مع موجة التعاطف العالمية هذه الأيام مع العرق الأسود، بعد الحادثة المأساوية لمقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد تحت ركبة شرطي أبيض، في مشهد يعيد شريطاً من ذكريات المعاناة التي يعيشها السود في أجزاء كثيرة من العالم لقرون إلى السطح، تطلّ علينا قضية الهوية الإفريقية وقضايا حقوق السود من جديد، مثلما ظلت تطل برأسها كلما حدثت حادثة مشابهة. وتكون الحادثة حافزاً وعامل ضغط لحصول السود على المزيد من حقوقهم المهضومة، وفي مقدمتها الحقوق الاقتصادية والقانونية، لتعيدنا إلى ستينيات القرن الماضي، وحركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ، ومالكوم إكس، وغيرهما من قادة المجتمع المدني في الولايات المتحدة.
وبالرغم من معاناة الكثيرين من كل الأجناس والألوان من الرِّق عبر التاريخ، حيث ظلَّ الرق تجارةً ومهنةً للكثيرين عقب الحروب التي يجلب فيها الطرف المنتصر المهزومين من أعدائه رجالاً ونساءً ليكونوا عبيداً وإماءً، يتم توزيعهم ضمن الغنائم لمقاتليه، ليقوم هؤلاء باستعباد البعض وبيع "الفائض عن الحاجة".
لكنَّ ذوي البشرة السمراء كانوا أكثر مَن عانى من العبودية، لأسباب متعلقة بكونهم كانوا دوماً الطرف الأضعف في حلقة الإمبراطوريات التي تحكّمت في النظام العالمي قديماً وحديثاً، ابتداءً من روما وفارس، ومروراً بالإمبراطورية البيزنطية، والخلافات الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية، تليها القوى الأوروبية، التي توسَّعت في إفريقيا وأمريكا الجنوبية. والجميع يعلم الدور الذي لعبه الرقيق الأفارقه الذين تم جلبهم في سفن عبر الأطلنطي إلى الأمريكتين، في تنمية القارتين في الزراعة والتنمية العمرانية، عن طريق أعمال السخرة التي برع فيها المستعمرون البيض من الإنجليز والإسبان والبرتغاليين والهولنديين وغيرهم. وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة "العزلة المجيدة" خلال القرن التاسع عشر.
هذا الاستغلال الاقتصادي للأفارقه كان مِن تبِعاته استغلال اجتماعي استمرّ حتى هذه اللحظة، عن طريق تصويرهم كعرق يقلّ عن بقية الأعراق من ناحية الذكاء والأهلية والكفاءة، بل نتجت عنه نظريات أصبحت مُسلَّماً بها وسط شريحة من البيض على وجه الخصوص، تعتقد أن العِرق الأسود أقل ذكاء من العرق الأبيض. وعلى هذا الأساس تم الترويج أخلاقياً قبل قرنين لنظرية الاستعمار الأوروبي لإفريقيا. حيث تم تصوير الأفارقه كجنس يحتاج للعرق الأبيض، ليقوده في طريق التقدم والتمدن والحضارة، وأن إفريقيا ليست لها حضارة، وإنما هي مجرد قبائل تعيش في عصور التخلف وحياة الغابة.
ونسِيَ هؤلاء أن أغنى شخص في التاريخ هو الملك مانسا موسى، حاكم مملكة مالينكي في القرن الرابع عشر، والتي تقع عاصمتها في جمهورية مالي الحالية، والذي ضمّت مملكته أجزاء واسعة من أراضي غرب إفريقيا الحالية. وقد شهدت في عهده طفرة عمرانية وثقافية تشهد عليها آثار تمبكتو الحالية. وكانت ثروته كبيرة لدرجة أن كمية الذهب التي قام بتوزيعها على هيئة هبات وعطايا في مصر، وهو في طريقه إلى الحج في إحدى السنوات، أسهمت في خلق أزمة مالية سببها انخفاض أسعار الذهب بسبب عطاياه.
وكما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن التاريخ الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن الفراعنة الذين حكموا بلاد مصر وأجزاء من الشام وبلاد العالم القديم في بعض الفترات كانوا من العرق الأسود، وهو أمر يمكن للزائر لأهرامات مصر رؤيته في الملامح الإفريقية الظاهرة على وجوه التماثيل الفرعونية.
كما أن حضارات وممالك أكسوم (Aksum) في إثيوبيا الحالية وشرق السودان، وممالك مروي (Meròe) ونبتة (Napata) في شمال السودان كلها تشهد على تقدم علمي وحضاري كبير، تُدحض معه فكرة تفوق جنس على آخر. حيث يحكي تاريخ مملكة مروي والحفريات، على سبيل المثال، أن صَهْر الحديد كان صناعة متقدمة في القرن الثالث الميلادي في هذه المملكة، في وقت كانت أوروبا تشهد انهيار الإمبراطورية الرومانية، أو ما عُرف بـ"أزمة القرن الثالث"، أو "الأزمة الإمبريالية".
العنصرية أمر عاطفي وليس منطقياً
من واقع معايشتي الشخصية واحتكاكي المباشر مع شعوب مختلفة من أوروبا وآسيا والأمريكتين والشرق الأوسط، يمكنني القول إن العقلية الفوقية تجاه إنسان إفريقيا متجذرة في العقل الجمعي لهذه الشعوب، بسبب التخلف العلمي والحضاري والاقتصادي للشعوب الإفريقية في القرون الخمسة الأخيرة. وهي فترة طويلة حتى بمقياس التاريخ الذي يعتبر فيه نصف قرن من الزمان ليس بالفترة الطويلة.
وقد أدى الضعف السياسي للشعوب الإفريقية منذ القرن السادس عشر إلى غزو هذه الشعوب بواسطة البرتغاليين والعثمانيين والعرب العمانيين، ليتبعهم الإنجليز والفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر، فيما سُمّي بالتدافع الأوروبي نحو إفريقيا (European Scrambling toward Africa). والذي نتج عنه مجازر وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (قبل أن تكون هناك أمم متحدة ومنظمات لحقوق الإنسان).
مثلما حدث في الكونغو على يد ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، وفي الجزائر التي قضى فيها الملايين (وليس مليون شهيد كما يقول الجميع) وهم يقاومون الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، والتجربة النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، التي ما زال بعض الجزائريين يعانون من تبعاتها البيئية والجينية. ومجازر الاستعمار البريطاني في كينيا، لسحق ثورة الماوماو، ومثل فتنتي جنوب السودان وزنجبار، اللتين نتجت عنهما مجازر دموية… والقائمة تطول. ومن المعلوم بالضرورة أن دوافع الاستعمار كانت اقتصادية.
الاستعمار الذي أتي لدوافع اقتصادية بحتة جلب معه تأثيراً ثقافياً وحضارياً لا تزال آثاره باقية بقوة حتى اللحظة، حيث نجد التأثير الثقافي الأوروبي في قارة إفريقيا في كتابات كبار الروائيين الأفارقه، أمثال النيجيري شينوا أجيبChinua Achebe، الذي يحكي في روايته "الأشياء تتداعى" أو (Things Fall a Part) عن قرية في نيجيريا يتحول الجيل الجديد من أبنائها من الديانات التقليدية إلى المسيحية، ويتحدثون الإنجليزية ويفكرون بطريقة أوروبية. وهو ما نطلق عليه "الاستلاب الثقافي"، الذي برع فيه الفرنسيون، ولم ينجُ منه الإنجليز رغم تركيزهم على الاستعمار الاقتصادي أكثر من الثقافي. وقصة مصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الراحل الطيب صالح أيضاً معروفة، حيث إنه أصبح إنجليزياً ثقافة وطبعاً. وهذه الإشكالية المتعلقة بالخلط الذي حدث للشعوب الإفريقية بين التقاليد والديانات المحلية، وبين التقاليد الأوروبية والمسيحية من جهة، وبين اللغات المحلية واللغات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية التي تم إدراجها في المقررات الدراسية، وكتابات دواوين الحكومات كلغات رسمية للدولة من جهة أخرى، كل هذه أسباب أسهمت بالإضافة للعبودية التي استمرت لأكثر من 300 سنة متواصلة، وجعلت للأفارقة مجتمعات شتات في قارات أمريكا وأوروبا، أسهمت في تأخير تطور دول إفريقيا مقارنة بشعوب أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وغيرها من شعوب الجنوب التي عانت أيضاً من آفة الاستعمار.
تحضُرني دائماً مقولة لأحد الأصدقاء ممن عركتهم الحياة والسفر ومخالطة الشعوب في شرق وغرب الكرة الأرضية، مفادها أن "العنصرية أمر عاطفي، وليس منطقياً". أي أنها ليست مرتبطة بلون أو عرق معين. وما يثبت صحة مقولته أن بعض شعوب أوروبا مثلاً تعتقد أنها أكثر ذكاء أو نقاءً في العرق من شعوب أخرى في نفس القارة، والأمر نفسه يحدث في إفريقيا، حيث تعتقد بعض القبائل أنها أكثر نقاء أو مكانة من قبائل أخرى. لكن هذه "العاطفة العنصرية" لا تولد مع الشخص العنصري، وإنما يتم تربيته عليها في مجتمعه. الأمر الذي يقودنا لأهمية التربية والتعليم في محاربة هذه الجائحة العالمية، جائحة العنصرية. وأن تتبع التربية التي تقوم على مبادئ الحرية والمساواة قوانين تجرم العنصرية، ليصبح الأمر مسنوداً بالقانون. فلا يُعقل في القرن الحادي والعشرين أن يتم التفريق بين بني البشر حتى بعد موتهم، حيث تقوم مجتمعات عربية تعتبر متقدمة نسبياً حتى اللحظة في مستوى التعليم والثقافة بفصل مقابر "البيض" عن السود!!
التجارب المريرة لبعض الدول مع العنصرية قادت إلى إصدار تشريعات وقوانين تجرّم العنصرية، وتشدد في العقوبة تجاه مرتكبيها، ففي ألمانيا التي عانت أوروبا والعالم أجمع من النظرية التي تعتقد بتفوق العرق الآري يتم تجريم العنصرية رغم انتشارها بين النازيين الجدد وبعض الشباب العاطل قليل التعليم (وهي ملاحظة تشترك فيها غالبية المجموعات التي تنتشر بينها العنصرية، حيث تزداد العنصرية وسط المجموعات غير المؤهلة أكاديمياً وعلمياً، في مواجهة مجموعات مهاجرة أكثر تعليماً وكفاءة، خوفاً من الآثار الاقتصادية لمنافسة هؤلاء لهم في الوظائف والتجارة وغيرها). كما نشاهد تجريم العنصرية بالقانون في الولايات المتحدة، لكن هذا التجريم القانوني لم يمض معه بالتوازي تعليم وتربية للمجتمع، يعمل على تغيير نظرته الفوقية للسود والقادمين من أمريكا الوسطى والجنوبية.
وفي كتاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما "أحلام من والدي" لمحات من هذا، حين ذكر أن جيرانه كانوا يمنعون أطفالهم من اللعب مع هذا الإفريقي "المتسخ". فالمجتمع الأمريكي للأسف ما زال منقسماً في غالبية ولاياته بين مجتمعات للبيض وأخرى للسود، وثالثة للقادمين من أمريكا اللاتينية Hispanic ، ورابعة من الأقليات من العرب واليهود والآسيويين وغيرهم. وهو انقسام تنتج عنه فوارق طبقية واقتصادية كبيرة.
أزمة القبليّة والنخب التي تعاني من "انفصام الشخصية"
ومن أجل ألا نُلقي كلَّ اللوم على الطرف الآخر في تخلف القارة الإفريقية يتوجب علينا أيضاً أن نبحث في أزمة النخب في إفريقيا. وعن الأسباب التاريخية التي جعلت إفريقيا هدفاً للباحثين عن الرقيق. تاريخياً أسهم التقسيم الجغرافي والإداري للمجتمعات الإفريقية قبل فترة الاستعمار إلى قبائل وسلطنات في تسهيل استغلال الضعفاء منهم في الرق، حيث كانت القبائل القوية تعمل بمثابة "وكيل محلي" للأوروبيين الراغبين في شراء الرقيق، والأمر نفسه حدث للعرب في فترات سابقة، حينما كانوا يعيشون على هامش الإمبراطوريات الفارسية والرومانية.
وفي الفترة بعد الاستعمار، عملت النخب الإفريقية المتعلمة في الغرب، والتي جاء أغلبها من أسر كبيرة وعريقة مثل أبناء الأعيان والسلاطين في مختلف مناطق إفريقيا، على تطبيق نموذج للحكم والإدارة، مختلف تماماً عما درسوه وعايشوه في الغرب. وإشكالية هؤلاء أنهم يعيشون انفصاماً عن مجتمعاتهم، سببه الفارق الكبير بين المجتمعات الإفريقية الغارقة في القبلية والتخلف الحضاري والاقتصادي، وبين المجتمعات الأوروبية التي شهدت ثورات سياسية مثل الثورة الفرنسية وحربين عالميتين وثورات صناعية وتكنولوجية وثقافية، نتج عنها طريقة تفكير، وحياة مختلفة عن تلك التي في إفريقيا أو الشرق الأوسط، أو حتى أمريكا اللاتينية.
كما أن الاستقطاب الحاد في النصف الثاني من القرن العشرين بين نخب اشتراكية تلقت تعليمها في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية، مثل الصين ويوغوسلافيا وألمانيا الشرقية… إلخ، وبين تلك النخب التي درست في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تشبعت بالأفكار الرأسمالية، أدى إلى تجارب فاشلة في التنمية، وصراعات بين أجهزة المخابرات في المعسكرين المتنافرين لقلب أنظمة الحكم التابعة للمعسكر الآخر، الأمر الذي تسبّب في تأخير التنمية بسبب انعدام الاستقرار السياسي.
وواجب النخب الإفريقية أن تُوائِم بين نموذج التنمية الغربي القائم على الرأسمالية الفجة، والنموذج الاشتراكي القائم على توفير الخدمات والوظائف والغذاء للجميع على حساب الدولة من جهة، وبين النماذج الإفريقية المحلية القائمة على الظروف والتقاليد والثقافة الإفريقية من جهة أخرى، وهو أمر تعود مسؤوليته بشكل أساسي إلى النخب الإفريقية الشابة، التي يجب عليها تغيير الدكتاتوريات العسكرية الموجودة حالياً، وبناء أنظمة حكم تعتمد على الديمقراطية التوافقية والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة، لتنهض القارة المنكوبة من عثرتها وتسلك درب التنمية والنهضة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.