تملك الصداقات السياسية تعريفاً خاصاً يخضع لقواعد المصلحة والظروف المستجدة. وما يبدأ كزمالة في الكلية العسكرية أو الخدمة الدبلوماسية، قد يتحول لاحقاً إلى عداوة شديدة تصل إلى حد القتل أو التصفية. فمصادقة شخص نافذ تعني الحماية والاستفادة، إلى أن يصبح الصديق منافساً وعقبة في الطريق تسهل إزالتها بقرار واحد.
تعج الأروقة السياسية العربية بصداقات متحولة انتهت بقصص مأساوية، نستعرض فيما يلي، أشهرها:
"عارف" و"قاسم" صداقة جمعها انقلاب انتهت رمياً بالرصاص
في عام 1938، شهدت ساحة الكلية العسكرية ببغداد بداية الصداقة بين "عبدالكريم قاسم" و"عبدالسلام عارف"؛ إذ كان الأول مدرساً في الكلية، بينما كان الثاني طالباً بها.
وبعد تخرُّج عارف عُيِّن قائداً في إحدى سرايا المدرعات. انفصل الصديقان عاماً، ثم اجتمعا مرة ثانية، بعد نقل عارف إلى مدينة البصرة؛ بسبب مشاركته في ثورة رشيد عالي الكيلاني.
هناك كثرت اللقاءات بينهما، والتي كانت تدور دائماً حول سوء وضع الشعب العراقي؛ بسبب خضوع كل من رئيس الوزراء نوري السعيد والأمير عبدالإله، لسياسة الاحتلال البريطاني.
بعد ذلك، افترق الصديقان، لكن الحياة العسكرية جمعتهما من جديد بمدينة كركوك عام 1947، ثم في حرب فلسطين 1948. وهناك توطدت صداقتهما التي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب، وعودتهما للعراق.
في عام 1952، التحق عارف بدورة تدريبية في ألمانيا استمر فيها حتى عام 1956؛ ومن ثم عاد للعراق. وفي هذه الأثناء، انضم قاسم إلى تنظيم الضباط الوطنيين.
وبعد عام من انضمامه، التقى قاسم مع عارف ورغب في ضمه إلى التنظيم، فرفض الأخير في بداية الأمر؛ بسبب "شخصيته المتهورة وطائفيته". لكن بإلحاح من قاسم انضم عارف، وكان صديقاً وفياً لقاسم؛ إذ سانده ودعمه في تولي رئاسة اللجنة العليا للتنظيم.
وأقنع عارف، أعضاء التنظيم بدعم قاسم لخبراته العسكرية الكبيرة، وقال عارف، جملته الشهيرة إنه" لا زعيم إلا كريم".
في عام 1958، نجح التنظيم في إنشاء حركة تموز، التي حوَّلت العراق من الملكية إلى الجمهورية. وتولى قاسم منصبَ رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، أما عارف فتولى منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ووُزعت المناصب الأخرى على أعضاء التنظيم.
بعد نجاح الحركة، ورغم الصداقة القوية التي جمعت بينهما، سرعان ما نشبت الخلافات بينهما لعدة أسباب:
- خلاف بسبب تصفية العائلة المالكة، فكان قاسم مع سفرهم خارج البلاد، بينما عارف أيّد تصفيتهم.
- رغبة كل منهما في إظهار نفسه بأنه المفجِّر الرئيسي والأب والروحي لحركة 1958.
- الاختلافات الفكرية، فقاسم كان يرغب في تطبيق التجربة الاشتراكية، أما عارف فأيّد القومية العربية.
على أثر ذلك، بدأ قاسم بإزاحة عارف من المشهد بموجب سلطاته وصلاحياته، وعيَّنه سفيراً لدى ألمانيا. وفي أثناء زيارة لوالده، أُلقي القبض عليه.
تعرَّض عارف لاحقاً للمحاكمة بتهمة اغتيال قاسم وقلب نظام الحكم. حُكم عليه بالإعدام، لكن الحكم خُفِّف إلى السجن ثم الإقامة الجبرية، التي ساعدت عارف في التخلص من صديقه، مثلما فعل هو قبله.
إذ قام عارف بانقلاب عسكري عام 1963 وعزل قاسم، وحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص في مقر الإذاعة والتلفزيون ببغداد.
ظل عارف في الحكم حتى أبريل/نيسان 1966، وانتهى حكمه بعد وفاته نتيجة سقوط طائرته.
إعدام عبدالكريم قاسم رمياً بالرصاص في مقر الإذاعة والتلفزيون ببغداد
انقلاب "بومدين" على "بن بلّة" في سهرة كروية
لم يكن اللقاء الأول الذي جمع بين "أحمد بن بلة " و"هواري بومدين" بالجزائر، وإنما في مصر بساحة جامعة الأزهر، حيث كان يدرس بومدين.
اختاره بن بلة عام 1954 ليكون ضمن شباب الثورة الجزائرية، لتبدأ رحلة الصداقة السياسية.
كان بن بلة من مؤسسي جبهة التحرير الوطني، التي نجحت في تحرير الجزائر وحصولها على الاستقلال عام 1962، ليتولى بن بلة بعدها رئاسة الجزائر عام 1963، وعيَّن بومدين وزيراً للدفاع، ومن هنا بدأ التنافس بينهما.
وكما جمعتهما السياسة، فرَّقتهما أيضاً؛ إذ تطلَّع الاثنان إلى السيطرة والاستحواذ على السلطة، وعلى الرغم من أن بن بلة كان صاحب الكلمة العليا في البلاد، لكن بومدين استطاع، نتيجة للثقة العمياء التي منحها إياه، أن يطيح به.
اتهم بومدين، بن بلة بأنه قد خرج عن خُطى الثورة الجزائرية، وأراد الاستحواذ على السلطة، مدلِّلاً على ذلك بإقصائه بعض زعماء الثورة، ليكون الطريق ممهداً لبومدين للانقلاب عليه، بهدف تصحيح المسار السياسي للثورة والحفاظ على مكتسباتها.
الجدير بالذكر أن بن بلة في حوار صحافي، قدَّم بومدين قائلاً: "هذا هو الرجل الذي يتآمر ضدي"، لكن على الرغم من معرفة بن بلة بما يدور في رأسه، جاء رد فعله متأخراً.
رتَّب بومدين كل شيء لإزاحته من المشهد السياسي، وحدد ميعاد الانقلاب عليه في 19 يونيو/حزيران 1965، في أثناء مباراة منتخب الجزائر ضد "نادي سانتوس" بقيادة الجوهرة السوداء بيليه، من أجل إلهاء الشعب عما يحدث في البلاد.
وبالفعل، نجح الانقلاب وتولى بومدين الحكم، وألقى القبض على بن بلة، ووضعه في فيلا خاصة بمنطقة معزولة، ومنع زيارته.
استمر فيها 15 عاماً؛ إذ كانت بمثابة السجن له. وتوسط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لإطلاق سراح بن بلة، لكن دون فائدة.
تزوَّج في السجن صحافية كانت معارضة له، وظلت معه في السجن حتى خرج عام 1980.
توجَّه لاحقاً إلى فرنسا وأنشأ الحركة الديمقراطية، ثم عاد إلى الجزائر بعد ذلك، وأخيراً إلى منفاه الاختياري سويسرا.
عبر بن بلة عن رأيه في الذين قادوا الانقلاب عليه، قائلاً: "أولم يَعِدوا الشعب الجزائري، بإنشاء دولة القانون واحترام كل المؤسسات السياسية والتشريعية القائمة؟! أين هي الدولة؟! أو لم ينهوا مسيرة المجلس الشعبي الوطني؟ أولم يلغوا اللجنة المركزية والمكتب السياسي؟!".
خطاب انقلاب بومدين على بن بلّة
الجدير بالذكر أن بعض الصحف ذكرت أن مهندس الانقلاب على بن بلّة مع بومدين، كان الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة. لكن بن بلة أنكر هذا في لقاء تلفزيوني له مع قناة "الجزيرة".
رحل بن بلة عن الحياة في أبريل/نيسان 2012 عن عمر ناهز 96 عاماً. أما بومدين، فقد رحل عن الحياة عام 1978، وقيل إن سبب وفاته هو إصابته بمرض، لكن رئيس جبهة التحرير الوطني الجزائري، جمال ولد عباس، قال إن "وفاة الرئيس بومدين لم تكن طبيعية".
"جديد" و"الأسد" صداقة انتهت بالسجن 23 عاماً
في عام 1958، حُلَّ حزب البعث بعد الوحدة مع مصر، ليكون ذلك سبباً في سخط 5 ضباط من الجيش، كانوا من ضمن الذين رحّلهم عبدالناصر لمصر، والضباط هم محمد عمران، وأحمد المير، وحافظ الأسد، وصلاح جديد، وعبدالكريم الجندي. أسس هؤلاء تنظيماً سرياً أطلقوا عليه اسم اللجنة العسكرية.
هذا التنظيم سيكون له دور هام بعد ذلك في الحكم بسوريا، خاصة بعد انفصال سوريا عن مصر. في سبتمبر/أيلول 1961، قُبض على "جديد" وبعض زملائه في السجن بمصر، ثم تم إطلاق سراحهم في صفقة تبادل مع ضباط مصريين.
شكَّل ذلك سبباً في انفتاح المجال أمام "جديد" ورفاقه للعمل في التنظيم؛ إذ كانت البداية عام 1963 عندما قام التنظيم بقيادة "جديد" بالانقلاب العسكري على حكومة الانفصال في سوريا، وقد أيدهم ميشيل عفلق، رئيس حزب البعث آنذاك.
استطاع "جديد" هو ورفاقه الانقلاب على ناظم القدسي، وعاد معهم إلى الجيش، وتولى لؤي الأتاسي الحكم فترة بسيطة ثم قدم استقالته، وتولى بعده أمين الحافظ، الذي كان سبباً في تقسيم اللجنة العسكرية.
إذ كان عمران، أحد ضباط اللجنة، يرغب في تولى الحكم، بالإضافة إلى رفضه سياسة "جديد" في استخدام العنف من أجل السيطرة على الحكم، ليقف الأسد مع "جديد" ضد عمران، الذي تم تجريده من صلاحياته وإرساله إلى إسبانيا للعمل سفيراً.
وعلى أثر ذلك، عُيِّن الأسد قائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي، لكن تستمر التوترات في اللجنة حتى عام 1966، عندما قرر "جديد" الانقلاب العسكري على الرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ؛ بسبب إصدار الأخير قرارات ضد سياسة "جديد".
فقرر عزله من منصبه وإلقاء القبض عليه، ويؤيد الأسد للمرة الثانية قرارات "جديد" الذي يمنح منصب وزير الدفاع، ويتولى نور الأتاسي الحكم.
في هذه الأثناء، تخلى "جديد" عن رتبته العسكرية من أجل السيطرة على حزب البعث والحكم، ليصبح رقم واحد في سوريا.
في عام 1967، وقعت النكسة واحتلت إسرائيل الجولان، وُحمِّل الضابط أحمد المير الكارثة بمفرده، وصدر قرار إقصائه من الجيش.
بالترتيب من اليمين صلاح جديد، حافظ الأسد، نور الأتاسي (مصدر الصورة موقع عكس السير)
لكن الصراعات استمرت، وكانت سبباً في انتحار الضابط الثالث عبدالكريم الجندي، الذي ترك رسالة حذَّر فيه من الأسد وتطلعاته للوصول للسلطة، ليكون ذلك سبباً في زيادة الخلافات بين الأسد و"جديد".
وأصبح صديق الأمس عدو اليوم، ما جعل "جديد" يفكر في عقد مؤتمر من أجل محاسبة الأسد؛ بسبب أحداث أيلول الأسود، واتخذ قراراً بعزله.
لكن هذا لم يمنع الأسد من الانقلاب على صديقه في الليلة الثانية من عزله عام 1970، ووضعه في سجن المزة العسكري 25 عاماً حتى رحيله عام 1993.
تولى الحكم بعد الانقلاب أحمد الخطيب فترة بسيطة، وتولى الأسد بعده من الفترة 1971 حتى رحيله عام 2000 .
"عبدالناصر" و"عامر" فرقتهما النكسة وقتلت الثاني
في عام 1918 وقبل بداية ثورة 1919، وُلد جمال عبدالناصر. وفي عام الثورة وُلد عبدالحكيم عامر.
التحق الاثنان لاحقاً بالكلية الحربية، وفي عام 1939 كانت بداية الصداقة التي جمعت بينهما.
بعد التخرج، انتقل عامر وعبدالناصر للخدمة في الإسكندرية، ثم بعد ذلك إلى السودان في عام 1941، وهناك بدأت صداقتهما تتعمق أكثر.
وبعد عودتهما من السودان، عُيِّن عبدالناصر مدرّساً في الكلية الحربية، ثم قام بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وانضم عامر إليه.
وفي حرب فلسطين 1948، شارك كل من عبدالناصر وعامر، وانتهت الحرب بالهزيمة، لتكون الشرارة الأولى لهؤلاء الضباط.
شهد عام 1952 بداية وصول هؤلاء الضباط للحكم بعد نجاح حركتهم، في إنهاء العهد الملكي وتحويله إلى جمهوري.
تولى محمد نجيب الحكم، أما عامر فأصبح القائد العام للجيش المصري، وهو المنصب الذي أثار سخط بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.
إذ شعروا بأن عبدالناصر منح عامر هذا المنصب من أجل تعزيز نفوذه. وبالفعل هذا ما حدث؛ إذ دعم عامر، عبدالناصر في عزل محمد نجيب من منصب رئاسة الجمهورية، وتولى عبدالناصر الرئاسة بدلاً من محمد نجيب.
أما عامر، فجمع بين منصبي نائب الرئيس ووزير الدفاع، لكنه ترك المنصب الأول في عام 1965.
وكعادة الصداقات السياسية لم تستمر كثيراً، ففي عام 1962 أعطى عبدالناصر من صلاحياته وسلطاته بنسبة 70% إلى عامر، الذي استطاع أن يخلق دولة ثانية بقيادة الجيش، داخل الدولة الأولى بقيادة عبدالناصر، وقيل إن سبب منح هذه الصلاحيات هو ضمان ولاء عامر له.
استمرت الدولة داخل الدولة حتى 1967 عام وقوع النكسة، الذي جُرِّد فيه عامر من منصبه، وحُمِّل مسؤولية الهزيمة كاملة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال عامر يثق بصديق عمره عبدالناصر، الذي دعاه إلى بيته لتناول العشاء. وهناك كانت المفأجاة: محاكمة غير علنية؛ ومن ثم إلقاء القبض عليه، وتحديد إقامته في فيلا صغيرة بالجيزة.
وهناك قيل إن عامر انتحر بالسم، لكن أسرته رفضت ذلك، وقالت إنه قُتل ولم ينتحر.
الجدير بالذكر أن عامر كتب وصية قبل وفاته بفترة قصيرة، نشرتها مجلة "لايف" الأميركية، وفقاً لموقع "الجزيرة.نت"، ذكر فيها أنه فقد الثقة بجمال عبد الناصر، ولم يعد في مأمن معه، "وإذا جاءني الموت فسيكون الذي دبَّر قتلي هو جمال عبد الناصر، الذي لا يتورع الآن عن أي شيء".
رحل عامر بعد وقوع النكسة، أما صديق عمره فرحل عام 1970.