في مدينة باغيريا قرب باليرمو بجزيرة صقلية بإيطاليا، تعيش مثقفة وصحفية وكاتبة فذة في قصر عائلي بديع، يلخص رصيداً عائلياً ثرياً في الأدب والفن والحضارة، إذ يحوي في إحدى جنباته مكتبة قديمة تضم الأنسيكلوبيديا الأولى لديدرو ورثته الأميرة فيتوريا دي ألياتا عن جدها، وفضلت أن يضمن في الخزانة العائلية بعدما استردت قصرها من براثن المافيا، في زخم من المعارك القضائية المريرة.
حصلت فيتوريا في سن مبكرة على شهادة البكالوريا وتوجهت للدراسات الشرقية مدة أربع سنوات في لبنان، حصلت إبّانها على أربع إجازات في اللغة العربية، فتحت لها طريق العبور للتراث العربي الإسلامي عبوراً جميلاً، تحولت إثره إلى "أميرة صقلية" عربية الروح، إذ عاشرت منتصف ستينيات القرن الماضي، كبار الشخصيات العربية الإسلامية والمسيحية، مثل الإمام موسى الصدر والمطران كابوتشي وياسر عرفات والبيك كمال جنبلاط الذي أقامت عنده في قصر المختارة.
سمحت تلك التجارب الميدانية المبحرة صوب الآخر المختلف، المتعدد والمتنوع، من اكتشاف سر الحياة الأول، التعايش بالثقافة، إذ تقول "الثقافة والحوار هما أساسا الحياة، ليس بين بني البشر فحسن، بل بين المجتمعات أيضاً".
وطبيعي أن يكسبها ذلك عيناً أخرى، استكشفت بها التراث العربي والإسلامي دراسة ومعايشة، ولا غرو فهي تعترف بفخر "لا تنس أن صقلية كانت على مدار قرنين كاملين حاضرة منتمية لحدود العالم الإسلامي، وبها تراث معماري وإنساني رائع في التعايش بين الأديان خلال الحقبة النورمانية، ففي كنيسة البالاتينا، تفاجئك زخرفات بديعة أبدع في تزويقها العرب المسلمون في السقوف، والمثير أن ذلك حدث في خضم الحروب الصليبية، ففيما كانت الحروب الدينية تمزق الشرق، كان فنانوه ومبدعوه يتركون بصمتهم في دور العبادة خلال القرون الوسطى".
صنعت فيتوريا مطلع ثمانينيات القرن الماضي ضجة ثقافية كبرى، ففي عام 1982 حقق كتابها "الحريم مذكرات عربية لأميرة صقلية" مبيعات مذهلة فغدا على لائحة "بيست سيلر"، بيد أن فتحها الأهم، هو تقديمها لمفهوم نمطي مختلف عما روّجه المستشرقون الغربيون عن "مرتع الملذات الجنسية" ذلك، محدثة نوعاً من الترميم في عقل مسكون بتنميط الآخرين وفق أحكام مسبقة، ولكم فوجئ أولئك المثقفون بقراءة أخرى كشفت فيها أن "الحريم معبد روحي وعالم مقدس، ونساؤه زوجات أمراء الخليج اللائي عاشرت هن بحق يشبهن نبّيات عالم مقدس، تركتهن يروين لي ذلك العالم بحرية، ونقلت ما قلن لي للآخر بدقة وأمانة، كما التقطت لهن صوراً نادرة، وقال لي الشيخ زايد ذات مرة إن صورك جميلة تكبسين عليها بالقلب".
في عقدي الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنقضي، دأبت ألياتا على النهل من معين الكتب والغرف من المجتمعات العربية والإسلامية، بحاسة شديدة في نقل تلك الصورة للغرب وسط مفاجآت جمة، أبرزها قضية المرأة، فانتقلت مثلاً بعد 1968 إلى نيويورك وعاصرت "دانيا ريدل" قبل أن تعود إلى العالم العربي، فأتقنت لغته ثم تكرست لدراسة ظواهره الآسرة بصبر وتجرد تروي تلك التجربة قائلة "وجدت هويتي كامرأة في الشرق الأوسط وعلى مدار تسع سنوات من البحث والمعاينة، فنساؤه وحتى إن كن أميات كن يصنعن اقتصاداً من العدم ويملكن حق التصرف المالي، يبعن سواراً ذهبياً لشراء الحليب ويحولنه لجبن يقمن ببيعه، ليشترين بدل السوار أساور، وطبعاً لم يكن للنساء الغربيات هذه البراعة الفطرية، زد على ذلك أنه وفيما تكرس للشرقيات الحق في الميراث منذ 1400 سنة، لم تنل الأوروبيات هذه المزية سوى العام 1974. هذه مفارقة حقيقية".
مسكونة بهاجس تحطيم "الكليشيهات" ألفت ألياتا كتاباً عن البيت والحديقة الإسلامية رداً على ما يردده غربيون على أن المنزل هو سجن المرأة العربية، فانتقلت للقاهرة واليمن والتقت المعماري الكبير حسن فتحي، وهو لم يكن معروفاً لحظتها، فسافرت به إلى لندن حيث قدم أول مداخلاته قبل أن يحوز جائزة الأغاخان، وكان بحق مؤسساً للهندسة الحديثة من خلال أفكاره المبتكرة، وعلى نحو التعريف بالقامات العربية والإسلامية نظمت العام 1988 بجزيرة صقلية أول ملتقى عالمي للتعريف بمحي الدين بن عربي، قبل أن يكتشفه سكان مدينته "مورسيا"، وحتى قبل أن تبادر الهيئات العربية الرسمية وغير الرسمية بالحديث عن نظرته الروحية ومؤلفاته الصوفية.
مطلع التسعينيات وبعد ثلاثين سنة من العطاء في مجال التقريب الفكري بين الشرق والغرب، وبعيد حرب الخليج الثانية، تلقت ألياتا صدمة حضارية كبرى، بعد موجة تعتيم مست كتاباتها، وقد كانت مقالاتها حول الشرق الأوسط، مرحب بها في كبريات الجرائد الإيطالية. لم تتلق الجواب سوى من صديقها الكاتب الإيطالي الشهير ألدو مونتانييلي مؤسس جريدة الجيورنال الذي أسر لها ذات عشاء متحسراً:
"فيتوريا لن تنشر الجرائد مقالاتك لقد اتصل وزير الخارجية طالباً من الجرائد منع نشر جميع مقالاتك وحواراتك، إنهم يقولون إن كتاباتك تجعل الأعداء ودودين".
تلك الصدمة التي أجبرتها على الدخول إلى قوقعة الصمت لم تكن الوحيدة، ذلك أنها باشرت ترجمة كتاب "حضارة المتوسط" الذي ألفه اليهودي الأمريكي شلومو قوتاين، بناءً على الأرشيف اليهودي المسمى "وثائق الجنيزة".
تكشف تلك الوثائق النادرة التي قاومت عاديات الزمن و"النسيان" حتى العثور عليها أثناء أعمال حفر بكنيس بن عزرا في القاهرة، وفيها مخطوطات ورسائل عبرانية خطها يهود إبان العصرين الفاطمي والأيوبي، يشهدون فيها بالحرية الشخصية والتجارية والمالية الممنوحة لهم في تلك العصور التي كان فيها البحر المتوسط فضاءً مفتوحاً بحرية التنقل دونما حدود وحواجز، ويحيا عولمة حقيقية بلا فوارق دينية أو عنصرية أو اقتصادية، كما لو أن العالم الحديث الفاشل في صناعة شراكة حقيقية، ترك حداثته وراء ظهره منذ قرون طويلة. تعترف فيتوريا متحسرة "لقد ترجمت الكتاب الضخم، وتنازلت عن حقوقه المادية والمعنوية غير أن دور النشر رفضت جميعها نشره، ذلك أنه يجعل من الأعداء أشخاصاً ودودين. ثمة من لا يريد أن يعرف العالم أن البحر المتوسط كان زمن الفاطميين والأيوبيين أبيض بالتسامح وقبول الآخر، والعيش في كنف المشترك الإنساني، بعيداً عن حروب الأديان والأيديولوجيات المنغلقة".
عوداً على بدء، تواصل الأميرة الصقلية المتقنة لسبع لغات، مهمتها الإنسانية النبيلة في مد جسور التواصل بين الشعوب لتعبر بالجميع بقارب الثقافة فوق بحر من الأحقاد وموجات الكراهية المتتالية، إذ تعكف منذ سنوات على إنتاج وثائقي خاص حول قلعة وكنيسة البالاتينا، التي ساهم المسيحيون والمسلمون في تشييدها في عز الحروب الدينية المقدسة. لتلخص بالصورة قيم المعرفة ونبذ التعصب، ومع أنها تعترف أنه "من السهل تحطيم المجتمعات بإثارة الكراهية ومن الصعب بناء المشترك الإنساني"، فهي تصر على أن الثقافة ترمم الصورة الإنسانية التي داستها أقدام السياسة، ولذا تحرص أن توجه عبر ذلك الوثائقي رسالة للعالم مفادها، أنظروا كيف كانت اللوحة مدهشة حينما اشتركت الألوان في تشييدها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.