لماذا العبيد أقدر على التغيير من الطواغيت؟ تحليل مختلف لقصة النمرود والنبي إبراهيم

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/04 الساعة 14:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/04 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
جبل النمرود / iStock

سأشارك معكم مقتطفاً من تحليل كنت أعمل عليه منذ مدة، يتعلق بالسلطة والشعور التفاضلي (بلغة جيل دولوز) لدى الطاغوت والشعب.

لقد أثارت آيةٌ جد مهمة في القرآن انتباهي، فهي توضح أمراً في غاية الأهمية، يتعلق بسيكولوجية الطاغوت، وحدود طاقته. وأقصد هنا الآية التي دار فيها نقاش بين النبي إبراهيم والنمرود.

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ"

أي إن إبراهيم يؤكد للنمرود أن الله هو الإله الوحيد في هذا الكون، والدليل على ذلك، هو أن الله يملك القدرة على التحكم في حياتهم، لكن النمرود يردُّ بأنه هو أيضاً يمكنه القيام ذلك.

يقول ميشيل فوكو في الجزء الأول من تاريخ الجنسانية المعنون بـ"إرادة العرفان" (أو إرادة المعرفة، في ترجمات أخرى).

"لزمن طويل كان أحد الامتيازات المميزة للسلطة المطلقة هو حق الحياة والموت".

ويعتقد فوكو أن هذا الا متياز -على ما يبدو- قد جاء من الحق الذي يملكه رب الأسرة الروماني في التحكم بحياة أطفاله وعبيده، لأنه هو الذي منحهم الحياة (بإنجاب الطفل والإبقاء على حياة العبد)، وهو الذي يمكنه أن ينزعها منهم، من دون التعرض للمحاسبة القانونية.

لكن النص القرآني يتحدث عن واقعةٍ أقدم من واقعة هذا النص، لهذا لا يتعلق الأمر بالحق الذي يملكه رب الأسرة الروماني، وإنما يتعلق بأمر أعمق، وهو الذي يرتبط أساساً بمصطلح "المَلِك والمالك" (لن أسرد هنا هذا الأمر).

لنعُد الآن إلى ما فعله النمرود، ليؤكد أن بإمكانه فعل "إحياء وإماتة من يشاء"، فقد ذكر المفسرون، أنه قد أتى بشخصين من أفراد مملكته، فقتل أحدهما وترك الآخر حياً (أي أحياه).

النمرود يؤمن بوجود الله، لأنه لم يعترض على إبراهيم في لك، لكن ما يؤكده هو أن له قدرات كالتي لله، فإن كان الله يحيي ويميت فهو أيضاً يفعل ذلك، وهذا يدفعه إلى أن يدّعي ألوهيته. (وهذا الادعاء أصلاً هو الذي جاء إليه إبراهيم بسببه لتفنيده بالأدلة).

إذن اجتماعياً فإن النمرود يشعر بأنه إله، لأنه يملك "حق الإحياء والإماتة" فمن يعيشون في مملكته أحياء بفضله، أي إنه علة حياتهم، وبما أنه لا أحد فوقه هو في المرتبة، فهذا يعني أنه علة نفسه أيضاً في الحياة، وبهذا نمر إلى التعريف الفلسفي لله، المستمد من أرسطو الذي يقول إن الله هو علة ذاته والعلة الأولى (أي السبب الذي تنتهي إليه الأسباب، فهو السبب الأول في هذا الوجود وفي وجوده الخاص، فلا أحد فوق الله قد قام بخلقه).

سيكولوجياً، وبسبب هذا الاعتقاد، فإن النمرود يشعر بأنه ليس كبقية البشر، إنه يعتقد أنه أسمى منهم، وهذا ما يمنحه فعل كل ما يريده بهم، وهذه الخاصية لا تخص النمرود وحده؛ بل كل الطواغيت (ملوكاً ومالكين)، فما داموا يملكون حق الإحياء والإماتة في المجتمع فهذا يعني أنهم يشعرون بتفوقهم العرقي. أي إنهم ليسوا من عرق البشر وإنما من عرق الآلهة.

فحتى وإن تغيَّر هذا الاعتقاد من مستواه النِّسابي أو الجينيالوجي (أي أصل الملك) إلى مستواه التاريخي (أي مَنح الملك). فمع ذلك، ما زال هناك شعور بالتفوق العرقي في نفسية الطاغوت.

المستوى النسابي أقصد به الشعور الذي ينتاب الطاغوت بأنه عرق أسمى من البشر (وهو الذي ساد قديماً لدى الفراعنة مثلاً). أما المستوى التاريخي فهو الشعور الذي ينتاب الطاغوت بأن الإله أو أي وسيط إلهي (كالرسول)، قد منحه ذاك الملك لِصفة ما فيه، يتميز بها عن بقية البشر، (فمثلاً هناك في الفلسفة السياسية الأوروبية ما يسمى نظرية الحق الإلهي التي تبرر حكم الملوك المطلق في أوروبا)

إذن اجتماعياً فإن الطاغوت يشعر بأن الناس يعيشون في مملكته بفضله، فهو الذي منحهم الحياة، وهو أيضاً الذي يمكنه أن يأخذها منهم دون أن يحاسبه أحد على ذلك.

لكن إبراهيم انتقل من المجتمع إلى الطبيعة. (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

نعم لا يمكن أن يتحكم الطاغوت في الطبيعة، وهنا فكرة مهمة، وهي أن الطاغوت له قدرة على الناس، لكن ليست له قدرة على الطبيعة.

يعتقد هيغل (في فينومينولوجيا الروح) وماركس من بعده (في رأس المال)، وأيضاً أورد فوكوياما ذلك في كتابه "نهاية التاريخ"، أن العبيد والعمال هم من ساهموا في خلق الأدوات والآلات التي يستعملونها في أعمالهم، وذلك بسبب احتكاكهم بالطبيعة، وهذه الآلات والأدوات هي التي ساهمت في تطور البشرية والتحكم في مسار الطبيعة، إلى أن صرنا الآن نشعر بأن كل الأرض تحت يدنا (بمفهوم مارتن هيدغر).

فحتى وإن لم تكن لهم القدرة على تحويل مسار الشمس (أقصد العبيد والعمال)، لأنها قدرة خاصة بـ"صانعها" (الذي هو الله)، فإنهم يستطيعون بمصنوعاتهم الخاصة أن يتحكموا في الطبيعة أيضاً، أفضل من الطاغوت، الذي لا تستطيع يده أن تمتد إلى الطبيعة أو التحكم فيها من دون مساعدة العمال والعبيد.

بل إن العبيد والعمال هم من يمكنهم أن يدفعوا بعجلة التطور التاريخي، الذي بفضله تتغير صفة الطاغوت من زمان إلى زمان، أي إنهم هم من جعل التاريخ ينتقل من الملكية المطلقة إلى الدستورية إلى الجمهورية وهكذا، بفضل آلاتهم التي صنعوها، والتي ساهمت بدورها في تطور التفكير البشري.

إذن التحكم في مسار الزمان التاريخي شبيه بحركة الشمس من الشرق إلى الغرب (أو حركة الأرض بالبراديغم الحديث)، أي إن العبيد والعمال يستطيعون التحكم في الزمان بفعل احتكاكهم بالطبيعة وخلق شروط التغير المستمر.

إذن هم من يمكنهم التحكم في مصير الطبيعة، أي إنهم أكثر قوة من الطاغوت (لأن مكانة الطاغوت تتغير من زمان إلى آخر، بفضل الشروط التي يخلقها العبيد والعمال أنفسهم). لكن إن ظَل هؤلاء يشعرون بأن حق الحياة والموت الخاص بهم، بين يدي الطاغوت، فإنهم بالطبع سيبقى شعورهم بسمو الطاغوت مستمراً، رغم أنهم هم من يملك القدرة على خلق الشروط التي تعطيه مكانةً ما في المجتمع، أي إنهم هم من يخلق تلك المكانة أصلاً. (والطاغوت يشمل الملك والمالك أيضاً، أي إن الأمر نفسه يرتبط بالرأسمالي).

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد