اختار موقع History Extra البريطاني 20 متخصصاً في التاريخ، وسألهم عن أسرار تاريخية، التي تمنّوا لو أنّهم عرفوا حقيقتها وحلّها، وفي هذا الموضوع نجمع لكم بعضاً من أسرار التاريخ تلك التي اختاروها لنحدثكم عنها.
مَن الذي بنى أثر ستونهنج العظيم في إنجلترا، ولماذا؟
اختار عالم الآثار مايك بيتس أثر ستونهنج العظيم، وهو أثر حجري ضخم للغاية يرجع إلى ما قبل التاريخ في شمال غرب إنجلترا، ويقع ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي لمنظمة اليونسكو. وكان مايك قد أشرف منذ 40 عاماً على أولى أعمال التنقيب هناك. حينها عرف العالم الكثير من المعلومات حول هذا الأثر التاريخي والأشخاص الذين نصّبوه.
لكنّ مايك يتسائل: هل بإمكاننا في النهاية الجزم بأنّ أثر ستونهنج قد تم بناؤه؟ سأقول لا. لأن المعرفة الأكبر تزيد اللغز غموضاً.
تخبرنا أقدم القصص حول أثر ستونهنج كيف نقل أحد العرّافين الأحجار جواً من أيرلندا إلى إنجلترا! ولا يزال بإمكانك أن ترى هناك آثار موطئ "قدم الشيطان"، حيث ألقى واحدة من هذه الأحجار الضخمة على أحد الرهبان. وعلى حجرٍ آخر تستقرُّ المياه التي خضّبتها الطحالب باللون الأحمر، لتصير أشبه بدماء العذارى اللواتي تجري التضحية بهنّ في بعض الطقوس.
بعد الفشل في العثور على سِجلٍّ يُؤرخ لإنشاء أثر ستونهنج بدأ التحقيق التاريخي ينسب فضل هذا الإنجاز للشعوب القديمة المعروفة من مناطق أخرى، مثل اليونانيين والرومان والدنماركيين من أوائل العصور الوسطى.
لكنَّ تلك التكهّنات توقّفت تماماً عام 1901، حين كشفت أولى الحفريات العلمية في الموقع عن أدواتٍ وحُطام يعود إلى البريطانيين من عصور ما قبل التاريخ. ومع ذلك فإنَّ شكل الهيكل والتصميم الاستثنائي للأثر ومواده تؤيّد احتمالية أنّ شعوب المتوسط هي التي أنشأته.
لكنَّ سؤالاً آخر نشأ حول هوية ونوعية المجتمع الذي كان مسؤولاً عن البناء. هل كان رمزاً نهائياً لثقافةٍ عالية الشأن؟ حيث كانت الآثار الضخمة تُمثّل تعبيراً عن المكانة والسلطة وأساليب السيطرة.
وعلى الرغم من تعدُّد النظريات حول هذا الأثر الضخم، والأفكار الغريبة حول أنّه كان رمزاً جنسياً لهذه الشعوب أو مرصداً، لكنّ جميع تلك النظريات لم تقترب مُطلقاً من تفسير أثر ستونهنج على النحو الصحيح. ولكن تبقى حقيقة مدى براعة إنجاز ستونهنج من الناحية الفنية وغرابته في الوقت ذاته.
هل كانت حورية بحر فيجي مخلوقاً مصطنعاً؟
أمّا كارين جونز، أستاذة التاريخ بجامعة كنت البريطانية، فقد اختارت من أسرار التاريخ الحديث حول "حورية بحر فيجي" الغريبة.
ففي أوائل أربعينيات القرن الـ19، كان هذا الصوت يخرج من داخل متحف بارنوم الأمريكي: "هلُموا! هلموا! أترون حورية بحر فيجي؟".
كان هذا المتحف يحتوي على مجموعةٍ مُتنوّعة من الحيوانات الغريبة، والأشخاص ذوي الخصائص الجسدية غير الاعتيادية. فعلى سبيل المثال كان يحتوي على الجنرال توم ثامب، المعروف باسم عقلة الإصبع الذي كان طوله 63.5 سم فقط، وغيرها من المعروضات الغامضة.
لا عجب إذن في أنّ حورية بحر فيجي كانت تستحق مكانها وسط ذلك المتحف العجيب!
ظلّت أساطير الحوريات تأسِر قلوب الناس طيلة عقود. كانت الجنيّة تُغوي البحارة ليسلكوا طريق حتفهم، كما زعم كريستوفر كولومبوس أنّه شاهد حوريات بحر تسبح بالقرب من جزيرة هيسبانيولا أثناء استكشاف العالم الجديد.
في أوائل القرن الـ19 أخذت الأسطورة منعطفاً مثيراً مع الكشف عن مخلوقٍ مُحنّط يصل طوله إلى متر تقريباً، نصفه بشري ونصفه مائي!
أشارت التقارير إلى العثور عليه بواسطة بحارة يابانيين قبالة شواطئ جزيرة فيجي. ونُقِل المخلوق إلى أوروبا بواسطة التجار الهولنديين، قبل أن يحصل عليه البحار الأمريكي صامويل إديس مقابل مبلغٍ سخيٍّ وصل إلى ستة آلاف دولار عام 1822.
تنقّل المخلوق الغريب من مالكٍ لآخر حتى وصل إلى يد مُنظِّم العروض المتميّز بي تي بارنوم، الذي جعله القطعة المعروضة الرئيسية في متحفه بنيويورك عام 1842.
ربما يتجلّى لنا الآن مدى زيف قصة حورية فيجي بفضل إدراكنا المُتأخر لواقع الأمور. في نفس الوقت من القرن الـ19 كان الناس مفتونين بالأسئلة حول الانقسام بين الحيوان والإنسان، وهي تساؤلاتٍ حفّزتها أعمال تشارلز داروين وغيره ممن ضلعوا في نظرية التطوّر.
وعلى نحوٍ مماثل، نجد أنّ شعبية متحف بارنوم الأمريكي كانت تُخاطب الجمهور المفتون بعروض المسوخ على نطاقٍ واسع -مثل السيرك المتخصّص في الأجساد "الشاذة"، بدءاً من النساء الملتحيات وصولاً إلى الرجل الذئب المرعب- إذ كانت من أعمدة الترفيه داخل المدن في القرن الـ19.
لكنّ كارين تتساءل: ما الذي حدث لحورية بحر فيجي؟ فقد اختفت عن المشهد العام بعد عرضها في متحف بارنوم وانطلاقها في جولةٍ جنوب الولايات المتحدة. وظهرت تجسيدات مختلفة لها في المتاحف الصغيرة وعروض المسوخ خلال السنوات اللاحقة، قبل اكتشاف أنّها نسخ مُزيّفة من النسخة الأصلية المُزيّفة أيضاً. وربما لا يزال هذا الحيوان الخفي الاصطناعي قابعاً داخل مخزن شخصٍ ما في انتظار اكتشافه!
هل دبّرت أغاثا كريستي عملية اختفائها؟
دومينيك ساندبروك المؤرخة والمذيعة اختارت سراً آخر: فلم نشهد من قبل قضيةً تُحاكِي فيها الحياة الفنّ وتُثير الفضول أكثر من قضية اختفاء أغاثا كريستي "ملكة الجريمة"!
ففي ليلة 3 ديسمبر/كانون الأول عام 1926، كانت أغاثا داخل منزلها، وكانت حينها واحدةً من أشهر كتاب بريطانيا الواعدين بعد أن ألّفت ستة كتب. وكانت قد خرجت للتو من نزاعٍ مُحتدم مع زوجها آرشي، الذي طلب منها الطلاق مؤخراً.
صعدت أغاثا إلى الطابق العلوي لمنح ابنتها ذات السبع سنوات قُبلة النوم. ثم ركبت سيارتها من طراز موريس كاولي وانطلقت لتختفي عن الأنظار تماماً.
في أعقاب ذلك سادت ضجةٌ إعلامية كبيرة. ووسط عاصفة العناوين الرئيسية حشدت الشرطة ألف ضابط للمساعدة في البحث عنها. وقرّرت مُنَافِسَة كريستي الكاتبة دوروثي سايرز زيارة منزلها للبحث عن أدلة، كما استشار السير آرثر كونان دويل وسيطاً روحانياً من أجل الحصول على نصيحة من عالم الأرواح.
لمحت الصفحة الرئيسية في صحيفة Daily Express البريطانية إلى ملابسات القضية الغامضة، حيث كتبت: أدلةٌ جديدة في أُحجية السيدة أغاثا. التقت سيدةً لا ترتدي قُبعة عند الميناء في الخامسة صباحاً، وساعدها رجلٌ على تشغيل مُحرّك السيارة. ولم تكُن أغاثا نفسها قادرةً على اختراع لغزٍ أكثر إثارة.
لم يظهر لها أثرٌ طيلة 10 أيام، ثم في 14 من ديسمبر/كانون الثاني، عُثِرَ على أغاثا داخل فندق Swan Hydro Hotel الأنيق، حيث سجّلت وصولها تحت اسمٍ مُستعار. وشاركت الكاتبة في برامج التعليم والرقص بالفندق طيلة أيام، وحين اكتشفوا هويتها الحقيقية في النهاية زعمت أنّها فقدت ذاكرتها.
ربما كانت التفصيلة الأغرب والأكثر إثارة على الإطلاق هي اختيارها للاسم المستعار: نيلي. لأنّ زوجها كان يُقيم علاقةً غير شرعية مع عشيقة لقبها هو نيلي.
ولن نعلم ما حدث تحديداً على الإطلاق، إذ أكّد الأطباء مزاعم أغاثا بأنّها فقدت ذاكرتها، لكنّ البعض أصرّوا على أنّها كانت حيلةً دعائية. ولا يزال الانبهار بالقضية قائماً حتى يومنا هذا، إذ يعتقد أحد كُتاب السيرة الذاتية لأغاثا أنّها دبّرت واقعة الاختفاء لتُهين زوجها، في حين يعتقد آخر أنّها عانت من حالة انهيار عصبي شديدة.
ولم تتحدّث أغاثا عن الواقعة مطلقاً بعدها، ولم تتطرّق إليها حتى في سيرتها الذاتية. لذا فإنّ أعظم ألغازها القائمة حتى الآن دارت أحداثه على أرض الواقع، ولم يكُن من وحي الخيال في رواياتها البوليسية.
ما الأسرار التي تُخفيها مقابر كوفون اليابانية؟
اختار كريستوفر هاردينغ وهو مُحاضر بارز في التاريخ الآسيوي بجامعة إدنبرة الحديث عن أحد الأسرار التاريخية الغريبة وهي: مقابر كوفون. وهي النسخة اليابانية من الأهرامات المصرية. "مقابر قديمة" هائلة بناها مئات العاملين لحفظ بقايا أعظم الملوك.
ظهر أوّل كوفون صغير في اليابان نحو عام 250 ميلادية. وكانت الغُرف تُبنى تحت مستوى الأرض، ثم تُبنى الأسوار بالحجارة على جانبيها، قبل إغلاقها من الأعلى لتُشكّل تلةً ضخمة. وبحلول القرن الخامس بدأ بناء مقابر كوفون، يصل طولها وعرضها إلى مئات الأمتار.
نحن نعرف الآن الكثير عن الكوفون، إذ إنّ فكرة التصميم الأساسي مستوحاةٌ من شبه الجزيرة الكورية، لذا فهذا عنصرٌ آخر من الثقافة اليابانية يرجع أصله إلى البر الرئيسي في آسيا، إلى جانب أشياء أخرى مثل: زراعة الأرز، والمشغولات البرونزية، ونظام الكتابة، والموسيقى، والرقص، وحتى الديانة البوذية، والأزياء الجميلة.
وداخل كل كوفون جرى التنقيب فيه حتى الآن، كان علماء الآثار يعثرون عادةً على كفنٍ خشبي مدفون بجوار أشياء ثمينة، مثل المرايا البرونزية والدروع الحديدية والسيوف دقيقة الصنع. وعلى منحدرات التلال في الخارج، كان الناس أحياناً يضعون تماثيل التراكوتا (الطين المحروق).
وكانت تلك التماثيل تُعرف باسم هانيوا، ويُمكن لتصاميمها أن تكون مُعقّدةً بشكلٍ لا يُصدّق لتُصوّر الراقصين والنساء والمقاتلين والخيول والقوارب والطيور.
ورغم ذلك، فإنّ الأمر الذي لا نعرفه عن أكبر وأعظم تلال الدفن -كوفون دايزن- يُمثّل إجابةً لأهم الأسئلة على الإطلاق: من دُفِنَ هنا؟ إذ يقع هذا الكوفون داخل أوساكا المُعاصرة، وبُنِيَ في القرن الخامس. ويضم ثلاثة خنادق بطول نحو نصف كيلومتر، وعرض 300 متر، وارتفاع يتجاوز الـ30 متراً.
هذا الكوفون كبيرٌ لدرجة أنّ ضخامته والشكل المميز لثقب المفتاح لا يُمكن الاستمتاع بهما سوى عند النظر إليه من السماء. ونظراً لكل ذلك، فمن المؤكّد أن من يرقد هناك لم يكُن شخصاً عادياً.
ولكن يُحظر في اليابان نبش أي كوفون أكبر من حجمٍ مُعيّن، أو مُصمَّم على شكل ثُقب مفتاح، لأنّها يُعتقد أنّها المثوى الأخير لأعظم الملوك والأباطرة المقدّسين. ومغامرة دخول غرف الدفن تلك ستُمثّل انتهاكاً لحرمات الموتى.
على كلّ حال تُمثّل مقابر الكوفون لغزاً ضرورياً لاستكشاف ما في داخلها، وإجابة الأسئلة حول أقدم الملكيات في العالم، لكنّ مخاطرةً فتحها لن يتكبّدها القائمون على المقابر في وكالة رعاية القصر الإمبراطوري الياباني بالطبع.
لماذا انخدع العالم بجنيات كوتنجلي؟
قبل مائة عام من الآن استخدمت فرانسيس غريفيث البالغة من العمر 12 عاماً وابنة عمها إليسي رايت البالغة من العمر 19 عاماً، كاميرا مستعارة لالتقاط ثلاث صور لجنيّاتٍ بالقرب من منزلهم في كوتنجلي، بإنجلترا. كان هذا السر الذي اختاره المؤرخ والمؤلف ريتشارد سغ، والذي نُشر له كتاب عن "تاريخ الجنيات".
لكنّ المثير في تلك القصّة أنّ تصرُّف الفتاتين جاء بتشجيعٍ صريح من السير آرثر كونان دويل، مبتكر شخصية المحقق الشهير شيرلوك هولمز.
مع الوقت، انتشرت صور الجنيات الثلاث ليس فقط في صحف يوركشاير، وإنما في صحف العاصمة لندن. وحتى الآن لا تزال هذه الصور من بين أكثر صور الجنيات قوّة وألفة في كل العصور، وهي تنافس أعمال والت ديزني.
مع ذلك، بمجرد محاولة تحليل وفحص هذه المخلوقات الرقيقة، فإنها تتفتت إلى العديد من الأسئلة والتناقضات وعدم اليقين: فكيف وقع مبتكر شخصية أشهر محقق في العالم في حيل فتاتين مراهقتين؟ لتوضيح الأمر بطريقة أخرى: لماذا أراد سير آرثر كونان دويل والعديد من الأشخاص أن يؤمنوا بالجنيات في عام 1920؟
وماذا عن الفتاتين نفسيهما؟ فعلى حد تعبير أحد المؤرخين "في عام 1917، خدعت الفتاتين عائلتهما، وفي عام 1920 خدعتا العالم كله". ما الذي حفّز الفتاتين على القيام بذلك؟ ومن كان زعيم العصابة في هذه المرحلة الثانية من الشهرة في قضية كوتنجلي؟
مات السير دويل عام 1930 وهو لا يزال يعتقد أنّ الصور حقيقية. ولعقودٍ لاحقة كانت فتاتان فقط على علمٍ بالحقيقة. وعندما وصلت اعترافاتهما بالاحتيال إلى الصحافة في مارس/آذار 1983 -أي بعد 66 عاماً من الكذبة- كتبت صحيفة The Times: "إن سمعة أشهر جنيّات العالم وسمعة السير آرثر كونان دويل تنهار!".
لكن هل أُجبرت إحدى السيدتين على الاعتراف؟ وما الذي أبقاهما صامتتين طوال هذا الوقت؟
ولعل السؤال الأغرب هو: هل كانت هناك جنيات حقاً في قاع الحديقة في كوتنجلي؟ بالنسبة لإحدى الفتاتين فقد أصرت دائماً على أن الصورة الخامسة كانت حقيقية، وأنها شاهدت بالفعل رجلاً خرافياً يحدق بها من بين فروع الصفصاف.