مع انتصار الموجة الأولى من الثورة الفرنسية الأولى التي انطلقت شرارتها عام 1789، قرر الثوّار اتخاذ قرارات "ثورية"، تعنى بتغيير كل ما يمت للملكيّة بصلة؛ في كلّ النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يبدو بعض هذه القرارات مضحكاً، مثل تغيير التقويم وطريقة احتساب الوقت، وفق تقويم الثورة الفرنسية.
فقد كان اليوم ينقسم لعشر ساعات والساعة لـ100 دقيقة، وفي هذا التقرير نتناول أبرز هذه التغييرات التي جاءت بها الثورة الفرنسية.
الثورة الفرنسية تضع مفاهيم جديدة للمواطنين
أدرك الثوار الفرنسيون منذ فجر الثورة التي أطلقوها مدى أهمية تنظيم هذه الثورة بشكلٍ إداريّ فأسسوا ما أسموه الجمعية الوطنية التأسيسية، المنبثقة عن الجمعية الوطنية الفرنسية في 9 يوليو/تموز 1789، أي بعد شهرين فقط من اندلاع الثورة، وقد تم حل هذه الجمعية في عام 1791 وخلفتها الجمعية التشريعية.
وقد أصدرت هذه الجمعية المدعومة شعبياً، خلال المرحلة الأولى من الثورة عدداً كبيراً من المراسيم والقوانين والقرارات الثورية في شتّى المجالات، ومثَّل ذلك بداية عصرٍ جديد لفرنسا، وللقارة الأوروبية من بعدها.
فقد جاءت الجمعية التأسيسية بمفاهيم جديدة مثل الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية والتعليم المجاني وتحديد سلطات الكنيسة، واعتماد اللغة الفرنسية لغةً رسمية للدولة بأكملها، مع مبدأ مجانية وإجبارية التعليم، مما أوجد لاحقاً عاملاً من عوامل الوحدة في البلاد.
وفي 4 أغسطس/آب 1789، اعتمدت الجمعية إعلان وثيقة حقوق الإنسان والمواطن (Déclaration des droits de l'homme et désitoyen)، وهو بيان للمبادئ الديمقراطية التي تستند إلى الأفكار الفلسفية والسياسية لمفكري التنوير مثل جان جاك روسو.
وأعلنت الوثيقة التزام الجمعية بالاستعاضة عن النظام القديم بنظامٍ قائم على تكافؤ الفرص وحرية التعبير والسيادة الشعبية وأن تمثل الحكومة الشعب.
وأقرت الجمعية المساواة المدنية بين الرجال من عامة الشعب، على الأقل في المدن الفرنسية الكبرى، إذ لم يشمل القرار الرجال المستعبدين في المستعمرات التابعة للحكم الفرنسي، وجعلت أكثر من نصف السكان الذكور البالغين مؤهلين للانتخاب، بل ويمكنهم الترشح للانتخابات وفق شروطٍ معينة.
وبطبيعة الحال، ألغت الجمعية نظام الإقطاع وامتيازات النبلاء ورجال الدين، وصادرت أملاك الكنيسة، وأدى قرار تأميم أراضي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في فرنسا لسداد الدين العام على الدولة، واتساع رقعة الأراضي التي امتلكتها الجمعية، لتقوم بتوزيعها على الفلاحين.
في ذلك الوقت، فتحت الجمعية المجال لتطوُّر النظام الرأسمالي، وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وحذف الحواجز الجمركية الداخلية، ولكن لم يستفد القرويُّون والفلاحون كثيراً من هذا النظام، بل تحولوا مع الوقت إلى عمالٍ زراعيين، والشيء ذاته حدث بالنسبة لسكان المدن الذين تحولوا إلى عمال صناعيين دون حقوق من تلك التي كانوا يتمنونها.
أما عن التقسيمات الإدارية داخل المدن الفرنسية، فقد عملت الجمعية التأسيسية الوطنية على تقسيم فرنسا إلى مقاطعات ومقاطعات وكانتونات وكوميونات تديرها جمعياتٍ منتخبة، مع ضرورة انتخاب قاضٍ في كل منطقة.
تقويم الثورة الفرنسية.. اليوم 10 ساعات
ومع كلّ تلك التغييرات، قدّمت الثورة الفرنسية تقويماً جديداً، يمكننا ببساطة أنّ نسمّيه تقويم الثورة الفرنسية، رغم غرابته الشديدة. وكان ذلك بهدف تحويل المجتمع عن المسيحية والملكية من خلال إنهاء التقويم الميلادي.
فقد قدّمت الحكومة الفرنسية عام 1793 تغييراً على كلّ نظام التقويم المتعارف عليه، كجزءٍ من برنامج الإصلاحات الجارية في أعقاب الثورة. ففرضوا نظاماً جديداً، كان الشهر فيه ينقسم إلى ثلاثة أسابيع فقط، وكلّ أسبوع عشرة أيّام، وانقسم اليوم إلى 10 ساعات، والساعة إلى 100 دقيقة، والدقيقة إلى 100 ثانية، وكانت الأيام الخمسة المتبقية من السنة هي عطلاتٍ وطنيةٍ خاصة.
عيّنت الحكومة لجنةً رفيعة المستوى من السياسيين والعلماء، لتطبيق هذه النظام واختيار أسماء الأشهر والأيام وطريقة احتسابها. فابتكر الشاعر والكاتب المسرحي فابر ديغلانتين، أسماء الأشهر والأيام الجديدة، وكان يعتمد في تسميته على الفواكه والخضراوات والحيوانات والطبيعة، لكي تخالف هذا الأسماء تقاليد الكنيسة التي كانت تطلق أسماء القديسين على الأيام، مثل: شهر حصاد العنب، شهر الضباب، شهر الصقيع، ويوم الكستناء، ويوم الحصان، وهكذا.
وقد أنشأ هذه التقويم في يوم 15 فنديميير (حصاد العنب) السنة الثانية للثورة، والموافق 6 أكتوبر/تشرين الأول 1793، واعتبر يوم إعلان الجمهورية (1 فنديميير) بداية لتأريخ السنة الأولى، الموافق 22 سبتمبر/أيلول 1792، واعتبروا أن هذا اليوم هو بمثابة بداية عصر الفرنسيين.
لكنّ هذا التقويم الغريب بعض الشيء لم يستمرّ طويلاً، فقد عُمل به فقط حوالي 12 عاماً، منذ 1793 وحتى 1805، عندما تخلّص منه نابليون بونابرت، ولكن تم إحياؤه مرة أخرى لفترةٍ وجيزة في ثورة 1848، وما زال.
كان برنامج تقويم الثورة الفرنسية أحد أقل القرارات نجاحاً في برنامج التغييرات التي أطلقتها الثورة. لكنّ تغيير النظام المتري "القياسي" كان أحد أهم وأنجح القرارات التي استمرت، حيث إنه أصبح النظام الرسمي المتّبع في معظم دول العالم، وذلك لأنه يؤثر على كل شيء من الهندسة إلى التجارة الدولية إلى النظم السياسية.
هل تعرف لماذا نستخدم وحدة قياس المتر والكيلو؟
قبل أن يحدد الفرنسيون نظام القياس كانت القياسات والأوزان تختلف من دولةٍ إلى أخرى، بل أيضاً من منطقةٍ لمنطقةٍ أخرى داخل نفس الدولة. وكان هناك ما لا يقلّ عن 25 ألف وحدة قياس عالمية، ولكن بعد تحديد الثورة الفرنسية هذا النظام، أصبحت أغلب دول العالم موحّدةً في وحدات القياس، وربما يعتبر ذلك أوّل مظاهر العولمة.
أوكلت الحكومة الفرنسية في عام 1792 إلى المفكرين الفرنسيين في ذلك العصر، مهمة الخروج بنظام قياسٍ جديد مبني على أسسٍ علمية. وبقيادة علماء الفلك جان باتيست جوزيف ديلامبري، وجان شارل دي بوردا، وجوزيف لويس لاغرانج، وبيار سيمون لابلاس، وغاسبارد مونجي، ونيكولاس دي كوندورسيت، عملت اللجنة.
بعد الدراسة والنقاش قدّم العلماء سلسلةً من التوصيات بشأن نظامٍ جديد من الأوزان والتدابير، وتوصّلوا إلى النظام المتري الجديد للقياس، الذي هو أساس المتر والكيلوغرام، وتم اعتماد اسم وحدة الكتلة المحددة الأصلية، "غرام" ، ثم أضافوا إليه "كيلو".
وبذلك أصبح الكيلوغرام هو الوحدة الأساسية الوحيدة المعتمد في "النظام الدولي للوحدات"، وهو نظام القياس الرسمي في كل بلدان العالم تقريباً، وأصبح النظام المتري، الذي أنشئ في فرنسا، هو النظام الرسمي للقياس لكل بلد في العالم باستثناء ثلاث دول فقط، هي: أمريكا وليبيريا وميانمار "بورما".
الاضطرابات في فترة حكم الجمهورية الفرنسية
عرفت الفترة التي تلت الموجة الأولى من الثورة الفرنسية، أحداثاً معقدة ودموية، فقد ظهرت صراعات سياسية بين مختلف التجمعات الليبرالية وأنصار الجناح اليميني الموالي للنظام الملكي الذين حاولوا إحباط الإصلاحات الرئيسية التي تدعو إليها الثورة.
وقد حاولت القوات الأوروبية المتحالفة، التي تشمل الجيش البروسي والنمساوي، استغلال هذه الصراعات لاحتواء الثورة، والقيام بثورةٍ مضادة وإنقاذ القارة الأوروبية ذات أنظمة الحكم الملكيّة من خطر "زحف الثورة الفرنسية" على ممالكها، من خلال إعلان الحرب على فرنسا وإنهاء حكم وحالة الثورة فيها.
فوقعت "معركة فالمي" قرب قرية فالمي الفرنسية في 20 سبتمبر/أيلول 1792، ونجحت القوات الفرنسية في الصمود وصدّ المهاجمين الذين انسحبوا. وتعتبر هذه المعركة فاصلةً في التاريخ الفرنسيّ، إذ إن هذا الانتصار أدّى إلى نجاة فرنسا، وثورتها وأفكارها، وإعلان قيام الجمهورية الفرنسية عام 1792 -وكانت أول حكومة جمهورية في أوروبا- وانتهت الملكية بإعدام لويس السادس عشر في يناير/كانون الثاني 1793.
اتسمت تلك الفترة من حكم الجمهورية، بالاضطراب والعنف وأحكام الإعدام الجماعي وغرابة الكثير من القرارات، وسميت تلك الفترة بـ "عهد الإرهاب" (5 سبتمبر/أيلول 1793 – 28 يوليو/تموز 1794).
ولعداوة تلك الثورة للملكيّة من جهة وللدين من جهة بسبب التحالف بين الملكية والمسيحيّة، فقد كانت الثورة تحارب الدين بعنف وتحارب كل من يخالف الرأي الثوري. وقد رأينا كيف أنّ عداءها للدين جعل الحكومة تفرض تقويماً جديداً لم يستمرّ العمل به سوى بضع سنوات.