتشكيل أسطولها البحري العسكري الضخم، بالاعتماد على الأسطول البرتغالي الذي سيطروا عليه وتطويره، ليتكوّن لهم نفوذ كبير على المحيط الهندي، وليستطيعوا إنهاء الوجود البرتغالي من المنطقة بشكلٍ تام، خصوصاً من الساحل الإفريقي، القريب من ساحل سلطنة عمان نسبياً.
وفي عام 1660، شنّ الأسطول العُماني حملات ضد البرتغاليين في مدينة فازا وباتا الإفريقتين، في غينيا الأستوائية حالياً، وسيطر على كل الساحل الإفريقي ما عدا قلعة يسوع وممباسا وزنجبار، كما هاجم العُمانيون القوات البرتغالية في الهند، في مومباي عبر المحيط الهندي عام 1661 و1662، استطاعوا من خلالها إحداث أضرار جسيمة في الأسطول البرتغالي.
انضمام شواطئ ومدن إفريقية للدولة العمانية
بعد خسارتهم عُمان حاول البرتغاليون أن يحافظوا على سيطرتهم على بعض سواحل شرق إفريقيا بالحديد والنار لقمع أي محاولة تحرر في هذه المناطق، إلا أنهم كانوا على موعد مع الأسطول العُماني الفتي الذي وجّه أنظاره للسيطرة على الساحل الإفريقي.
وكانت اللحظة الحاسمة بالنسبة للعُمانيين في عام 1694، بعدما استنجد أهالي ممباسا وزنجبار بالسلطان العُماني لنجدتهم من البرتغاليين الذين ارتكبوا مجازر ضد السكان المحليين، لقمع حركة التمرد التي قام بها حاكم ممباسا السلطان حسن.
فلبّى الإمام العُماني سلطان بن سيف اليعربي النداء، وتوجه بجيشه وأسطوله إلى سواحل شرق إفريقيا، ونجح في عام 1696م بتدمير الحاميات البرتغالية الموجودة في بمبا التابعة لزنجبار، ثم توجه إلى قلعة ممباسا، وحاصرها وسيطر عليها وحررها من البرتغاليين وعين عليها والياً عُمانياً هو الشيخ ناصر بن عبدالله المزروعي.
ولكن ما أن حرر العُمانيون ممباسا وزنجبار حتى حدثت صراعات داخلية بين القيادات في ممباسا، وانقلب مجموعة من الضباط على الشيخ ناصر، وعين شخص يدعى سيس رومبي، والياً عليها، الأمر الذي مكَن البرتغاليون من استعادتها تحت سيطرتهم من جديد.
وما أن علم سلطان عُمان بذلك حتى أرسل أسطوله مرة أخرى وحاصر قلعة ممباسا حصاراً طويلاً ومحكماً لأكثر من عامين، منذ عام 1696 إلى عام 1698، وتمكن من هزيمة البرتغاليين الذين أنهكهم الحصار والمرض، وطردهم من ممباسا بعد استسلامهم.
وكذلك من المدن والجزر على الساحل الشرقي لإفريقيا بشكل كامل، وعين محمد بن سعيد المعمري والياً على ممباسا، وهكذا امتدت السيادة العمانية في شرق إفريقيا من رأس دلجادو جنوباً حتى مقديشو شمالاً، وأنهوا الاحتلال البرتغالي الذي دام أكثر من قرنين في هذه البلاد، لتبدأ حقبة السيطرة العربية العُمانية هناك.
أصبحت زنجبار وممباسا تحت حكم سلطنة عُمان رسمياً عام 1698، لتعزز بعدها حركات التجارة المتبادلة بين الخليج العربي وإيران والهند وجزر زنجبار، التي كانت تعرف حينها بساحل "الزنج"، وقد ازدهرت زنجبار تحت حكم العُمانين، خصوصاً في زمن الدولة البوسعيدية عام 1744.
وقد اتسعت رقعة الحكم العربي العُماني لعدة مدن في في الداخل الإفريقي وصلت حتى مقديشو (عاصمة الصومال حالياً)، وامتدت لجزر أخرى مثل مدغشقر، وفي عام 1828 جعل السلطان سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي من زنجبار عاصمة لسلطنته.
واستمر الحكم العربي العماني لزنجبار عقوداً طويلة من الزمن، حتى أواخر القرن الثامن عشر وبالتحديد سنة 1891م حيث بدأت الوصاية البريطانية على زنجبار، لمدة 70 عاماً، التي استغلت الانقسامات الداخلية بين أفراد الأسرة الحاكمة العُمانية.
وقد منحت بريطانيا الاستقلال لزنجبار في ديسمبر/كانون الأول عام 1963 وصارت سلطنة ملكية دستورية تحت حكم السلطان جمشيد بن عبد الله، آخر حاكم عُماني في زنجبار، والذي أطيح به بعدها بشهر خلال ثورة زنجبار، وقد هرب جمشيد إلى المنفى واستبدلت السلطنة بما سمي جمهورية زنجبار وبمبا.
وفي أبريل/نيسان 1964 اتحدت تلك الجمهورية مع تنزانيا مكونة جمهورية تنزانيا وزنجبار المتحدة والتي استبدل الاسم بعدها بستة أشهر إلى تنزانيا.
أما ممباسا، فقد سيطر عليها البريطانيون عام 1875 وأعلنوا وضعها تحت حماية امبراطوريتهم، ثم تنازل حاكم زنجبار عن منطقة الساحل التي تعتبر مومباسا عاصمتها للبريطانيين، لكنه اشترط مقابل تخليه عنها التزام حكومة بريطانيا بالمحافظة على حرية التدين والعبادة للجميع وخاصة المسلمين، والاحتفاظ بسلطة المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين في قضايا الأحوال الشخصية، وتعيين الإداريين المسلمين في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وتعليم أولاد المسلمين اللغة العربية ودعم المدارس الإسلامية.
وقد أصبحت ممباسا عاصمة المحمية الساحلية لكينيا عام 1920، وفي عام 1963 أصبحت جزءاً من دولة كينيا المستقلة عندما استقلت عن الإنجليز عام 1963، بشرط الاحتفاظ بخصوصية المسلمين وفقا الاتفاقية التي أبرمها البريطانيون مع سلطان زنجبار.
آثار سلطنة عمان في شرق إفريقيا
ترك العمانيون العديد من الآثار العمرانية في شرق إفريقيا، التي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا، وقد تركزت في زنجبار، حيث كانت العاصمة للممتلكات العُمانية في شرق إفريقيا من خلال ما تبقى من المنازل ذات الطوابق والحدائق، فضلاً عن احتواء زنجبار لحوالي 300 مسجد.
ومن الآثار الباقية حتى الآن القصور التي شيدها السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي في زنجبار منذ عام 1806، منها قصر بيت الساحل، وقصر المتوني، الذي يُعد أقدم وأكبر القصور في زنجبار في ذلك الوقت، بالإضافة للقصور التي كان يُشيهدها السلاطين لزوجاتهم وأبنائهم، مثل بيت الواتورو والبيت الثاني وبيت الرأس الذي كان يبعد مسافة خمسة أميال عن مدينة زنجبار.
ويوجد قصر السلطان برغش الفاخر، الذي بنى هذا على أعمدة ضخمة من الحديد تدور به الشرف من جهاته الأربع وزينه بكتابة القرآن الكريم بماء الذهب، وفي منتصف الساحل الغربي لجزيرة زنجبار توجد مدينة زنجبار التي هندسها المهندسون العمانيون على شكل مثلث، وما زالت تحتوي على بعض المباني ذات الأحجار الكبيرة البيضاء ذات الطابع الإسلامي العربي.
كما أنه هناك آثار مباني ومساجد عمانية في مدن كلوا التنزانية وممباسا وموزمبيق، فضلاً عن وضع العمانيين للمستهم الإسلامية في قلعة مومباسا التي زودوها بعدة أعمدة خشبية تحمل نقوشاً لآيات قرآنية، وقاموا بزخرفة أبوابها وجدرانها بالزخرفة العربية.