فشلت الحروب الصليبية إلا أن فكرتها لم تمت أبداً لدى الفرنسيين.. عن التقاليد الفرنسية الصليبية

عدد القراءات
8,733
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/24 الساعة 09:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/24 الساعة 09:10 بتوقيت غرينتش

الرؤية الفرنسية للإسلام لم تكد تتغير تغيراً جذرياً منذ أربعة عشر قرناً. فما زالت الأفكار التشنيعية الكارهة منذ صدام "بلاط الشهداء" وحتى الآن، حية وفاعلة ومؤثرة في تلك الرؤية.

لاحظ مثلاً أن فكرة الحروب الصليبية ضد المشرق الإسلامي ظهرت في فرنسا (مجمع كليرمون) على يد بابا فرنسي (أوربان الثاني). ولعبت فرنسا الدور الأكبر في هذه الحروب. وكان العرب يعرفون هذا ولذا أطلقوا عليها اسم "حروب الفرنجة"، أما اسم "الحروب الصليبية" فهو اسم أوربي غربي بالأساس ولا يعني لديهم أي معنى سلبي كما قد نظن.

ورأيي أن أكبر ممثل لفرنسية الفكرة الصليبية هو الملك الفرنسي لويس التاسع الذي يعتبر  الصليبي النموذجي بلا منازع، وقد تجلى ذلك في حملتيه الصليبيتين (السابعة والثامنة). فرغم أن الحملات الست السابقة أضرت بسمعة الكنيسة وبفكرة الحروب الصليبية في الغرب، ودلت على أنها في جملتها لم تعد صليبية ولا دينية ولكن استعمارية بحتة، إلا أن لويس التاسع لم يتأثر بذلك وظلت المشاعر الصليبية لديه حارة ملتهبة لذا تحمس للقيام بحملات صليبية جديدة ورآها نوعاً من العبادة!

وفي عام 1248 قرر أن يقود حملة صليبية (فرنسية بالأساس) للقضاء على مصر "قوة المسلمين العظمى" كما اسماها. وكانت استراتيجية الحروب الصليبية قد تغيرت منذ الحملة الثالثة، حيث أصبحت الاستراتيجية الجديدة هي أنه إذا تم الاستيلاء على مصر، فإنه يمكن وبسهولة تأمين السيطرة على الأراضي المقدسة أي فلسطين أو الشرق اللاتيني كما كان يسميه لويس التاسع أيضاً.

والطريف أنه لم يجهز حملته بما تحتاجه من عتاد ومؤن فقط وإنما ببذور للزرع وأدوات للفلاحة لأنه كان ناوياً أن يستقر حتى يزرع ويحصد.

وفي 6 يونيو/حزيران 1249 تمكن لويس التاسع من احتلال دمياط بعد أن وجدها خاوية خالية. ثم اخترق الدلتا بمحاذاة فرع دمياط حتى توقف قرب المنصورة حيث كانت القوات المصرية تتمركز بانتظاره. وهنا بدأت قوات لويس تتعرض للخسائر الجسيمة.

وعندما جاء شهر مارس/آذار سنة 1250 كان لويس وقواته محاصرين بالكامل، حيث قطعت عنهم الإمدادات وانتشرت الأوبئة بينهم بسبب تخلفهم الطبي بالطبع. ولما حيل بين لويس التاسع والزحف تجاه القاهرة حاول العودة إلى دمياط فمنع من ذلك أيضاً.

وفي نهاية أبريل/نيسان وقع لويس التاسع في الأسر مع من بقي من جيشه قرب مدينة فارسكور أي أنه مرت على هذا الأسر 770 سنة بالتمام والكمال وهو أمر ما زال يحتفل به الناس وإن بشكل فلكلوري.

وفي السادس من مايو/أيار عام 1250 تم الإفراج عنه مقابل فدية ضخمة والتعهد بعدم مهاجمة بلاد المسلمين مرة أخرى. وبعد الإفراج عنه ذهب إلى (عكا) التي كانت ما تزال تحت حكم الصليبيين فرمم حصونها ثم عاد إلى فرنسا في أبريل/نيسان سنة 1254.

وبعد 15 سنة عاد لويس التاسع في حملة صليبية جديدة (الحملة الثامنة سنة 1270) ولكن هذه المرة على ‏تونس لا مصر، ففكرة احتلال تونس فكرة فرنسية صليبية كما ترى. وفي تونس وجد لويس التاسع نفسه أمام قوات الحفصيين التي يخشى بأسها. وبعد أسابيع قليلة انتشر التيفوس في جيشه وأصيب هو به ومات، وقيل أنه عند موته كان يتمتم قائلاً: "آه يا قدس.. آه يا قدس".

ورغم فشل الحروب الصليبية إلا أن فكرتها لم تمت لدى الفرنسيين، فبعد مرور خمسة قرون نجدهم يعودون سنة 1798 للمشرق الإسلامي بقيادة نابليون الذي جاء ليحقق ما عجز عنه لويس التاسع!

البعض يدعي أن نابليون غير الأيديولوجية الصليبية بأيديولوجية جديدة لنشر القيم الكونية للحضارة. طبعاً ترديد مثل هذا الرأي من قبل الفرنسيين طبيعي لأنهم مخترعوه لتبرير الاستعمار، ولكن ترديده من قبل المجني عليهم هو غباء منعدم النظير لأنهم يتبنون رؤية نابليون وهذا نجاح فكري كبير لحملته ولا ريب.

لكن لاحظ أن ما حدث من حملة نابليون هو بالضبط ما خطط له الصليبي النموذجي لويس التاسع من قبل وفشل في تحقيقه: (السيطرة على مصر ضروري للسيطرة على فلسطين). ولذلك بعد أن احتل نابليون مصر قام بالخطوة التالية في خطة لويس التاسع وهي التوجه لاحتلال فلسطين وبدأ بالطبع بـ (عكا) مثل لويس التاسع بالضبط.

لكن الجديد لدى نابليون أنه خطط لاستخدام اليهود في السيطرة على الأراضي المقدسة، وربما كانت هذه هي الاستراتيجية الجديدة لنابليون، وهذه بالطبع فكرة لم تكن تخطر على ذهن الصليبي النموذجي لويس التاسع. ولنابليون رسالة شهيرة وجهها لليهود لهذا الغرض، وهي لا تختلف إطلاقاً عن (وعد بلفور)، هي فقط أطول وأكثر وضوحاً، ولكن اليهود لم يكونوا في وضع يسمح لهم بتنفيذ فكرة نابليون عن الدولة اليهودية في فلسطين التاريخية.

وهذه الرسالة تحديداً هي التي فضحت خطة نابليون الصليبية. أما موضوع التنوير والمطبعة وعلماء الحملة وكتاب "وصف مصر" وبقية الأوهام التي تعشش في ذهن النخبة الثقافية في مصر وخارجها فهي مجرد أدوات جديدة لإحكام السيطرة مثل المدافع بالضبط. ولا تنسوا أن الحملة أخذت المطبعة معها عندما انسحبت.

طبعاً كما نعرف فقد فشل نابليون أمام الجيش العثماني في (عكا)، وبعدها رجع خائباً إلى فرنسا بعد أن قامت إنجلترا بإفساد خطة الحملة في مصر. ولكن الفكرة الصليبية لم تمت هذه المرة أيضاً. فبعد فترة عاد الفرنسيون لتنفيذ آخر ما فشل فيه لويس التاسع أقصد حملته الصليبية الفاشلة على تونس، فاحتلوا الجزائر (سنة 1830)، ثم "احتلوا" تونس (سنة 1881).

وفي الجزائر ظهر الوجه القبيح للاحتلال الفرنسي، وأن الأمر لا يرتبط بتاتاً بنشر أي قيم كونية للحضارة كما قيل لنا، بل بمحاولة تحويل شعوب بأكملها إلى مسخ تابع ذليل! وهذا ما يحتاج لمقالات مطولة ولكن تكفينا الإشارة هنا.

وفي سنة 1916 وعندما كان الإنجليز يفاوضون الفرنسيين حول تقسيم التركة العثمانية (اتفاقية سايكس – بيكو) كان المفاوض الفرنسي يصر على الحصول على فلسطين بينما المفاوض الإنجليزي يرفض، لأن إنجلترا تريد مد خط للبترول من العراق إلى المتوسط عبر فلسطين ولذا فهي تحتاج لفلسطين بشكل عملي نفعي. وأمام تصميم المفاوض الفرنسي سأله الإنجليزي: لماذا تريدون فلسطين تحديداً؟ فأجاب الفرنسي: "لاستعادة القبر المقدس"! وهذا تحديداً هو لب الفكرة الصليبية الذي لم يتغير قط رغم مرور كل تلك العصور.

وقد أثبتنا في مقال سابق أن الجنرال الفرنسي غورو (Gouraud) ذهب قبل مئة عام بالضبط، لضريح صلاح الدين وقال مفتخراً أو مكايداً: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". وذلك رداً على مقولة تنسب لصلاح الدين يقال إنه قال للصليبيين حينما كانوا يخرجون من القدس "لن تعودوا إلى هنا أبداً". فالرجل يعرف تاريخ أسلافه مع صلاح الدين وقد جهز جوابه من قبل. فالأمر منطقي ويتسق مع الرؤية أو التقاليد الصليبية الفرنسية التي كان غورو يعتنقها ويتصرف تبعاً لها.

وبالطبع أنا لا أريد أن أمنع الفرنسيين من أن يكونوا ما شاؤوا فهم لديهم شخصيتهم (الثقافية) التي يتحركون على أساسها، ولكن لا ينبغي أن نكون أقل من هذا فيما يخصنا. ولكن للأسف بعض منا لأسباب كثيرة لا يعرف تاريخه، ويجهل شخصيته الحضارية، ويتبنى الرؤية الفرنسية رغم أنها رؤية استعمارية معادية، ومنهم على سبيل المثال من يهاجمون صلاح الدين منذ فترة ويشوهون سيرته وكأنهم أحفاد لغورو وليس لصلاح الدين.

وقبل بضعة أيام عندما رأيت مسؤولاً تونسياً ينكر احتلال فرنسا لبلاده تذكرت أن بعض المثقفين المصريين كانوا يريدون قبل سنة 1998 (أيام فاروق حسني) الاحتفال بـ "200 سنة من العلاقات المصرية الفرنسية" وهذا يعني أنهم كانوا يريدون الاحتفال باحتلال نابليون لمصر سنة 1798. وقد وجدت الفكرة معارضة شديدة أفشلتها، ولو نجحت كانت ستكون المرة الأولى في التاريخ التي يحتفل فيها شعب ما باحتلاله! وظني أن التونسيين أبعد من هذا بكثير.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد