على مدى ستة أجيال كاملة قدمت عائلة بني زهر الأندلسية المسلمة أفرادها لممارسة الطب كعلمٍ ومهنة، وكان أولهم الجد أبو مروان عبدالملك الذي ذاع صيته بممارسة الطب في بغداد ثم مصر فالقيروان ليستقر بعد ذلك في الأندلس. وخلفه من بعده ابنه أبو العلاء زهر بن عبدالملك طبيب الأندلس الذي تعلم على يد أبيه مسائل الطب.
بعد ذلك جاء أبو مروان عبدالملك بن زهر المعروف عند الأوروبيين باسم "Avenzoar" و"Abumeron" و"Abynzoar" والذي يعد أعظم أطباء الأندلس إذ قال عنه ابن رشد في كتابه "الكليات" بأنه أعظم الأطباء بعد جالينيوس، ووصفه المستشرق الأمريكي جورج سارتون بأنه أعظم طبيب في عصره في العالم أجمع، فدعونا نتعرف قليلاً على هذا الطبيب المسلم الأندلسي.
وقبل أن نخوض في قصّة عبدالملك بن زهر، إذا أحببت أن تتعرّف أكثر على أطباء مسلمين سابقين له وكان لهم تأثيرٌ ضخم في الطب وتطوره، يمكنك القراءة عن الزهراوي الملقّب بـ"أبو الجراحة"، وكذلك ابن الجزار القيرواني وثابت بن قرة.
سُجن 10 سنوات بعد معالجته الأمير
ولد أبو مروان عبدالملك بن زهر في إشبيلية عام 1072، درس الأدب والفقه في صغره ولكنه تخصص في مجال الطب لاحقاً إذ تتلمذ على يد والده وكان بطبيعته يميل إلى إجراء التجارب العملية واكتشاف المجهول وهو الأمر الذي جعله أشهر أطباء عصره، ومنذ صغره كان ابن زهر صديقاً مقرباً للطبيب والفيلسوف الشهير أبو الوليد بن رشد.
في بداية مشواره الطبي اشتغل ابن زهر مع حاكم دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين ولكنه خرج عن سلطته وهرب من إشبيلية ومع ذلك قُبض عليه وسُجن في مدينة مراكش حوالي عشر سنوات.
يقول ابن زهر في كتابه "التيسير في المداواة والتدبير" "وأذكر أني – وأنا فتى – قد استدعاني الشقيّ علي بن يوسف إلى قرطبة بسبب ورمٍ كان به داخل أذنه" ثم يضيف ابن زهر قائلاً "وهذا الوجع – أي الذي يحدثه تمدد غشاء الكبد – كان كثيراً ما يصيب الشقي علياً، وعالجته منه" ويُلاحظ أن ابن زهر قرن اسم عليّ بن يوسف بن تاشفين بالشقي في كل كلامه عن رحلة العلاج ولكن ابن زهر لم يذكر الأسباب التي حملت الأمير المرابطيّ على سجنه.
لمح إليها بعد ذلك ابن عبدالملك المراكشي في كتابه "الذيل والتكملة" حيث قال" نال ابن زهر تنكيلٌ شديد من علي بن تاشفين الذي أمر بالانتقام من ابن زهر أشدَّ الانتقام، والظاهر أنّ غضبه انصب على ابن زهر إثر وشاية نقلها أحدهم بتعاطف ابن زهر مع الدولة الموحدية الصاعدة".
وبعد زوال دولة المرابطين وقيام الدولة الموحدية عاد ابن زهر وعمل طبيباً ووزيراً مع عبدالمؤمن مؤسس الدولة الذي شمله بالرعاية والاهتمام مما مكّن ابن زهر من تأليف أفضل كتبه في الطب.
إسهامات ابن زهر العلمية في مجال الطب
على عكس الممارسة السائدة للعلماء المسلمين في تلك الحقبة الزمنية والتي تتمثل في الإبداع في العديد من المجالات العلمية، كرّس ابن زهر نفسه لمجال الطب فقط رغم سعة معرفته بالأدب والفقه؛ إذ قرر منذ البداية التركيز على التدقيق العلمي والتجربة التي كان يرى أنها وحدها التي تثبت الحقيقة.
في كتابه "التيسير في المداواة والتدبير" يقول ابن زهر "أنا أحاكمهم، كنت حياً أو ميتاً، إلى التجربة، فإنّ الكلام يداخله الصدق والكذب، والحجج منها ما هو برهان ومنها ما هو اقتناع ومنها ما هو سفسطة ومنها ما هو تخيُّل، والبرهان هو ميزان حقٍّ في الحجج.. وليس يفرِّق بين الأقوال إلا البصير، وخاصة إن كان بصيراً بعلم الطب، فحينئذ يمكن أن يميز الحق من الباطل فيما يكون له بالطب معلق.. والتجربة وحدها هي التي تثبت الحقائق وتذهب البواطل".
يعد ابن زهر أول طبيب مسلم شرح طريقة التغذية الاصطناعية والقسرية عن طريق الشرج أو الحلقوم، كما أجرى بحوثاً طبية عديدة عن قروح الرأس والفم والأنف والعيون والأسنان وأمراض القلب والرئة وأنواع الحمى والأمراض الوبائية؛ إذ أولى اهتماماً خاصاً بدراسة الأمراض التي تنشأ في بيئة معينة، وميَّز بين التهاب الرئة والتهاب غشاء القلب، كما قدَّم ابن زهر وصفاً دقيقاً لسرطان المرئ والمعدة.
التجارب على الحيوانات أولاً كطريقة تجريبية لاختبار العمليات الجراحية
قبل إجراء العمليات الجراحية على المرضى البشريين كان ابن زهر يجربها أولاً على الحيوانات، إذ أثبتت تجربته العلمية على القصبات الهوائية للماعز سلامة تلك العملية للبشر وقد شكَّلت تلك التجارب خطوة هامة في تطوير المدرسة التجريبية التي بدأها الطبيب أبو بكر الرازي في مدينة بغداد خلال القرن التاسع.
قام ابن زهر أيضاً بإعطاء القرود جرعاتٍ من الزئبق تمهيداً لاختباره دواءً للاستعمال البشري، وأجرى كذلك تجارب ما بعد الموت على الأغنام وذلك في سياق أبحاثه السريرية عن علاج الأمراض المتقرّحة في الرئتين، وفي موسوعته الطبية "الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد" فرق بين زهر بين الجذام والبهاق ودرس أمراض اللثة وعالج العديد من حالات الشلل التي تصيب البلعوم.
كما يعود لابن زهر الفضل الأول في إدخال المُليِّنات بدل المسهِّلات الحادة، كما أنّه كان أول من وصف أمراضاً اشتهرت حينها مثل: التهاب التامور الناشف والانسكابي وخراج الحيزوم في المنطقة داخل الصدر بين الرئتين.
كان ابن زهر يشق الصدر ويعمل على تطهيره، وكان أوّل من قام بعمليّة شقّ الحجاب، يقول عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" كان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، حسن المعالجة، قد ذاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب"
عبدالملك بن زهر.. الطبيب المعلم
كان أوّل درسٍ يعلِّمه ابن زهر لطلّابه هو ضرورة معرفة علم التشريح ومواقع أعضاء الجسم إذ يقول ابن زهر: "وليس شيء يحتاج إليه صانع اليد (أي الجرّاح) كاحتياجه إلى معرفة التشريح ومنافع الأعضاء لئلا يغلط".
أمّا ثاني درس من حيث الأهمية هو التدرُّب الطويل من أجل اكتساب الخبرة ولكن التدرب لا يكون إلا بإشراف طبيبٍ خبير وهذا ثالث درس ميداني يعمله ابن زهر لطلابه شرطاً لتكوين الطبيب الناشئ، إذ يقول بخصوص من يريد أن يكون جراحاً "إنه لا يجب أن يتعرّض لذلك إلا من باطشه "ناوب" تلميذاً بين يدي معلمه مدة طويلة، ثم باطشه بذاته منفرداً مدة".
وكان ابن زهر يحدد قدرات الطبيب الناشئ في ثلاث خطواتٍ أساسية عليه اجتيازها؛ الأولى وضعه أمام حالةٍ مرضيّة ليراها ويحدد أعراضها ويعرف أسبابها، والثانية رجوعه إلى الطبيب الخبير حين يصعب عليه الأمر والثالثة الامتحان في كتب جالينوس الطبية لمعرفة مدى تطابق الجانب النظري مع العملي لدى الطبيب وذلك للتمكن من تحديد مستوى الطبيب ومدى أهليته للقيام بأمر العلاج فإذا فشل كان يُستبعده تماماً من عمل الطب.
ولم يكتف ابن زهر بوضع القواعد العلمية والعملية للأطباء الجدد ولكنه أيضاً وضع أخلاقيات لممارسة المهنة الطبية؛ إذ كان يُلزِم الأطباء بحلف قسم أبقراط الشهير وكان يوصيهم بالتواضع كما كان أيضاً يؤكد على قيمة الصدق في الإخبار بالواقعة العلمية وعدم التزييف أو الكذب على المريض.
ورغم براعة ابن زهر الطبية إلا أنه لم يكن يُجري العمليات الجراحية بنفسه، إلا العمليات الكبرى التي يرى أنهم ستؤدي لاكتشافٍ جديد وذلك لأن رؤية الجروح كانت تثير في نفسه شعوراً حاداً بالإغماء ولذلك كان يستعين بفريقه الطبي في إجراء العمليات، ومن وجهة نظره كان ابن زهر يرى أن هناك فصلاً بين عمل الطبيب الذي يشخِّص المرض ويرى علته وبين الطبيب الجراح.
ذكر الطبيب والمؤرخ ابن أبي أصيبعة في كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" أن ابن زهر ألف سبعة كتب ولكن لم يصلنا منها إلا ثلاثة فقط، أشهرها "التيسير في المداواة والتدبير" الذي يعد بمثابة موسوعة طبية شاملة وضع فيها ابن زهر موهبته في الطب وقد أهدى ابن زهر هذا الكتاب لصديقه المقرب ابن رشد، وفيما بعد تُرجم هذا المؤلف إلى اللاتينية في البندقية خلال عام 1490 ثم في مدينة ليدن الهولندية في عام 1531 وكان لهذا الكتاب أثر كبير على الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر.
ألف ابن زهر أيضاً كتاب "الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد" وهو عبارة عن خلاصة للأدوية وعلم حفظ الصحة وكذلك الطب النفسي، وحالياً لا يوجد من هذا الكتاب سوى مخطوطتين فقط واحدة تملكها مكتبة الإسكوريال في إسبانيا والثانية في المكتبة الوطنية بمدينة باريس.
وألف كذلك كتاب "الأغذية والأدوية" الذي يصف فيه مختلف أنواع الأغذية مثل العسل وأثرها على الصحة، وقد أهدى ابن زهر هذا الكتاب لمحمد عبدالمؤمن بن علي أمير دولة الموحدين، ولاحقاً تُرجم الكتاب إلى اللغة اللاتينية، أما الكتب التي ضاعت لابن زهر فهي "مقالة في علل الكُلَى" و"رسالة في عِلَّتي البَرَص والبهق" وكتاب "الزينة" و"تذكرة في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه" وقد ألف ابن زهر هذا الكتاب لابنه أبي بكر الذي اشتغل أيضاً بممارسة الطب من بعده.
كيف ساهم تراث ابن زهر في عملية تطور الطب الحديث في أوروبا؟
خلال القرن الرابع عشر اعتمد كتاب "التيسير" في مقر التدريس في معهد الطب بجامعة مونبيلي إذ كان يعد وقتها أهم مصدر لطلاب العلوم الطبية، كما أورد الطبيب الفرنسي الشهير غي دي شولياك في أطروحته في العمليات الجراحية اسم أبي مروان 21 مرة وما بين عامي 1490 و1574 طُبع كتاب التيسير باللاتينية أكثر من عشر مرات.
وخلال عام 1911 كتب الطبيب الفرنسي جابريال كولان مؤلفه الشهير "Avenzoar, sa vie et ses œuvres et la tadkira d'Abul-ala, texte et traduction française, Paris 1911" ابن زهر، حياته وآثاره إذ يتناول الكتاب إرث ابن زهر في التجارب الطبية المعمقة التي أجراها على أمراض الرأس الخارجية وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الجهاز الهضمي والأمراض الوبائية، ويعرج كولان بعد ذلك على إسهامات ابن زهر في تطوير علم الصيدلة وتركيب الأدوية المختلفة وكذلك علم الأغذية العلاجية المتنوعة.
كان ابن زهر أول من قسم علم الطب إلى قسمين؛ القسم الوقائي والذي أسماه علم الزينة "أي التجميل" والقسم العلاجي والذي أطلق عليه اصطلاحاً اسم "الطب" ولم يكتف ابن زهر بوضع هذا التقسيم ولكنه استفاض في شرح علم الزينة إذ يقول إن حفظ الإنسان لشعره عن السقوط هو معونة للدورة الدموية أن تقوم بفعلها الطبيعي، وحفظ شعر الحواجب عن السقوط معونة للعين ولهذا تعد الزينة قسماً هاماً من أقسام الطب.
وحول هذا القسم تحديداً قدمت المستشرقة الإسبانية روزا كوني برابانت رسالة الدكتوراه الخاصة بها حول كتاب "الاقتصاد" لابن زهر وتحديداً عن ابن زهر والزينة "علم التجميل"، وخلال عام 1974 م أصدرت الباحثة نفسها دراسة عن ابن زهر بعنوان "معطيات جديدة حول نقاط غامضة في مصادر ببليوغرافية ابن زهر"، ونشرت نفس الباحثة عام 1991م دراسة قدمتها للمؤتمر الدولي عام 1989م في مدينة تونس، تحت عنوان "أبو مروان ابن زهر خبير الطب في القرن الثاني عشر الميلادي".