دور العبادة، حالها كحال البشر والمدن، لم تسلم من حملات وعمليات تغيير الهويّات، خاصة في الحقب التاريخية التي شهدت حروبا بين دول وإمبراطوريات تنتمي لديانات مختلفة. وغالباً ما كانت تظل تلك الدور قائمة -وإن تغيرت عقيدتها- لذات السبب الذي أنشئت من أجله؛ ألا وهو التّعبد وإقامة الشعائر الدينية.
لنتعرّف على أشهر دور العبادة التي تحولت هويتها الدينية عَبر التاريخ وأسباب ذلك التحوّل
آيا صوفيا: الكنيسة والمسجد والتراث الثقافي العالمي
بنى الإمبراطور الروماني قنسطانطيوس الثاني عام 360م الكنيسة الكبيرة التي سُميت بعد القرن الخامس باسم آيا صوفيا Hagia sophia، بمعنى كنيسة الحكمة المقدسة. وفي عام 404 شّب فيها حَريق كبير جراّء حركات التمرد التي اندلعت بسبب الخلافات السياسية بين زوجة الإمبراطور أركاديوس والبطريرك في القسطنطينية -إسطنبول حالياً.
رَمّم الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني كنيسة آيا صوفيا لتفتح أبوابها للمصلين مرة أخرى في عام 415م، وذلك قبل أن تحترق الكنيسة بالكامل مرة أخرى بسبب ثورة نيكا التي اندلعت عام 532 ليقرر بعدها الإمبراطور جوستنيان الأول إعادة بناء الكنيسة من جديد.
ولكنه أراد هذه المرة أن تكون آيا صوفيا أكبر كنيسة مسيحية في الإمبراطورية البيزنطية، ولهذا جلب أمهر المعماريين واستخدم في البناء 320 ألف رطل من الذهب، هذا بالإضافة إلى الاستعانة بأكثر من 10 آلاف عامل.
كانت آيا صوفيا تجسيداً حياً لروعة المعمار البيزنطي، إذ ضمت قبة واسعة بلغ ارتفاعها 55.6 متر وقطرها 32 متراً، قائمة على أربعة أعمدة ضخمة يصل ارتفاع كل منها 24.3 متر، هذا بالإضافة إلى جدران بُنيت من الرخام والزجاج والأحجار الملونة وزُينت بالفسيفساء الذهبية اللامعة.
وقد ظلت آيا صوفيا تتبع المذهب الأرثوذكسي طوال 916 عاماً حتى فتح المسلمون القسطنطينية عام 1453، إذ اشترى السلطان محمد الفاتح كنيسة آيا صوفيا من حر ماله وحولها إلى مسجد، ظل قائماً للصلاة إلى أن تحول أخيراً إلى مُتحف.
في عام 1935م أمر رئيس تركيا آنذاك، مصطفى كمال أتاتورك، بتحويل آيا صوفيا إلى متحف فني يضم الكنوز المسيحية والإسلامية، ومنع إقامة الشعائر الدينية بشكل رسمي في المبنى، ومنذ ذلك الحين يُعد آيا صوفيا واحداً من أهم المعالم التاريخية في تركيا؛ إذ تعتبره منظمة اليونسكو من الآثار التاريخية التي تنتمي إلى الثروة الثقافية العالمية.
المسجد الأموي: تحفة العمارة الإسلامية الذي شهد عدة تحولات دينية
في الألفية الأولى قبل الميلاد بُني في الطرف الجنوبي من مدينة دمشق معبد الإله "حدد" الآرامي، إله الطقس، وعقب سيطرة الرومان على المدينة تحول المكان في القرن الأول الميلادي إلى مَعبد روماني وأطلق عليه اسم مَعبد جوبيتر، وما زالت آثار المعبد قائمة حتى الآن.
وفي عام 379م حول الإمبراطور الروماني تيودوس الأول المعبد إلى كنيسة، سميت باسم كنيسة القديس يوحنا المعمدان، والمعروف في الإسلام باسم النبي يحيى، الموجود ضريحه داخل المسجد حتى اليوم.
وعندما فُتحت دمشق صُلحاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب؛ صَار نصف المبنى من جهة الغرب كنيسة ونصفه الآخر من جهة الشرق مسجداً.
أمر الخليفة الأموي السادس، الوليد بن عبد الملك، خلال عام 705م، بهدم الكنيسة وبناء مسجد كبير مكانها، وقد استغرق البناء عشر سنوات، تم خلالها إنجاز زخارف المسجد بطرق هندسية بديعة متناهية الدقة.
إذ استحضر الوليد المعماريين من الهند وبلاد فارس، من أجل تجميل النقوش والفسيفساء والمنمنمات والرخام وجميع أنواع الزخارف، وهي القيشاني والعجمي والمشقف والمُعشق والخيط العربي والتيجان الكورنثية.
وأنفق الخليفة الأموي خراج الشام عامين على عملية البناء التي اكتملت بعد وفاته، ويعد المسجد ضمن الإرث الحضاري العالمي لمنظمة اليونسكو.
تعرض المسجد الأموي أيضاً لحرائقٌ، كان أهمها حريق عام 1069م، الذي قضى على الكثير من زخارفه ونقوشه البديعة، ورُمم عام 1072م، ليحترق مرة أخرى عام 1400م على يد جيش تيمور لنك عندما اجتاح دمشق.
وبعد اندلاع الثورة السورية، وفي عام 2013م تحديداً، شهد المسجد الأموي اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري وقوات المعارضة، مما أدى إلى احتراق المسجد ومكتبته التاريخية، التي تضم العديد من المخطوطات القديمة، كما تهّدمت المئذنة بالكامل نتيجة استهدافها من قبل دبابات الجيش السوري.
مسجد هامبورغ في ألمانيا: الجالية الإسلامية تشتري كنيسة أثرية وتحولها لجامع بسبب تزايد أعداد المصلين
في 26 سبتمبر/أيلول 2018 شهدت مدينة هامبورغ الألمانية افتتاح مسجد النور، الذي أضحى أول كنيسة بروتستانتية مركزية تتحول إلى جامع للمسلمين في ألمانيا، وقد تأخر الافتتاح أكثر من خمسة أعوام بسبب تكاليف إعادة البناء، إضافة إلى عدة مشكلات متعلقة بالتعديلات على الكنيسة القديمة التي كانت مُصنفة كمحمية أثرية.
وقد أغلقت الكنيسة القديمة التي بُنيت عام 1961م أبوابها خلال عام 2002م، وذلك بسبب قلة عدد المصلين فيها لتُباع إلى مستثمر، ثم اشتراها بعض أفراد الجالية الإسلامية في ألمانيا خلال عام 2012م وأعلنوا تحويلها إلى مسجد، وهو الأمر الذي تسبب في جدل كبير داخل ألمانيا، ففي عام 2013م نظمت مجموعة من المتظاهرين وقفة احتجاجية أمام مبنى الكنيسة القديمة، منددين بما سمّوه أسلمة البلاد.
وفي كلمته أثناء حفل الافتتاح ذكر "دانيال عابدين"، مدير مسجد النور، أن الجالية الإسلامية بمدينة هامبورغ لم تخطط لشراء الكنيسة من أجل تحويلها إلى مسجد، ولكنها وجدت مبنى الكنيسة المهجورة معروضاً للبيع أثناء عملية البحث عن مكان مناسب للصلاة، وذلك بعد أن قضت سنوات طويلة تؤدي الصلاة في مرآب سيارات تحت الأرض في منطقة سانت جورج في هامبورغ.
كلفت عملية إعادة البناء حوالي 5 ملايين يورو، واعتمدت بشكل كبير على التبرعات، إضافة إلى تمويل دولة الكويت الذي وصل إلى 1.1 مليون يورو.
وقد حصل المسجد على جائزة المواطنة من قبل حكومة هامبورغ، بسبب الدور البارز الذي قام به في استقبال اللاجئين، الذين توافدوا بكثرة على ألمانيا خلال عام 2015م، إذ وصل عدد من استقبلهم المسجد لحوالي 500 لاجئ يومياً، وذلك على الرغم من قلة موارده.
كنيسة مار أفرام: داعش تُشيد مسجد المجاهدين على أنقاض أقدم كنيسة في مدينة الموصل
خلال عام 2014م أزال تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف باسم داعش، الصليب والأيقونات الأثرية عن كنيسة مار أفرام للسُّريان الأرثوذكس، وأعلن تحويلها إلى جامع عرف باسم مسجد أرض الخلافة، كما كانت تجاور الكنيسة أيضاً دار للمطرانية، حولها التنظيم إلى مجلس شورى المجاهدين.
ومنذ اللحظات الأولى للتحويل، وُضِعت مكبرات الصوت فوق الكنيسة ورُفِع الأذان؛ كما عُرضت جميع ممتلكات الكنيسة للبيع.
وتعد مدينة الموصل الواقعة في شمالي العراق ثاني أكبر مدينة من حيث عدد السكان المسيحيين الذين يقطنونها منذ القرن الثاني الميلادي، ولكن بعد سيطرة داعش على المدينة باتت شبه خالية من المسيحيين بسبب موجات النزوح الجماعي.
فبعد أن كانت الموصل موطناً للمسيحيين الأشوريين -معظمهم من الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية- والمسيحيين العرب الذين تُمثلهم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وجدوا أنفسهم مطالبين إما بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو القتل.
وبعد تحرير الموصل على يد قوات الجيش العراقي من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية خلال عام 2016، وبعد أكثر من سنتين أسقط المطران مار نيقوديموس داؤد متّى شرف، رئيس طائفة السريان الأرثوذكس، وعدد من رجال الدين المسيحيين الرايات السوداء لداعش من أعلى كنيسة مار أفرام وأدوا بها صلاتهم، على الرغم من أعمال التخريب التي لحقت بها، إذ أُزيل المرمر المكسو به جدران الكنيسة، ونُزعت الأبواب والشبابيك، إضافة لهدم المذابح.
مسجد قرطبة: مجمع المسجد والكاتدرائية والنصب
خلال العهد الأندلسي وتحديداً في عام 784م بدأ أمير قرطبة عبدالرحمن الأول، بناء مسجد قرطبة الكبير الذي استمر تطويره قرابة قرنين ونصف القرن من الزمان، إذ أكمل عملية البناء الأمير عبد الرحمن الثالث، الذي وسّع المسجد وزيّنه وأضاف له مئذنة خلال عام 961م.
كما اشترى من بعض المسيحيين أراضي مجاورة للمسجد من أجل إكمال التوسيعات، واعتبر حينها مسجد قرطبة واحداً من أفخم وأكبر مساجد الدولة في مدينة قرطبة، التي كان يبلغ عددها ألفاً.
وحينما سقط الحكم الأندلسي خلال عام 1236م على يد ملك قشتالة فرديناند الثالث، تحول المسجد إلى كاتدرائية مريم العذراء، وذلك على غرار مئات المساجد في الأندلس، وفي الوقت الذي هُدمت فيه الكثير من المساجد بقي مسجد قرطبة على حاله بسبب تصميمه المعماري الفريد وعوضاً عن إسقاطه بُنيت وسطه الكاتدرائية.
وفي عام 2006 مسحت كاتدرائية قرطبة اسم المسجد من المواقع الإلكترونية ومن النشرات المطبوعة ومن الدليل السياحي، وذلك من أجل ترسيخ الهوية المسيحية للموقع، ولكن بعد الكثير من المناشدات والمطالبات وافقت السلطات الإسبانية على إعادة تسمية المعلم باسم "مجمع المسجد والكاتدرائية والنصب" لتعود إليه هويته الإسلامية جنباً إلى جنب مع المسيحية.
مسجد إشبيلية: انهيار دولة الموحدين يؤدي إلى تحويل الجامع إلى كنيسة سانتا ماريا
يرجع بناء مسجد إشبيلية إلى عهد دولة الموحدين، إذ أمر بتشييده الخليفة أبو يعقوب يوسف خلال عام 1172م، والذي كان يرغب في أن يحاكي مسجده جامع قرطبة الكبير، وقد استمرت عملية البناء أربعة أعوام دون توقف، أودع خلالها المعماريون نتاج العبقرية الفنية الأندلسية من زخارف ونقوش ومنمنمات.
وقد جسد منبر جامع إشبيلية روعة جمال الفن العربي والإسلامي، إذ صُنع من الخشب ورصّع بالصندل والعاج والأبنوس وصفائح الذهب والفضة، بحسب وصفه في كتاب "من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة".
كما أقيمت له مقصورة أحاطت بالمحراب والمنبر من أجل صلاة الخليفة، وبُني ممر طويل يربط بين المسجد والقصر، وذلك حتى يمشي فيه الخليفة أثناء خروجه من قصره إلى المسجد للصلاة.
ومع سقوط أشبيلية، أحد آخر معاقل الحضارة العربية في الأندلس، على يد القشتاليين بعد حصار دام عاماً وخمسة أشهر فشلت فيه كل جهود دولة الموحدين في المقاومة، تحول المسجد ليصبح كنيسة "سانتا ماريا"، وأصبحت المئذنة برجاً لأجراس الكنيسة.
مسجد باب المردوم: الملك القشتالي ألفونسو السادس يحول الجامع إلى كنيسة نور المسيح
خلال عام 999م أمر أحمد بن حديدي، قاضي طليطلة، ببناء مسجد باب المردوم، إذ يعلو واجهته نقش تاريخي بارز كتب عليه "بسم الله الرحمن الرحيم، أقام هذا المسجد أحمد بن حديدي من ماله ابتغاء ثواب الله، فتم البناء بعون الله على يدي موسى بن علي في شهر المحرم سنة تسعين وثلاثمائة"
على الرغم من صغر مساحة هذا المسجد فإنه يعد أهم مسجد في الأندلس بعد جامع قرطبة، وذلك بسبب احتفاظه بتسع قباب قائمة على الضلوع المتقاطعة التي تحاكي قباب جامع قرطبة الكبير، والمسجد مربع الشكل لا يتجاوز طول الجانب منه الثمانية أمتار، وقد شُيدت جدرانه من الآجر والحجر وفق النمط العمراني لمدينة طليطلة الموروث من الحقبة الرومانية.
وفي عام 1084م حاصر الملك القشتالي ألفونسو السادس مدينة طليطلة لمدة تسعة أشهر، استبد بالمسلمين حينها الجوع والحرمان، وفشلت جميع محاولات الصلح مع ملك قشتالة، الذي لم يقبل سوى بتسليم المدينة، حينها اضطر يحيى بن ذي النون إلى تسليم المدينة، فدخلها القشتاليون منتصرين، وتحول مسجد باب المردوم إلى كنيسة نور المسيح.